جريدة الجرائد

إرهاب أكاديمي... والشجاعة في مواجهة التطرف

قرائنا من مستخدمي تلغرام
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال تطبيق تلغرام
إضغط هنا للإشتراك

الأربعاء: 2006.10.04

جمال خاشقجي

عاد بي "فؤاد قَلي" ورفاقه في المخيم الصيفي وهم ينشدون ذلك النشيد الرائع "شبابنا هيا إلى المعالي "إلى أيام جميلة خلت، عشتها وجيل كامل معي دون عقد، ونوايا مكبوتة ومنهج خفي وتدبير ليل، كنا واضحين فيما نريد وكانت العلاقة بين الحكومة وتلك التجمعات الإسلامية الناشئة في الجامعات والمدارس علاقة ثقة واطمئنان، بل حتى تشجيع، لاحتضان الشباب وتوجيههم الوجهة الحسنة لخدمة دينهم ووطنهم.
لقد فتح المبدعون جرحاً آخر من جروح مجتمعنا الحائر، في تلك الحلقة من "طاش ما طاش" "إرهاب أكاديمي". نعم لقد استفزت الحلقة المتطرفين ومن لف لفهم بجرأة قاسية، بل ربما يجد البعض أن هؤلاء المبدعين جرحوا حتى عامة المسلمين، وهم يحولون موضوعاً جليلاً كالجهاد والهجرة إلى موضع سخرية، ولكن قبل أن نلومهم، علينا أن نلوم الذين شوهوا إسلامنا كله بفعلهم وقولهم، إن الكوميديا السوداء هي في صورة الخاطفين والانتحاريين والمفجرين والمستبيحين للحرمات والواقعين في كبيرة القتل، وهم يحيطون أنفسهم بهيئة المسلم، ويستشهدون بالقرآن الكريم وسُنة رسول الله عليه الصلاة والسلام، ويزعمون صلة بصحابته الكرام، وأبطال الإسلام فيتكنون بكناهم، هذا "أبوقتادة"، وذاك "أبومصعب" و"أبوالقعقاع". هذه هي الكوميديا السوداء المبكية، التي توجب شجبكم واستنكاركم، وليست "طاش ما طاش" أيها الناقمون على من قاموا بإعداد هذه الحلقة.
عاد بي "فؤاد قلي" ورفاقه المشوهين إلى مسرح جامعة الملك عبد العزيز في جدة، قبل نحو عقدين من الزمن، إذ دعيت لحضور حفل اختتام مخيم صيفي، وتضمن البرنامج فرقة إنشاد مبدعة لا زال شريطها الأول "نداء وحداء" يحقق مبيعات جيدة حتى اليوم، ولا زلت على صداقة ببعض المنشدين، والإداريين، كان العرض على مستوى فني رفيع، بما في ذلك الخلفيات المصاحبة للأناشيد، كانت أصوات المنشدين شجية، والألحان متقنة، أما الأناشيد فكانت حماسية، تدعو للجهاد والتضحية والبذل، كانت معبرة عن تطلعات الحركة الإسلامية، بل المسلمين كلهم أذكر منها نشيد على لسان طفل فلسطيني "خذوا قلبا تحجر كالحديد، خذوه وارجموا به كل اليهود" وكان ذلك في زمن انتفاضة الحجارة، وشجاعة المواجهة، وليس العمليات الانتحارية الغبية المخالفة لكل قيمة إسلامية، نشيد جميل، وإن احتاج في زمن التصحيح السياسي الحالي إلى تعديل "كل اليهودِ" إلى كل يهودي محتل وإنْ كان هذا سيكسر البيت.
وفي نشيد آخر نقلنا إلى أجواء جهادية وقف شاب ينشد "خندقي قبري وقبري خندقي، وزنادي صامتاً لم ينطق، فمتى ينطق رشاشي متى، لهبا يصبغ وجه الشفق "كلمات تبدو دعوة صريحة إلى التطرف في زمننا هذا، ولكن في تلك القاعة بجامعة الملك عبد العزيز بجدة، وقبل أكثر من 15 عاما لم يرها الحضور كذلك، لم يروا شاباً يريد أن يصبغ رشاشه لهبا في وجه أهله وجنود وطنه، بل مجاهد شجاع يروم ساعة لقاء عدو أجنبي كروسي محتل غزا أفغانستان وفرض عليها حكما شيوعيا مرفوضا، أو صهيوني احتل فلسطين، وطرد أهلها ومن تبقى منهم فرض عليهم حياة ذليلة مهينة.
ومضت تلك الليلة، تثير حماسة الشباب، وتشعر الآباء والأساتذة بفخر وهم يرون أبناءهم يبدعون في عمل صالح، استمعنا إلى أناشيد تدعو إلى وحدة المسلمين، وفي فضل الشهادة في سبيل الله، ولكن لم يتخرج تلك الليلة إرهابيون، أو على الأقل ليس ممن أعرف وأتذكر من شباب تلك الليلة وهم كُثر، أحد المنشدين بات اليوم إمام واحدٍ من أكبر مساجد جدة، لن تجد في هذه الليلة الرمضانية مكاناً في مسجده إذا لم تغادر بيتك بعد تناول إفطارك مباشرة. منشدٌ آخر يدير شركة كبرى للحج والعمرة اليوم. أما ذلك الشاب النابه، والذي كان بمثابة مدير للمجموعة، فقد أصبح عضواً في مجلس إدارة الغرفة التجارية، ولا زلنا عندما تجمع بيننا الأيام، نستذكر ذلك الزمن برضا وسعادة، دون أن تنتابنا لحظة ندم، فلم نتطرف وقتها ولا سمحنا لحماقة الشباب أن تسرح بنا بعيداً عن الجادة.
فما الذي حصل؟ هل كنا جيلاً تمتع بمناعة أفضل، وفطنة جعلته قادراً على أن يفرق بين الدعوة في إطار جماعة والتمرد والخروج على الجماعة، لماذا كنا نفرق بين محتل يفرض على بلد مسلم هوية لا يريدها فيوجب جهاده، وبين أجنبي تتعاون معه حكومة البلاد لمصلحة ما كمناورة عسكرية، أو تدريب، أو حتى دحر معتد وحماية وطن. ما الذي حصل حتى أصبح نشيد يدعو الشباب إلى المعالي، ويسعى إلى زرع الطموح والتحدي في نفوسهم إلى موضوع للسخرية والتندر؟ ما الذي حصل حتى أصبح المخيم الصيفي الذي كنا نحرص على توجيه أبنائنا إليه مصدرا للتوجس والقلق؟ بعدما كان الأب يشجع ابنه بل يضغط عليه كي يلتحق بالمركز، بات الأب يضع يده على قلبه خوفاً على ابنه عندما يأتي الابن يبلغه أن أستاذه دعاه للالتحاق بالمركز الصيفي.
دعوت في مقالات سابقة لضرورة أن نكتب ونحلل تاريخ الحركة الإسلامية في المملكة، وأكرر دعوتي هذه، فلابد أن نعرف السبب، ما الذي حصل خلال التسعينيات تحديداً؟ ما بدل في صورة العمل الإسلامي وحوله من عملية بناء توأزر الدولة وتصلح المجتمع إلى معول يهدم الدولة والمجتمع؟ ليفتح كل منا دفاتره القديمة، وينبش في جعبة ذكرياته وتجاربه، ولنتصارح، حينها قد نهتدي إلى السوسة التي أفسدت تلك الصورة الجميلة والعمل البناء، وشوشت صورة الدين الحق.

التعليقات

جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف