المسرح يزدهر في الطغيان؟‏!‏

الأربعاء:04. 01. 2006

أحمد عبدالمعطي حجازي

في حديثنا عن ألفريد فرج نحتاج لأن ننتقل بين الماضي والحاضرrlm;,rlm; وبين الفن والواقعrlm;,rlm; وبين المسرح والفلسفةrlm;,rlm; والمسرح والسياسةrlm;,rlm; والمسرح والشعرrlm;.rlm; ولنبدأ حديث اليوم من الشعر الذي اعتبره المدخل الأول لمسرح ألفريد فرجrlm;.rlm; فألفريد فرج شاعر في المقام الأولrlm;,rlm; لكنه شاعر مسرحي يتمثل شعره في مسرحهrlm;,rlm; ويتحقق بشروطهrlm;.rlm;

والشعر أنواع ثلاثةrlm;,rlm; أولهاrlm;:rlm; الشعر الغنائي الذي درجنا في ثقافتنا العربية علي أن نعتبره كل الشعر وأن نحصر الشعر فيهrlm;.rlm; لأن العرب القدماء لم يعرفوا سواهrlm;.rlm; وهو الذي يتحقق في القصيدةrlm;,rlm; وينطق فيه الشاعر بلسانه هو ويعبر عن عواطفه وأفكارهrlm;,rlm; ويتحدث عن مغامراته وتجاربهrlm;.rlm; وإذن فهو أقدم شكل شعريrlm;,rlm; لأنه أول النطقrlm;,rlm; وأول الوعيrlm;,rlm; وأول اللغةrlm;.rlm; وكان الشعراء القدماء في العالم كله يغنون قصائدهم بمصاحبه آلة من الآلات الموسيقية أو ينشدونها انشادا وينغمونها بأصواتهم إذا لم تسعفهم الآلات المصاحبةrlm;.rlm; لأن الكتابة لم تكن قد ظهرتrlm;,rlm; ولم يكن التدوين شائعا في المجتمعات القديمةrlm;,rlm; ولهذا كان لابد أن تحفظ القصيدة عن ظهر قلبrlm;,rlm; وأن تعتمد علي الذاكرة وحدها مستعينة علي ذلك بالموسيقي التي كانت تساعد علي الحفظ والاستظهارrlm;.rlm; ومن هنا سمي هذا الشعر الشعر الغنائي

النوع الثانيrlm;:rlm; هو الشعر الملحمي الذي نشأ مع نشأة الجماعة المنظمة وظهور الروح القومية التي استشعرت الحاجة لرواية تاريخها والتغني بأمجادها وحفظ مآثرها وفضائلها تراثا للأجيال القادمة علي نحو مانري في الالياذة اليونانيةrlm;,rlm; والانيادة الرومانيةrlm;,rlm; والشاهنامة الفارسيةrlm;.rlm; لكننا لم نعرف الشعر الملحمي في تراثنا العربي الفصيحrlm;,rlm; وإنما عرفناه في سيرنا الشعبية

النوع الأخيرrlm;:rlm; هو الشعر المسرحي الذي نعبر فيه عن شعورنا بالتمزق وعجزنا في مواجهة القوي المحيطة بنا وصراعنا مع القوانين التي تفرض علينا وتتحكم في مصائرناrlm;.rlm; صراعنا مع انفسناrlm;,rlm; وصراعنا مع الجماعة التي ننتمي لهاrlm;,rlm; وصراعنا مع الطبيعة والقدرrlm;.rlm; ومن الواضح أن المسرح لايمكن أن يظهر إلا في مجتمع نضج وعيه وأصبح قادرا علي التفكير والتمييز ومساءلة نفسه ومواجهة مايحيط بهrlm;.rlm;

من هنا اتصل المسرح بالفلسفةrlm;,rlm; واتصلت الفلسفة بالمسرحrlm;.rlm; فالشاعر المسرحي ارستوفانيس الذي عاش في القرن الخامس قبل الميلاد وعاصر سقراط يصور هذا الفيلسوف الشهير في مسرحيته السحب في هيئة السفسطائي المضلل المجدف الذي يسيء إلي الآلهة ويتكسب بتعليم الشبان فن الجدل لا ليساعدهم في الوصول إلي الحقيقةrlm;,rlm; بل ليعلمهم كيف ينحازون للباطل ويلبسونه ثوب الحقrlm;!rlm;

والفلسفة في المقابل تستفيد من المسرح وتأخذ عنه شكل الحوار في طرح الأسئلةrlm;,rlm; وامتحان الاجاباتrlm;,rlm; كما نجد في محاورات أفلاطون التي صور فيها حياة استاذه سقراط كما عرفهrlm;,rlm; وجعله يناقش فيها الاتهامات التي وجهها له خصومهrlm;.rlm;

الشعر المسرحي ليس تعبيرا عن التسليم والاذعانrlm;,rlm; وإنما هو تعبير عن الشك والرفض والمقاومةrlm;,rlm; والتحديrlm;.rlm; ولهذا ازدهر في اليونان القديمة مع ازدهار الفلسفة وظهور الديمقراطية ولهذا تراجع وتهافت في العصور الوسطي التي حكمت فيها الدولة باسم الدين فاستعبدت الناسrlm;,rlm; وصادرت الرأيrlm;,rlm; وحاصرت الابداعrlm;.rlm; ثم عاد للازدهار في العصور الحديثة التي استعاد فيها العقل مكانهrlm;,rlm; وانتصرت الديمقراطيةrlm;,rlm; وانفصلت الدولة عن الدينrlm;,rlm; وسقطت الامبراطوريات المقدسةrlm;,rlm; وأصبحت حرية التفكيرrlm;,rlm; والتعبيرrlm;,rlm; والاعتقاد مكفولة للجميعrlm;.rlm;

هذه العلاقة بين المسرح والعقل والمسرح والديمقراطية قد لاتكون واضحة بالنسبة لناrlm;,rlm; فقد ازدهر المسرح المصري تأليفا وتمثيلا وتجريباrlm;,rlm; واتسع نشاطهrlm;,rlm; وتضاعف جمهوره في الخمسينيات والستيتيات من القرن الماضي وهي عهد من عهود الطغيان والغوغائية عاني منه النشاط الثقافي كلهrlm;,rlm; ومن ضمنه النشاط المسرحي الذي تعرض مرات عديدة للمنع والمصادرة لأسباب سياسية أحيانا ودينية أحيانا أخريrlm;.rlm; فكيف نفسر ازدهار المسرح المصري في تلك السنوات؟

نفسره بغياب الوعي والانسياق وراء الوهم وتصديقه والانفعال به كأنه حقيقة ثابتةrlm;.rlm; والحياة الانسانية لاتنبني علي الحقائق وحدهاrlm;,rlm; بل تنبني أيضا علي الأوهام والاكاذيبrlm;.rlm; أروع كونشرتوات بتهوفن وهو الكونشرتو الخامس الذي ألفه للبيانو والأوركسترا كان تعبيرا عن اعجاب بتهوفن برجل ظنه بطلا من أبطال الحرية والديمقراطية وهو نابليون بونابرت الذي تخلي عن مباديء الثورة وخرج علي النظام الجمهوري وتحول إلي امبراطورrlm;,rlm; فسقط في نظر بتهوفن وظهر علي حقيقته فمحي بتهوفن اسم نابليون من مدونته الموسيقيةrlm;,rlm; واعتبره ميتاrlm;,rlm; وأهدي الكونشرتو إلي ذكراهrlm;!rlm; والخرافات التي قامت عليها الحضارات القديمة والجديدة أكثر كثيرا من الحقائق الموضوعيةrlm;,rlm; فليس عجيبا إذن أن يزدهر المسرح المصري في عهد من عهود الطغيانrlm;.rlm;

لقد كنا في ذلك الوقت نعتقد أن الديمقراطية ليست قضيتنا الأوليrlm;,rlm; وإنما قضيتنا الأولي هي التصدي للقوي الاستعمارية من جانب وللرجعية المحلية من جانب آخر هذه الشعارات التي جندت لترديدها وترويجها كل أجهزة الدولة منحتنا شعورا زائفا بالقوة والبأسrlm;,rlm; وجعلتنا أندادا للقوي الكبريrlm;,rlm; أحرارا بدون ديمقراطيةrlm;,rlm; منتصرين بالخطب والاغاني والمقالاتrlm;.rlm; لكن التجارب الأليمة سرعان مافتحت عيوننا علي الحقيقة الفاجعةrlm;,rlm; وهي أننا ضعفاء مستعبدونrlm;.rlm;

في هذا الإطار يمكننا أن نفسر ازدهار المسرح المصري في الخمسينيات والستينيات من القرن العشرين وتراجعه في العقود الأخيرةrlm;.rlm; أن نفهم الأسباب التي ساعدت علي ظهور هذه الكوكبة المتميزة من المؤلفين والممثلين والمخرجينrlm;,rlm; والأسباب التي أدت إلي اختفائها دون أن يظهر بعدها جيل جديد يعوضها ويحفظ تراثهاrlm;.rlm; وفي هذا الاطار أيضا نستطيع أن نعرف الكثير عن الأسماء التي تألقت في تلك السنوات الصاخبة الحافلة بالآلام والأوهام والأحلامrlm;,rlm; وفي مقدمتها ألفريد فرجrlm;.rlm;

في الفترة التي ظهرت فيها مسرحياته الاولي كان سؤال الهوية القومية مطروحا علي المثقفين المصريين بقوةrlm;,rlm; فمن نحن؟ وماهي ثقافتنا القومية؟ ولأي تاريخ ننتسب؟ لماضينا القديم الذي تنكرنا لنا؟ أم للعصور الوسطي التي نتشبث بها؟ أم للعصور لحديثة التي لم ندخلها بعد؟rlm;.rlm;

وفي تلك الفترة ايضا كان سؤال الحرية مطروحا علينا بقوةrlm;.rlm; فماذا نقصد بالحرية؟ ولمن نطلبها؟ للفرد أم للجماعة؟ وهل تمنح الحرية أم تنتزع؟ وهل هي بداية أم خاتمة؟ وهل تكون حرية بلا خبز؟ وهل يكون خبز بلا حرية؟rlm;.rlm;

ولقد اجاب الفريد فرج علي هذه الاسئلة الجواب الذي نتوقعه من فنان مصري ومناضل يساري واسع الثقافةrlm;,rlm; لكن جوابه الاعمق والامتع يتمثل في اختيارته الفنية قبل ان يتمثل في انتماءاته الفكريةrlm;.rlm; فالفريد فرج في المقام الأول شاعر مسرحيrlm;.rlm;