تالي اجتازت الحدود من اليمين الاسرائيلي الى جنين
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال تطبيق تلغرام
إضغط هنا للإشتراك
جاد الحاج
ليس من عادات القضاء الاسرائيلي اعتبار الرحمة جزءاً من العدالة، بل طالما كانت القسوة في الاحكام، خصوصاً حين يتعلّق الأمر بالاختراق الفلسطيني للصف الاسرائيلي، نتيجة متوقعة. إلا ان شيئاً غريباً حدث في قضية تالي فهيمة المتهمة "بمساعدة العدو في زمن الحرب ومناصرة مجموعة ارهابية"، ففي الثاني والعشرين من كانون الأول (ديسمبر) المنصرم صدر الحكم على تالي بالسجن ثلاث سنوات، وبما انها كانت موقوفة لأكثر من عام لن تمكث وراء القضبان سوى عشرة أشهر، بعدما وافقت على حلّ وسط مع المحكمة اعترفت بموجبه بأنها "اتصلت بعنصر اجنبي ونقلت معلومات الى العدو وأخفقت في اطاعة الأوامر العسكرية".
خلال محاكمتها ركّز الادعاء على مسألة حساسة كان في مقدوره، لو أثبتها، ان يرسل تالي الى السجن مدى الحياة، وهي ان تالي ترجمت لقائد في كتائب الأقصى مستنداً سرياً يحتوي أوامر باغتيال عدد من الناشطين في "الكتائب". أما تالي فأصرّت على انها صادقت زكريا الزبيدي وأسرته بقيت على مقربة منه كدرع بشري لئلا تغتاله الاستخبارات الاسرائيلية، وان فعلها كان مجرد تعاطف انساني مع ربّ اسرة عرفتها عن كثب. واللافت ان تالي التي طالما وقفت سياسياً الى جانب ليكود اتخذت موقفاً مناوئاً لاحتلال الضفة الغربية وقطاع غزة، بل انتقلت الى السكن في الضفة خلال فترة عصيبة من مطلع عام 2004.
ترعرعت تالي في كريات غات أحد معاقل آرييل شارون حيث تكثر القبعات السود، ويسود الارتياب الجذري من كل ما هو عربي. أسرتها اليهودية الجزائرية لا تختلف كثيراً في موقفها اليميني عن معظم الأسر الوافدة من بلاد عربية وأفريقية، فاليسار بالنسبة الى هؤلاء ترف بورجوازي لليهود الأشكناز.
في الثالثة عشرة من عمرها دخلت مدرسة داخلية في نتانيا وخرجت منها بعد خمس سنوات لتنخرط في الخدمة العسكرية طوال سنتين. وتقول أمها سارة ان تالي التي لم تغيّر موقفها السياسي حينئذ كانت حائرة في أمر مستقبلها بعد انتهاء خدمتها. وعام 2000 انتقلت تالي للعيش في تل أبيب. عملت في المطاعم السياحية هناك، ثم كسكرتيرة في مكتب كبير للمحاماة. وكانت الانتفاضة يومها في أوج غليانها ما عزّز لدى تالي ميولها اليمينية. "كنت خائفة من الانتفاضة" تقول تالي "وأردت ان يموت الفلسطينيون، والانتقام لهجماتهم الإرهابية".
لكن الانتفاضة استمرت، وعلى أثر إحدى العمليات الانتحارية طرحت تالي على نفسها السؤال الصعب: لماذا يقوم انسان بتفجير نفسه على هذه الصورة؟ بحثاً عن جواب دخلت تالي في دوامة من الاتصالات الهاتفية وعبر البريد الالكتروني.
أطلقت على نفسها اسم "البنت الاسرائيلية" وحاورت مئات الأشخاص في فلسطين ولبنان وسورية والسعودية. وقيض لها ان ترى على بعض المواقع العربية تفاصيل دقيقة لعمليات الاغتيال الهادفة التي تقوم بها اسرائيل ويذهب ضحيتها لا المستهدف وحده بل اطفال ونساء وشيوخ شاء القدر وجودهم قرب الهدف الاسرائيلي. ولم يمض وقت طويل حتى تنبهت "شين بيت" الى حجم المخابرات الهاتفية على خط تالي فاستدعتها لـ "الدردشة".
إلا ان التحقيق معها لم يسفر عن شيء، ولا حتى عن تغير في موقفها المبدئي، فما زالت يمينية، ولكنها أرادت ان تعرف ما يجري على الجانب الآخر من الصراع. وذات يوم قرأت في صحيفة اسرائيلية مقابلة مع زكريا الزبيدي وصف فيها الظروف البائسة التي يعيشها الفلسطينيون في الضفة وكيف حولته تلك الظروف من مراهق يرشق المحتل بالحجارة الى رجل مسلح، وأخيراً أبرز القادة في جنين لكتائب الأقصى، يخطط وينفذ عمليات ضد الاسرائيليين ويشجع الانتحاريين، وفي المقابلة روى الزبيدي كيف قتلت اسرائيل أمه وأخاه في جنين عام 2002.
تالي أرادت ان تعرف أكثر. في اليوم التالي اتصلت بالصحافي الذي قابل الزبيدي وطلبت رقم هاتفه. خلال خمس دقائق اتصل بها الزبيدي نفسه. "منذ البداية" قالت تالي "أنا يمينية، انني أكرهكم لكنني أريد أن أفهم". وهكذا "نشبت" سلسلة مخابرات هاتفية بين تالي وزكريا دامت ساعات وساعات ناقشا خلالها شؤون الصراع العربي - الاسرائيلي وشجونه. وأخيراً طلبت مقابلته، علماً بأن الأراضي الفلسطينية خطرة، وبالنسبة إليها كان دخول جنين بمثابة انتحار معلن: "كنت خائفة خوفاً عظيماً. رؤية ذلك العدد من العرب ذكرتني بالجنديين اللذين قتلا في رام الله عام 2001 وشوهت جثتاهما".
مع ذلك وابتداء من 11 أيلول (سبتمبر) 2003 بدأت تالي سلسلة زيارات لجنين. "هل ستقتلني حين أصل؟" سألت الزبيدي في المكالمة الطويلة التي سبقت زيارتها الأولى. "كلا" قال زكريا. وكان في انتظارها مسلحاً ومحروساً بعنصر آخر مسلح. "نظرت الى عينيه وحاولت ان أرى اذا كان سيؤذيني. حدسي كان كل ما لدي. عيناه قلتا أوكي". وللتو أخذها الزبيدي في رحلة استكشافية عبر المخيم حيث شاهدت بقايا المنازل المجروفة وآثار القصف على بقايا البيوت وخزانات المياه. لم تكن تالي، كمعظم الاسرائيليين، تتوقع حجم المأساة على الجانب الآخر للصراع، وقررت أن تقيم مركز حضانة للأطفال في جنين، نزلت ضيفة على أصدقاء الزبيدي وأسرته، ونمت بينها وبينه وشائج صداقة عميقة. "هناك من سيقول ان بيننا أكثر من صداقة" صرّحت تالي لإحدى الصحف الاسرائيلية "لكنهم يقصدون تفادي التعامل مع الحقيقة، حقيقة الاحتلال".
خلال زيارتها الثالثة لجنين صادف قيام الجيش الاسرائيلي بإحدى هجماته. في المعركة أضاع بعض الجنود مستنداً وقع في أيدي "كتائب الأقصى". وفي نهاية أيار (مايو) عام 2004 قبض عليها ووجهت اليها تهمة ترجمة ذلك المستند للزبيدي ورفاقه ما أدى الى انقاذ عدد من المقاتلين الفلسطينيين المستهدفين. تالي أنكرت التهمة منذ البداية. وبعد ستة أيام أطلق سراحها بشرط عدم العودة الى المخيم. لكنها عادت في آب (أغسطس) من العام نفسه فأمر القاضي يوري غورين باعتقالها ضمن قانون مكافحة الإرهاب القائم منذ الاحتلال البريطاني لفلسطين والذي يسمح بثلاثة أشهر سجناً من دون مسوّغ يتعدى الشبهة.
في المحكمة قالت تالي ان الزبيدي "مقاتل من أجل الحرية" وانها لن تخونه وانه لا يخطط للهجمات "حتى وإن فعل. انهم يعيشون تحت الاحتلال. هل تعرفون معنى العيش تحت الاحتلال؟" في المقابل كتب الزبيدي رسائل عدة اليها في السجن ومما قاله في رسالة قرئت خلال المحاكمة: "انهم يخافونك يا تالي، يخافون ان تقودي مئات الأشخاص مثلك الى اجتياز الحدود ورؤية الحقيقة... أتمنى أن نلتقي ثانية في المخيم".
اليمين الذي انتمت اليه طوال حياتها اعتبرها خائنة تستحق الاعدام، واليسار اعتبرها رائدة في مجال كسر الطوق وتعريض حياتها للخطر من أجل الحقيقة. أما هي فكانت تبحث عن حد لضياع الهدف في حياتها. "أفهم تماماً لماذا يعتبرونها خائنة" قالت أمها "ولو لم تكن ابنتي، كنت فكّرت مثلهم بالضبط".