جريدة الجرائد

هل تتبنى سورية استراتيجية الكاتيوشا والحصون الدفاعية؟

قراؤنا من مستخدمي إنستجرام
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على إنستجرام
إضغط هنا للإشتراك



غسان الإمام


مع بدايات حريق الصيف اللبناني ـ الاسرائيلي، كتبت هنا موضوعا عن سقوط نظرية الردع والأمن الاسرائيلية. لا الجدران. لا الأسوار.. لا سلاح الطيران. لا تفوق التدريب النوعي. لا القوة النارية الهائلة.. كلها لم تعد قادرة على تأمين الحماية للداخل الاسرائيلي.

الآن، أقول إن اسرائيل فقدت ايضا القدرة على شن حرب وقائية خاطفة وهي في مأمن العقوبة العربية. في لبنان، في هذا البلد العربي الصغير الذي لا يملك جيشا للدفاع، تهاوى وانطوى حلم "اسرائيل الكبرى". قتل شارون 27 ألف لبناني وفلسطيني في حرب 1982. احتل الأرض. اجتاح العاصمة. طارد الرئيس اللبناني الراحل الياس سركيس من غرفة الى غرفة في قصر بعبدا، لكن لم يستطع أن يحتل السكان.

اكتشف حافظ الأسد مع الدروز والفلسطينيين ما أسميه: "الحرب المدنية الدفاعية" ثم اكتشفها الشيعة مرة أخرى. "التحم" السكان المدنيون المسالمون بالمقاتلين. وفّروا الحماية لهم. انقهر الجيش "الذي لا يقهر". تراجع على مراحل. انسحب نهائيا في عام 2000.

ببساطة، اكتشف العرب صاروخ الـ "كاتيوشا" البدائي. تقاتلوا به، ثم وجدوا انه ينفع في مقاتلة عدوهم أيضا. كان الفلسطينيون أول من قذف المستعمرات الاسرائيلية به من لبنان. كان الشيعة اللبنانيون أذكى. توسعوا به. وصلوا الى العمق الاسرائيلي. أضافوا عليه "المخبأ / الحصن" الآمن تحت الأرض. يقذفون الصواريخ ثم يختبئون في منجاة من جنون رد الفعل الاسرائيلي. قنابل الاعماق الانشطارية التي أعارها بوش لحالوتس، ومررها بلير بفيزا بريطانية، لم تعثر سوى على السكان المدنيين حماة المقاتلين. هل تصلح استراتيجية "الحرب الدفاعية المدنية" لحرب نظامية محتملة بين العرب واسرائيل، أو مقبلة بين سورية واسرائيل؟

أجد من الأفضل أن أستعير مَنْ هو أقدر مني على التعريف بماهية هذه الحرب. في نهاية العام الماضي، أصدر الجنرال البريطاني روبرت سميث كتابا عسكريا ضخما بعنوان: "فائدة القوة: فن الحرب في العالم الحديث". يقول الجنرال المحنَّك إن الحرب الحديثة ليست لها ميادين قتال. انها حرب مستمرة وطويلة ضد "عدو مجهول" مختبئ في صميم النسيج المدني الاجتماعي. هذا "الالتحام" بين المقاتلين والمدنيين جعل "العمليات العسكرية صعبة للغاية أو مستحيلة"، نظرا للخسائر الهائلة التي يتكبدها المدنيون "اسرائيل قصفت المدنيين اللبنانيين بلا مبالاة ووحشية".

يعتقد الجنرال سميث بأن الحروب التقليدية انتهت بانطلاق شعاع تفجير هيروشيما وناغازاكي. لعله يقصد أن الأميركيين عاقبوا المدنيين اليابانيين، لتشكيلهم جبهة لوجستية خلفية "ملتحمة" بالجيوش اليابانية في جبهات القتال. لكن الاميركيين والسوفييت لم يدركوا هذا التغيير خلال الحرب الباردة! كانت الحروب الكورية والفيتنامية والأفغانية حروبا مدنية ضد السكان الذين يسبح المقاتلون في بحر نسيجهم المتماسك. لذلك تعطل نصر القوات الغازية أو تأخر كثيرا.

من سوء حظ صدام وأصدقائه الصرب أن الجنرال الداهية أصدر كتابه متأخرا، ولعله تعمد التأخير. في حرب البوسنة، كان الجنرال المجرب قائدا للقوات الدولية في البلقان. من حسن حظه ان الصرب لم يعرفوا الاختباء تحت الأرض. ارتكبوا مجازرهم، فعرضوا أنفسهم لقصف الطيران الدولي.

إذا كان صدام لم يجد مدنيا كويتيا واحدا "تلتحم" قواته به وتختبئ عنده، فقد ساهم الجنرال سميث الذي كان قائدا للفيلق البريطاني، بإخراج قوات صدام من الكويت بسهولة. أقول إن صدام وعى فوائد "الحرب المدنية الدفاعية" متأخرا. عندما يكتب التاريخ الحقيقي لغزو العراق، سوف يحتل "فدائيو صدام" مكانهم في عرقلة زحف القوات الاميركية نحو بغداد. قاتلوا ببسالة وبأفضل مما قاتل الجيش العراقي والحرس الجمهوري. لكنهم نسوا تفجير الجسور. ولم يبنوا حصونا تحت الأرض لقطع الخطوط اللوجستية للقوات الغازية.

واضح من الكتاب ان الجنرال سميث مهتم بالجيوش الغربية، يبحث لها عن استراتيجية في مواجهة حرب جديدة عليها يبدو انها تخسرها في العراق وافغانستان. هو يوبخها على تخفيض عديد جنودها، وإهمال تدريبهم مع ذلك ينصحها بالاستمرار في اعتمادها على التقنية السلاحية المتفوقة، مع تركيز على العمل المخابراتي البشري في صفوف "المجتمع المعادي". حتى الانجليز اكتشفوا متأخرين نصيحة جنرالهم! خسر بلير حياته السياسية عندما ساير بوش في العراق ولبنان. الانجليز يريدون أن يهربوا الآن من العراق! يتركون جنوبه لايران! يقولون انهم يريدون ان يحاربوا في أفغانستان! مساكين الانجليز. هم كالمستجير من الرمضاء بالنار!

أود هنا أن أسجل بعض الملاحظات على الكتاب. أقول إن هناك فرقا دقيقا بين حروب الثورات التقليدية والحروب المدنية الجديدة. خسر تشي غيفارا حربه. قاتل النظام في الأدغال بعيدا عن الالتحام بالشعب المدني. يخسر الارهابيون "القاعديون" و"الجهاديون" حربهم مع النظام العربي. نعم، تمكنوا من السباحة في حضن بعض المجتمعات المتعاطفة، غير أن سفكهم لدماء المجتمع الذي يختبئون عنده، ثم عدم قدرتهم على الدخول في مواجهة مباشرة فوق الأرض أو تحتها، سمحا للنظام بملاحقتهم وتصفيتهم بسهولة.

من البديهي أن لا ينصح الجنرال سميث "حزب الله". لكن الحزب خسر حربه "المدنية" لأن إيران وسورية زودتاه بالكاتيوشا ونسيتا تزويده بصواريخ أرض ـ جو تحمي المدنيين المساكين "الملتحمين" معه، نعم، قاتل مقاتلوه القلائل في قراهم ببسالة وكفاءة. فهم في النهاية شباب عرب يعبرون عن حيوية الحياة في أمة عربية تقاوم ولا تريد أن تموت. لم يكن قادتهم معهم. لقد اختبأوا. ربما لجأوا الى "الجيران الملتحمين" معهم عبر الحدود، ثم خرجوا بعد الحرب ليعلنوا النصر "الإلهي" المزعوم.

جنرال آخر غير الجنرال سميث، يسخر من اسرائيل وأميركا. الجنرال عون يقول لهما ان "حزب الله لا يمكن القضاء عليه". اكتشف الجنرال السياسي "المتفاهم" مع الحزب أهمية "التحام" المقاتل بالمجتمع المدني. يتذكر قتال جيشه الخاسر مع ميليشيا جعجع "الملتحمة" بالبطريرك "نصر الله" ومجتمعه المسيحي.

إذا كان هناك "البطرك نصر الله" عند الموارنة، و"السيد نصر الله" عند الشيعة، فقد حلت "خيبة الله" بغزة! انسحبت اسرائيل من القطاع، لأنها عجزت عن التفريق بين المقاتلين والمدنيين. "خيبة الله" نزلت بالفلسطينيين، لأنهم لم يعرفوا كيف ينقلون "حربهم المدنية" من غزة الى الضفة.

بعد كل ذلك، هل اعتبر السوريون بما جرى في لبنان؟

لم أخش على سورية حتى عندما أصبح الأميركيون أطباء "ليلى المريضة في العراق". أخشى على سورية اليوم. فهي بين خيارين: إما أن تفك "التحامها" بإيران، وإما أن تواجه خطر حرب مع اسرائيل. الاغراء لها كبير، ربما بالانسحاب من الجولان، لفك التحامها أيضا بـ "حزب ايران" في لبنان.

السوريون يعرفون كيف يديرون السياسة، ولا يحسنون إدارة الحروب. هذه المرة، هم بحاجة إلى استراتيجية "الحرب المدنية الدفاعية"، حرب الحصون تحت الأرض لإعاقة القوات المعادية، حرب النظم الدفاعية ضد الطيران، حرب الصواريخ الموجهة بدقة، ليس صاروخ حزب الله الأعمى. فقد قتل من الفلسطينيين المدنيين أكثر مما قتل من الاسرائيليين. سكت الفلسطينيون المساكين، لأن "ضرب الحبيب زي أكل الزبيب". لكن السوريين المدنيين الصامتين الآن، لن يسكتوا إذا خسرت قيادتهم وجيشهم حربا مرة أخرى.

التعليقات

جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف