التيارات الاسلامية تتقدم في سورية: الأرياف السورية تغذي المدن بالمتشددين
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على تويتر
إضغط هنا للإشتراك
1ـ 2
التيارات الاسلامية تتقدم في سورية والسلطات تشن "عمليات إستباقية" ضد بؤر تكفيرية
دمشق - ابراهيم حميدي
يطرح اعلان السلطات السورية عن تفكيك عدد من "الخلايا التكفيرية" في الفترة الاخيرة العديد من الاسئلة, تبدأ من مدى جدية الخطر الاسلامي في هذا البلد الذي كان اتكأ نظامه السياسي "العلماني" في سنوات طويلة على العقيدة القومية الاشتراكية - اليسارية وتنتهي هذه الاسئلة بمدى قدرة السلطة على الحفاظ على المارد الاسلامي في القمقم.
وفي اول مرة منذ انتهاء المواجهات العنيفة بين السلطة والاسلاميين في منتصف الثمانينات، اعلنت الحكومة السورية في نهاية نيسان (ابريل) 2004 عن احباط محاولة "مجموعة تخريبية" للاعتداء على مقر قديم تابع للامم المتحدة في حي المزة جنوب دمشق. ثم بث التلفزيون الرسمي بعد ايام مقابلات مع اثنين من منفذي العملية، قالا فيها انهما ارادا "دفع الظلم عن المسلمين". واكدت المصادر الرسمية ان ثلاثة من افراد المجموعة الاربعة، ذهبوا الى العراق للقتال بعد سقوط نظام الرئيس صدام حسين في ربيع عام 2003. وكان بين افراد المجموعة ايمن شلاش الذي رشح نفسه عن حزب "البعث" الحاكم الى انتخابات البرلمان السوري في ربيع عام 2003.
وكانت حادثة المزة بمثابة قرع ناقوس خطر يذكر بالخطر المحتمل من "العراقيين العرب" على غرار ما حصل في تجربة "الافغان العرب" الذين عادوا الى بلادهم بعد تجربة في "الجهاد" ضد السوفيات.
لكن رد عدد من الحكومات الغربية ومن الديبلوماسيين في دمشق، كان مشككاً بمدى جدية تعرض سورية الى "خطر الارهاب الاسلامي"، بل ان ناطقاً اميركياً قال ان العملية "صنعت محلياً" كي تقول الحكومة السورية انها "في خندق واحد مع العالم في مكافحة الارهاب، وليست مصدرة للارهاب"، بحسب التعريف الاميركي.
وبقيت هذه التساؤلات مرافقة الصحافيين والديبلوماسيين في كل اشتباك مسلح بين مجموعات متشددة و "قوات مكافحة الارهاب" السورية في النصف الثاني من عام 2005، لاسباب عدة بينها ان العمليات كلها "استباقية" من جانب الأمن ولان اسماء "الارهابيين" الذين سقطوا في العمليات غالباً ما ظلت غير معروفة، اضافة الى موضوع التوقيت السياسي، ذلك ان الاعلان عن العمليات تصادف في الغالب مع تعرض البلاد لذروة من الضغوط السياسية الخارجية.
وفي منتصف 2005، حصلت اولى العمليات، لدى محاصرة أجهزة الأمن "خلية ارهابية" في حي دف الشوك الدمشقي، تابعة لـ "تنظيم جند الشام للتوحيد والجهاد" الذي يظهر اسمه للمرة الأولى في الخطاب الرسمي السوري.
وفي منتصف حزيران (يونيو) الماضي، نشرت صحيفة "الثورة" الحكومية وبث التلفزيون الرسمي اعترافات لأشخاص قيل انهم اعضاء في "الخلية". لكن اللافت، ان التلفزيون عرض للمرة الاولى منشورات لـ "جند الشام" تدل على ان هذا التنظيم يحمل "مشروعاً" عقائدياً وسياسياً وعسكرياً ضد الانظمة السياسية والقوانين الوضعية في "بلاد الشام" واقتراحاً عنفياً ودعوياً لتأسيس "امارة اسلامية" أو "خلافة" في كل من سورية، والأردن، ولبنان، وفي العراق بلاد الرافدين التي يحتلها "الصليبيون"، بحسب ما جاء في المنشورات التي تحدثت عنها المصادر الحكومية.
منذ ذلك الحين، بات الاعلام الرسمي يعلن بين الفينة والاخرى عن "عملية دهم" لتفكيك "خلية تكفيرية" بدءاً من دمشق ومروراً بمدنية حماة وانتهاء بمدينتي حلب وادلب في بداية كانون الأول (ديسمبر) الماضي. هذه المدن التي شهدت اعنف المواجهات بين السلطات الرسمية وتنظيم "الاخوان المسلمين" بين نهاية السبعينات وبداية الثمانينات.
والرابط بين جميع العمليات، هو اكتفاء السلطات باصدار بيان رسمي مقتضب تبثه "الوكالة السورية للانباء" (سانا) مع بث مجموعة من الصور لمخازن اسلحة واحزمة ناسفة ومتفجرات، مقابل صعوبة أو استحالة "التحقق" من مدى صدقية ما يحصل وتوقيت حصوله فبقي العمل الاعلامي محصوراً بالاستناد الى المصادر الرسمية وتردد شهود العيان بتقديم روايتهم.
وكان لافتاً ان البيانات الرسمية، انتقلت من وصف المجموعات المتطرفة بـ "المجموعات التخريبية" الى القول انها "خلايا ارهابية" تابعة لـ "تنظيم جند الشام". ثم عادت وقالت بعد المواجهات الاخيرة انها "خلايا تكفيرية" كانت "تخطط لاعمال ارهابية". ولم تعرف خلفية هذا التغيير في الخطاب الرسمي والفرق بين "التخريب" و "التكفير" و "الارهاب".
ويعتقد خبراء عرب في الجماعات الاسلامية المتشددة، ان تنظيم "جند الشام" أسسه سوريون وفلسطينيون واردنيون في افغانستان في التسعينات، وانه مرتبط بتنظيم "القاعدة في بلاد الرافدين" في العراق بزعامة ابي مصعب الزرقاوي.
ومن الصعب معرفة ما اذا كانت هناك أي علاقة بين "جند الشام" وتنظيمات اخرى تحمل اسماء مشابهة. اذ تبنى تنظيم يحمل اسم "جند الشام" العملية الانتحارية التي نفذت في مسرح مدرسة بريطانية في الدوحة في بداية اذار (مارس) الماضي.
واعلن عام 2004 عن تنظيم يحمل اسم "جند الشام" في مخيم عين الحلوة في لبنان. كما ان بياناً وزع باسم "جماعة النصرة والجهاد في بلاد الشام" بتبني اغتيال الرئيس الحريري في شباط (فبراير) الماضي، لم تصدقه جهات لبنانية وعربية ودولية.
أعضاء جلسات الحوار المسيحي - الاسلامي في سورية
مزرعة "تكفيرية" ... وفيلسوف الشك
بحسب المصادر الرسمية، فان العملية الاخيرة التي حصلت في مزرعة في قرية الحامدية التابعة لمدينة معرة النعمان مسقط رأس الفيلسوف المتشكك ابو العلاء المعري في محافظة ادلب، كانت الاشد قسوة لأنها تناولت "مقراً رئيسياً للمجموعات الاصولية" الامر الذي ادى الى سقوط ثمانية قتلى، ثلاثة منهم فجروا انفسهم بـ "احزمة ناسفة" بالطريقة نفسها التي يستخدمها ارهابيو العراق وارهابيو التفجيرات المتزامنة في الفنادق الاردنية الثلاثة في تشرين الثاني (نوفمبر) 2005.
وقالت مصادر مطلعة ان قوات الامن السورية وصلت فجراً الى المزرعة الواقعة على الطريق السريع بين دمشق وحلب، وطوقت المكان ثم "طلبت من الجميع الاستسلام مرة أولى، فرفضوا. فتم طلب طائرة حوامة لاظهار القوة والجدية مع تقديم طلب اخر بالاستسلام. لكنهم رفضوا الاستسلام، بل باشروا بتوجيه كلمات حادة لقوات الامن ونعتهم بالكفرة".
وهناك اعتقاد واسع ان الكشف عن هذا المقر جاء في اطار الجهود الرسمية السورية لـ "محاربة الجهاديين" الذي يريدون قتال الاميركيين في العراق، ذلك ان دمشق ارادت ارسال اشارات ايجابية الى الاميركيين والبريطانيين بأنها "تفكك شبكات دعم التمرد" في العراق، في وقت تتعرض فيه لضغوط دولية في شأن التحقيقات في اغتيال الرئيس رفيق الحريري.
واعرب مصدر ديبلوماسي غربي عن الاعتقاد "ان المقر كان يستخدم لتهريب الاسلحة الى العراق". لكن المصادر الرسمية تقول ان اكتشاف هذا "المقر التابع لتنظيم اصولي عربي" جاء نتيجة اعترافات شخصين كانا اصيبا بجروح بالغة في عملية دهم أجريت قبل يومين من تلك العملية، في حي "النقارين" في حلب، الامر الذي ادى ايضاً الى اكتشاف مصنع للمتفجرات في تلك المنطقة التي تصل بين شمال سورية ووسط العراق. كما ان "الوكالة السورية للانباء" (سانا) اشارت الى ان مجموعة حلب كانت تخطط لاستهداف مسؤولين ومواقع رسمية في سورية.
وفي مقابل هذه العمليات المعلنة، يعتقد بوجود عمليات اخرى لم تعلن لاسباب امنية. لكن لا شك في انها بعض من الأدلة الملموسة على بدء بؤر متعصبة بالخروج من عباءة المجتمع المتأسلم في سورية العلمانية - القومية، مع الاشارة الى ان شهر حزيران (يونيو) سجل اغتيال الشيخ المتنور معشوق الخزنوي بعد نحو اسبوعين على خطفه من وسط دمشق.
ويضع النائب الاسلامي محمد حبش اغتيال الخزنوي ضمن سياق ميل السلفيين والمتشددين الى فرض الاجندة الخاصة بهم سواء في دائرتهم الاضيق من الاسلاميين ام في الدائرة الأوسع من غير المحافظين. ويقول حبش انه كان تلقى تهديداً بالقتل عبر هاتفه النقال، قبل ايام من خطف الخزنوي على خلفية "الافكار التنويرية والمناهضة للتعصب" التي يحملها ويدعو اليها سواء في كتاباته أم في منشورات "مركز الدراسات الاسلامية" التابع له أم حتى عبر خطب يوم الجمعة في جامع "الزهراء" في احد احياء المزة، جنوب دمشق. ويوضح ان الكشف عن "جند الشام" واغتيال الخزنوي "يقعان في السياق نفسه، أي التعصب الديني".
في المقابل، اتهمت صحف غربية عدة بينها "كريستيان ساينس مونتور" في حزيران الماضي جهات امنية بعملية الخطف والاغتيال على خلفية لقاء الخزنوي مع المراقب العام لـ "الاخوان" في بروكسيل في شباط (فبراير) 2005، علماً ان تنظيم "الاخوان" محظور في سورية بموجب القانون 49 للعام 1980.
وعزت مصادر ديبلوماسية غربية التخلص من الخزنوي الى انه "نقطة التقاطع" بين ثلاثة عناصر: الشارع المتأسلم، و "المعارضة" السياسية التي تفتقر الى شعبية واسعة، والاكراد السوريين المنظمين في نحو 13 حزباً سياسياً غير مرخص والذين يتميزون ببعد اقليمي عبر المكاسب السياسية لهم في العراق ودولي عبر التأييد الشعبي لهم في دول أوروبية. غير ان الحكومة نفت ذلك، واكدت ان عملية خطف الخزنوي من دمشق ثم التعذيب والقتل كانت لاسباب جرمية وفق اعترافات خاطفي الشيخ قبل كشف جثته مدفونه في قبر في مدينة دير الزور شمال شرقي البلاد.
وحبش الذي أسس "مركز الدراسات الاسلامية"، واحد من الذين يتابعون التحول في المجتمع السوري نحو التأسلم في بلد طالما اعتبر علمانياً وكافح كي يكون قومياً وتقدمياً وعلمانياً.
وكان قال لـ "الحياة" انه يعتقد ان 80 في المئة من السوريين محافظون و 20 في المئة اصلاحيون وان واحداً في المئة فقط هم من المتعصبين. لكنه يحذر من ان "الثمانين في المئة ليس لديهم أي مشروع سياسي، وعندما يفكرون بالسيــــاسة يبحــــثون عن قائد أو شيخ، ربما يكون من الاصلاحيين أو المتشددين".
وقال خبير رسمي: "ليس كل المحافظين يبــــحثون عن قائـــــــد أو شــيـــــخ، فالتـــيار الذي يطالب بالتعددية والديـــموقراطية منــــتشر بين المحافظين والاصلاحيين على حد سواء".
ويرى آخرون ان السوريين بطبيعتهم محافظون في الغالب وان الفكر القومي جاء في نهاية القرن التاسع عشر لدى ترهل "الرجل المريض أي تركيا العثمانية" وبدء انهيار الامبراطورية العثمانية التي يرى مفكرون اسلاميون انها مثلت نحو اربعة قرون من "امتداد الخلافة الاسلامية".
دلالات رمزية
مراقبة التحولات الظاهرية على ملامح البلاد والعباد ترجح الاعتقاد بأن سورية الدولة ذات العقيدة العلمانية - القومية تزداد اسلامية، أفقياً وعمودياً. ويمكن ملاحظة ذلك بالدلالات الرمزية عبر ارتداء الحجاب وتحول الكثير من المكتبات الى اقتناء الكتب الاسلامية بدلاً من كتب التنظير الشيوعي والروايات "السوفياتية". بل ان المكتبة الكبيرة التي تقع قبالة المركز الثقافي الروسي في "شارع 29 ايار" وسط دمشق، صارت الآن من اكبر المجمعات المختصة في بيع الكتب الدينية وأحدث وسائل الاتصال لنشر التربية الدينية، بعدما كانت مكتبات هذا الشارع زاخرة بالكتب الماركسية, ورواده متفلتون من الكثير من القيود الاجتماعية.
الإقبال على المكتبات في دمشق يتزايد ولم يعد مقتصراً على الكتب الرسمية والحزبية
وبالتزامن مع تآلف السوريين مع مشهد شبان يرتدون الجلابية القصيرة ويطلقون اللحية كرمز لـ "السلفية الاسلامية"، استعجل معظم مطاعم نهر بردى ومنطقتي عين الخضراء وعين الفيجة في ضواحي العاصمة الاقلاع عن تقديم المشروبات الكحولية وتخصيص اماكن للعائلات احتراماً للتقاليد المحافظة، وتنافست هذه المطاعم في تعليق صور كبار شيوخ البلاد في صدر اماكن التسلية والطعام. كما ان شهر رمضان الاخير شهد للمرة الأولى قيام الدمشقيين في الاحياء الغنية بتعليق صور رموز دينية اسلامية على شرفات منازلهم، بينما كان رمضان العام الماضي سجل سجن مواطن في بلدة جرمانا التي يقطنها مسيحيون، لأنه كان "يخرق الآداب العامة" بتدخينه سيجارة خلال صيام الاخرين.
وتزداد هذه الدلالات وضوحاً كلما ابتعدنا عن دمشق، وكلما توغلنا في الريف السوري وفي تلك المناطق التي كانت ساحات للمواجهات بين تنظيم "الاخوان" والسلطة.
وكانت "الحياة" سجلت بدء تلاشي الوان الشعار الذي كتب على احد الجدران الكالحة، بالأحمر: "سنسحق عصابة الاخوان المسلمين العميلة للامبريالية والصهيونية"، مقابل ظهور شعارات جديدة على الطريق السريع الذي يربط العاصمة بمدينة معرة النعمان. هذه الشعارات الجديدة التي كتبت بلون اخضر فاقع تحمل عبارات اسلامية مثل: "لا تنس ذكر الله" و "صلّ على النبي"، وحلت هذه العبارات مكان الشعارات التي تتحدث عن العلمانية والشيوعية والقومية مثل "لا حياة في هذا القطر الا للتقدم والاشتراكية". والى جانب هذه اللافتات الجديدة، تزداد القبب الخضراء عدداً في القرى والمدن السورية، بل انها تزداد فخامة وضخامة على جانبي الطريق السريع. يضاف الى ذلك، ان اكرم الجندي، وهو من اهالي معرة النعمان واول سوري يحصل على ترخيص تلفزيون خاص منذ "التأميم الاعلامي" في بداية الستينات، متمسك ببث برامج تلفزيونية دينية في قناته التي حصل على رأسمالها البالغ 12 مليون دولار اميركي، من سنوات اغترابه في دول الخليج العربي.
ولدى الدخول الى احياء القرى والمناطق الريفية يساعد سماع قصص فردية على فهم ما يحصل. ففي قرية "اورم الجوز"، احدى قرى جبال الزاوية الوعرة التي كانت معقلاً لـ "الاخوان" ومسرحاً للمواجهات المسلحة، كان من الممكن للشاب محمد النوري ان يشهر شيوعيته مثلاً، وان يتجرأ على تحدي العادات والتقاليد في الملبس والمأكل. شعائر الصيام مثلاً لم تكن ملزمة، وحجاب الفتيات لم يكن شائعاً. أما الآن، فصار الشاب المتمرد نفسه، شيخاً أو على الاقل رجلاً محافظاً متمسكاً بالتقاليد، ويعتقد بأن "الاسلام هو الحل البديل" عن الشيوعية التي تعلمها سواء من الكتب الجامعية في الاتحاد السوفياتي المنحل ام من الكتب الرخيصة التي كانت تهدى الى الناشئة السورية.
قصة محمد، الذي بات الان في الخمسينات، تحكي قصة جيل بأكمله في سورية. محمد كان درس في موسكو في الثمانينات ثم عاد "الاستاذ" محمد محملاً بالتمرد لنشر "العلمانية" في قريته. لكن بعد عقدين، استسلم الى قوة المجتمع وسلطة العادات. بل ربما صار متقدماً في تدينه على صديق الشباب احمد يوسف، الذي عاد بعد عشر سنوات امضاها في السعودية، محملاً بالشعائر الاسلامية المحافظة مع بعض الملامح السلفية والكثير من العادات الخليجية في اللبس والممارسات اليومية.
في السابق، كانت المنافسة بين الشابين "المتمرديْن" محمد واحمد تقوم على الحفر في الجدار المتين للتقاليد والعادات لان الحماسة كانت عالية والحلم في التغيير اكبر من طاقة البيوت المتناثرة في القرية. اما الآن، فبات التسابق عكسياً، وهو باتجاه تدعيم جدار التقاليد والمزيد من الصرامة الدينية. وبالتالي اصبح الشاب "الفاضل" - بحسب تصنيف المجتمع المحلي - هو ذاك الذي يمضي وقتاً اكثر في الجامع الكبير الذي بني في السنوات الاخيرة قرب الطريق السريع ليراه كل من يعبر بسيارته بين اللاذقية الساحلية وحلب، ليحل بدلاً من مسجد قديم كان موجوداً في زاوية بعيدة في القرية، وليقول لملايين البشر الذي يعبرون بسياراتهم: انظروا كم نحن مسلمون.
"الحاج" احمد، كما سمي لدى عودته من الاغتراب الخليجي، كان سباقاً لجمع التبرعات لبناء مسجد "الايمان" الضخم على تلة في اورم الجوز. و "الشيخ" محمد يرسل ابناءه الأربعة الى هذا المسجد بعدما كان يطمح ببناء مركز ثقافي أو مستوصف كبير على احدى تلال القرية. الصغيران يصومان في رمضان. والفتاتان ارتدتا الحجاب قبل ان تبلغا العاشرة من العمر. وللتذكير فقط، فإن هذا "الشيخ" كان يخطط في شبابه في ثمانينات القرن الفائت للزواج من "سوفياتية" وانجاب فتيات سافرات أو ليبراليات، تماماً كما حصل مع بضعة آلاف من السوريين درسوا في دول الكتلة الشرقية.
ببساطة فإن مسيرتي هذين السوريين في العقدين السابقين هي نموذج لملاحظة التحول في أوساط جيل بذلت دولته مساعي حثيثة لتحويل المجتمع الى مدني وعصري، لكن تلك المساعي بقيت قاصرة وأدت في الواقع الى نتائج معاكسة.
* غداً جزء ثانٍ من التحقيق