جريدة الجرائد

إدارة العمل السياسي

قرائنا من مستخدمي تلغرام
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال تطبيق تلغرام
إضغط هنا للإشتراك

الأربعاء:18. 01. 2006

عاطف الغمرى

هل تدخل السعادة ضمن المهام السياسية للدولة؟ بعض الدراسات السياسية في الغرب طرحت سؤالا حاولت أن تجيب عنه هو: هل توجد شعوب سعيدة وشعوب تعسة؟قد يقول قائل، ما للسياسة والمشاعر الانسانية والمزاج النفسي؟ وربما تكون هموم الشعوب ومشاكل الحكم والسياسة قد جعلت الأذهان تفصل هذا عن ذاك، على حين أن من الأمور التي استقرت تاريخيا لدى كثيرين من علماء السياسة، في الغرب ان تحقيق السعادة هو هدف عام للدولة، بل وأيضا عند علماء السياسة العرب، فالفيلسوف الفارابي يقرر ان خير الانسان وسعادته هما غاية للدولة، والفارابي هو من يوصف بأبي الفلسفة السياسية الإسلامية، المهتم بالبحث في الدولة الأفضل، ومن مؤلفاته العديدة كتب السياسات المدنية، وتحصيل السعادة.

وكانت مقاييس الشعور بالسعادة تركز على حجم حالات الفقر، والأمراض، وتدني التعليم، ومستويات المعيشة، لكنها أخذت ترصد ظواهر انقلاب خصائص مجتمع من النقيض الى النقيض، في خروج احتجاجي على الطبائع المجتمعية، وعلى الشخصية القومية، كما ترصد استطلاعات الرأي حين تتكرر فيها معاني الاحباط، والسخط المجتمعي، والاحتقان، والقهر، في تراكمات تطحن الشعور بالرضا.

لذلك فكلمة الشعور بالسعادة كهدف سياسي، ليست عبارة مطلقة، لكنها جزء من ادارة العمل السياسي في الدولة.

وربما كان مما زاد من الاهتمام بهذا المعني مؤخرا، ما بدأ يظهر من ادخال لغة السياسة الخارجية الأمريكية، في مفرداتها، كلمات تتعلق مباشرة بمعنى السعادة، مثل: الاحباط، والاستياء، وخيبة الأمل، وهي التي تكررت في خطب الرئيس بوش، ووصفها بأنها تولد السخط والكراهية، وتفرز العنف، وتصدره.

كذلك ميل دراسات سياسية الى اعتبار المزاج النفسي في مجتمع بكامله، محركا للسياسات، أو مؤثرا في تشكيل التوجه الجماعي للرأي العام، في بعض المجتمعات والدول.

وبصورة عامة فإن للسعادة شروطا تتحقق بها، فإذا لم تتوافر، انتفى شرط من شروط وفاء الحكومة بمهامها، في سبيل تحقيق هذا الهدف العام، فالسياسات على اختلافها تصب في ناحية ايجاد الشعور بالرضا والسعادة، من خطط التعليم، ونشر الآداب والفنون، الى حل مشاكل البطالة والاسكان والصحة، وقدرة الفرد على بناء الأسرة، الى حالة المرور، والطرق، والشعور بالسلامة والأمان.

وهذه الشروط تدور في اطار هذه العناصر الرئيسية:

(1) ألا يشعر الانسان بالقهر، وكأنه يتصرف وفوق رأسه سوط يلهب ظهره حتى ولو كان سوطا وهميا لكي ينضبط في سياق المطلوب منه أن يفعل ماهو مرغوب منه، وليس ما يرغب هو فيه، فحين لا يتصرف بارادته الحرة، ليس بتحييد إرادته تحت ضغط حقائق تملى عليه، فإن أول رد فعل تحت لسعات السوط القهري، هو الشعور بالخوف، وإذا شاع هذا النوع من الخوف، واستدام لعشرات السنين، لأوجد مجتمعا محبطا تعيسا شقيا.

(2) غاية الانسان في الحياة هي تحقيق ذاته، وسعيه الى تأكيد قدراته، مادام امتلكها، وتميز بها، والحصول على اعتراف مجتمعه له بها، ثم إفساح الطريق أمامه دون سدود، وقيود، ومعوقات، ليتبوأ المكانة التي تؤهله لها قدراته الذاتية.

وهذا لا تكون له نتائج فردية فحسب، بل أيضا نتائج مجتمعية، فمن خلال سعي الجميع نحو هدف تأكيد الذات وتحقيق الوجود تتلاقى كل هذه الخطى، تقابلا واحتكاكا، في عملية تفاعل إنساني، يفرز أفضل مالدى الجميع، بما يحقق تقدم الحياة للكل.

(3) شعور الانسان بأنه شريك في مجتمعه، فلا يفاجأ بقرارات فوقية، تشعره بالانعزال، أو بأنها تزيحه من دائرة صنعها وتكون طاردة له، فحين تتاح لهذه القرارات فسحة كافية من الوقت، يقرأ عنها، ويسمع، ويتابع، ويستوعب، ويتأمل، ويوازن بين جميع الرؤى والتصورات حتى ولو لم يكن شريكا مباشرا فيها عندئذ فهو يعايش عملية ولادة تدريجية وطبيعية للقرارات، فيترسخ لديه شعور بالرضا عنها، وهو مدخل الى الشعور بالسعادة.

(4) السعادة تتحقق بوجود أمل مرئي في المستقبل، حتى ولو كان محلقا في الأفق البعيد، أما حين يخلو منه الأفق، فالانسان تظلله غمامة داكنة، تنقل اليه شعورا بالاكتئاب.

ان الشعور بالسعادة كوظيفة أساسية للحكم يكتمل بوجود عدد من العوامل المكملة مثل:

* التوافق العام للسياسات، التي يكون لها خط واضح للمدى البعيد، بالنسبة لما تنوي ان تحققه من خطوات بعضها مقرر للأجل القصير، وبعضها مداه الزمني للأجل الطويل، هنا يكون الهدف واضحا لعين الشعب، ويكون الهدف على هذه الصورة، بمثابة نقطة الضوء البعيدة، عند شاطئ، تهدي وترشد سفينة الحكم والسياسة، وتجمع حولها انظار الرأي العام.

* انسجام الخطى وعدم تعثرها بين متناقضات من خطوة لأخرى، تكون على النقيض من الأولى، فيحدث التعثر، ويضيع الهدف من مرمى العين، ويفقد الانسان خاصية الاستقرار والأمان.

* الثقة الكاملة في العملية السياسية، وبأنها جاذبة، وليست طاردة له، لأن وجوده في قلب هذه العملية يسبغ عين شعور الرضا، بينما هو غير سعيد، سواء أبعد عنها غصبا، أو انعزل عنها طواعية واختيارا، لأنه في النهاية يؤمن بأنه جزء من هذا الكيان.

ويكتمل شعور المواطن بالرضا والسعادة، في عصر دخلت فيه، في عقر داره، وسائل نقل المعلومات، كما يجري في العالم، من الفضائيات، والانترنت، والفاكس، والمحمول، بأنه ليس في جزيرة معزولة عن هذا العالم، وليس حالة نشاز، بالنسبة لما يحكم الآخرين في هذا العالم من قواعد، وقوانين ونظم، وبالتالي فهو خاضع لنفس القواعد الجماعية التي ارتضتها الشعوب، كحقوق الانسان، والديمقراطية، وأدلة القانون، والنمو الاقتصادي، والارتقاء بالبشر، وبأنه يلقى المعاملة التي تتوافر لغيره في الدول التي وضعت إرادة المواطن قبل أي اعتبار أو حسابات أخرى، في سياساتها، وقراراتها، ونظرتها لنفسها، والجماعات والقوى الأخرى في الوطن. ان السعادة كهدف عام للدولة، تصبح انعكاسا لما تحقق في مجال رفع مستوى المعيشة، والارتقاء بحياة الناس، وحل مشاكلهم الأساسية واليومية، وازالة المعوقات التي تكدر عليهم حياتهم، وضبط السلوكيات بالقانون، وحرية المواطن في الاختيار، وان يكون شريكا مؤثرا في القرارات التي تخصه وتحسه، والذي كان اختياره للقيادات مشروطا بحسن تعبيرها عنه، وغير ذلك الكثير مما يجعل من تحقيق السعادة، دليلا على حسن إدارة العمل السياسي في الدولة، وهو ما كان سببا في الارتباط الوثيق بين هذا الشعور الرومانسي بالسعادة، وبين مجمل السياسة وأداء الدولة لمهامها.

التعليقات

جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف