نضال «غاندي كوسوفو» من أجل الاستقلال
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال تطبيق تلغرام
إضغط هنا للإشتراك
رحيل ابراهيم روغوفا
محمد م. الأرناؤوط
يشُيّع اليوم، بحضور ممثلي 36 دولة، د. ابراهيم روغوفا رئيس اقليم كوسوفو، في الوقت الذي كان يجب ان تنطلق فيه الجولة الاولى من مفاوضات الوضع القانوني الجديد لكوسوفو، وهو ما يعني اعترافا دوليا بالاستقلال الحاصل على الارض منذ 1999. ومع هذا الرحيل يمكن ان يتأجل عقد الجولة الأولى عدة أيام وربما عدة أسابيع، ولكن الاستقلال القادم على الطريق خلال هذا العام سيبقى يذكر بالرمز الذي ارتبط به ابراهيم روغوفا.
وكنت في مقالة سابقة "ابراهيم روغوفا: هل المعركة الأخيرة مع السرطان" (الغد 24/9/2005) قد أشرت الى المرض المفاجئ "سرطان الرئة" الذي ظهرت اعراضه في شهر آب الماضي، ولكن كان من المأمول ان يستمر روغوفا عدة شهور ليشهد ما قتل والده لأجله، وما عمل له طيلة العشرين سنة الاخيرة: استقلال كوسوفو عن صربيا.
وكانت صربيا قد احتلت كوسوفو "ذات الغالبية الالبانية المسلمة" في خريف 1912 نتيجة للحرب البلقانية التي انهت الحكم العثماني هناك. وقد قاومت الاغلبية الالبانية هذا الضم, كما انها قاومت ضمها لاحقا الى يوغسلافيا في 1918 وخلال الحرب العالمية الثانية 1941-1944 ضمت كوسوفو الى البانيا فيما عُرف بـ"البانيا الكبرى"، لذلك تجددت المقاومة الألبانية في شتاء 1944-1940 مع ضم كوسوفو الى يوغسلافيا ثانية. وكان ممن اعتقلوا بتهمة المقاومة اوك روغوفا والد ابراهيم الذي حكمت عليه السلطات الصربية/ اليوغسلافية بالإعدام في 10 كانون الثاني 1945 كما نفذت ايضا حكم الاعدام بالجد رستم روغوفا.
في هذه الظروف ولد ابراهيم روغوفا في 2 كانون الاول 1944 أي انه كان في مطلع الشهر الثاني عندما أعدم والده بتهمة المقاومة ضد السلطة الجديدة. ومن المؤكد ان هذا المصير "الذي لقيه والده وجده" بقي مؤثرا في تكوين الطفل ثم الشاب "ابراهيم" لان الاسرة كلها كانت مشبوهة، في نظر السلطة الجديدة. وقد اختار ابرهيم دراسة اللغة الالبانية وآدابها في جامعة بريشتينا، حيث تخرج منها في 1971 ثم تابع دراساته العليا في المجال ذاته حتى أكمل الدكتوراة في 1948.
وفي غضون ذلك كان روغوفا قد عمل في الصحافة ثم انضم الى معهد الدراسات الالبانية, حيث أخذ يبرز بدراساته النقدية من التراث/ الأدب الالباني.
وقد بدأ الظهور السياسي لروغوفا في 1988 عندما انتخب رئيسا لرابطة الكتاب في كوسوفو، في فترة اتسمت بتسيّس الأدب والثقافة في يوغسلافيا السابقة بعد وفاة تيتو1981. فقد ادى وصول سلوبدوان ميلوشفيتش الى زعامة الحزب في صربيا في 1986 الى صعود موجة من القومية الصربية التي كانت تطالب بمراجعة يوغسلافيا التيتوية ووحدة صربيا الكبرى في اطارها، وادت هذه الموجة الى بروز موجات قومية ارتدادية في كرواتيا وسلوفينيا والبوسنة وكوسوفو وغيرها تبلورت في روابط الكتاب التي كانت تشكل "اتحاد كتاب يوغوسلافيا".
وهكذا فقد قادت بعض روابط الكتاب (وبالتحديد في سلوفينيا وكرواتيا والبوسنة وكوسوفو) المقاومة ضد الموجة القومية الصربية الجديدة والدعوة الى دمقرطة يوغوسلافيا باعتبارها الوسيلة الوحيدة لقطع الطريق على اية حلول تفرض بالقوة من فوق (بواسطة الحزب الحاكم/ الجيش)، وادى هذا السيناريو الفوقي بالفعل (الغاء الحكم الذاتي الواسع لكوسوفو وضمها الى صربيا في ربيع 1989) الى تفجير الوضع في كل يوغوسلافيا، اذ تنازعت الحركة الديمقراطية الاستقلالية في سلوفينيا وكرواتيا في نهاية 1989 وبداية 1990. وفي هذا الاطار فقد تتابع تأسيس الاحزاب الجديدة الديمقراطية في تحد واضح لميلوشيفيتش الذي كان يعتمد على نظام الحزب الواحد/ الجيش. وفي هذا السياق تأسس في كانون الاول 1989 حزب "الرابطة الديمقراطية لكوسوفو" الذي انتخب روغوفا رئيسا له في 23/12/1989 مما دفع بروغوفا الى قمة الزعامة السياسية الجديدة في كوسوفو.
ومع اندلاع "حروب الاستقلال" 1991 - 1992 في سلوفينيا اولا ثم في كرواتيا وجد ابراهيم روغوفا نفسه في وضع صعب للغاية. فقد كان يقدر ان كوسوفو لم تكن تقتنع بدعم دولي (كما كان الامر عليه مع سلوفينيا وكرواتيا) يحميها من انتقام صربيا التي كانت قواتها تتمركز في كوسوفو بعد الغاء الحكم الذاتي في 1989، ولذلك رأى الحل في اللجوء الى المقاومة السلمية ضد العنف الصربي، وهو ما اعطاه لاحقا لقب "غاندي كوسوفو".
وهكذا في الوقت الذي كانت تندلع فيه المعارك في كرواتيا وسلوفينيا تتابعت التطورات السياسية الجديدة في كوسوفو بدعم من حزب روغوفا. ففي 2 آب 1990 اعلن الاستقلال من طرف "مجلس الشعب" الذي كانت قد حلته القوات الصربية, وفي اواخر ايلول 1990 تم اجراء الاستفتاء على الاستقلال الذي ايدته غالبية ساحقة من الالبان. وعقدت انتخابات رئاسية في 24 ايار 1992 انتخب فيها د. روغوفا رئيسا باغلبية ساحقة ايضا.
ولكن هذا الاستقلال وهذا الرئيس الجديد لكوسوفو لم تعترف به سوى البانيا المجاورة ولذلك بقي على روغوفا ان يخوض نضالا طويلا لانتزاع الاعتراف بهذا الاستقلال. وبعد استقلال سلوفينيا وكرواتيا ومقدونيا والبوسنة بقي على روغوفا ان يتعامل مع ميلوشيفيتش باعتباره رئيسا لما بقي من يوغوسلافيا. وقد جرت وساطة ايطالية في 1999 لعقد اتفاق (حل وسط) بين ميلوشيفيتش وروغوفا. ومع ان هذه المحاولة اثمرت انذاك عن توقيع الاثنين على وثيقة لحل بعض الاشكالات (حول التعليم) في كوسوفو الا ان المعارضة لهما في كل طرف افشلت ذلك.
ففي كوسوفو برزت مقاومة جديدة (مسلحة) تعتبر ان سياسة روغوفا السلمية لم تعد تجد مع ميلوشيفيتش وصربيا. وقد ادى ظهور هذه المقاومة (جيش تحرير كوسوفو) الى تصاعد العنف المتبادل والى مجازر صربية ضد الالبان, ما ادى الى تسريع التدخل الدولي وصولا الى حرب 1999 التي اخرجت القوات الصربية ووضعت كوسوفو تحت ادارة دولية مؤقتة.
وفي ظل الادارة الدولية اجريت اول انتخابات ديمقراطية جاءت في تشرين الاول 2001 لانتخاب برلمان جديد وكوسوفو حيث فاز فيها حزب روغوفا بالاغلبية مما ادى الى انتخاب روغوفا كأول رئيس منتخب ومعترف به دوليا في اذار 2002 , وقد اعيد انتخاب روغوفا مرة اخرى في 3 كانون الاول 2004 بناء على الانتخابات التشريعية التي جرت في تشرين الاول 2004 , التي اكدت ايضا فوز حزب روغوفا بالاغلبية .
وخلال رئاسة روغوفا 2002 - 2004 كانت كوسوفو قد قطعت شوطا كبيرا في اعادة الاعمار وانشاء البنية التحتية الاقتصادية الجديدة والقانونية الادارية التي فصلت كوسوفو تماما عن صربيا , وفي الاعتراف الدولي الواقعي لهذا الاستقلال, وقد بقي لرئاسة رغوفا الثانية ان يتحول هذا الاعتراف الواقعي الى اعتراف قانوني, وهو ما اخذ يتسارع في الشهور الاخيرة من حياة روغوفا بعد ان اعطى مجلس الامن صاحب الولاية القانونية الدولية على كوسوفو الضوء الاخضر لاجراء المفاوضات حول الوضع القانوني الجديد لكوسوفو وتعيين ممثل خاص للامم المتحدة لذلك .
وهكذا قد لا تكون مجرد مصادفة ان يتم تشييع جثمان روغوفا في الوقت الذي كان قد حدد بداية لهذه المفاوضات التي يفترض ان تقود الى استقلال متوسط لكوسوفو حيث ان هذا يعزز ما كان روغوفا يحلم به , وبعبارة اخرى يبقى روغوفا, على الرغم من ان حزبه لم يعد يحتكر تمثيل الالبان في كوسوفو, الرمز للاستقلال القادم على الطريق الذي كان يتمنى لو امتدت الحياة به لرؤيته.
* أستاذ التاريخ الحديث في جامعة آل البيت