المأمون والأمين وتشويه التاريخ
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على تويتر
إضغط هنا للإشتراك
خالد الغنامي
أتابع هذه الأيام المسلسل العربي التاريخي (أبناء الرشيد الأمين والمأمون) والذي أعتبره من أهم المسلسلات الجادة التي تبث في هذا الموسم الرمضاني. يستعرض هذا المسلسل حياة الرجل العظيم هارون الرشيد الذي كان يحج عاماً ويغزو عاماً والذي عرف بالعدل النسبي مقارنة بالسفاحين الذين سبقوه، كما تستعرض القصة حياة ابنيه محمد وعبد الله الأمين والمأمون ويخبرنا المسلسل الكثير عن شخصيات هؤلاء الرجال الثلاثة والنساء المحيطات بهم والرجال الذين عاصروهم من أهل العلم والفقه والسياسة والحروب، كما تروي الحكاية الفروق الكبيرة بين شخصيتي الأخوين، المأمون الرجل الحافظ للقرآن الكريم العاشق للعلم والمعرفة والتي سيبين المسلسل أنه هو الذي اشترى كتب الفلسفة اليونانية وجلبها لدولته وأتى بالمترجمين لينقلوها للغة العربية وأسس (دار الحكمة) لهذا الغرض النبيل، فحفظ بذلك هذا العلم العظيم للعالم أجمع بعد أن كاد يضيع، ذلك لأن الكثير من كتب الفلسفة الإغريقية فقدت ولم يعثر عليها سوى من خلال النسخ العربية، والأمين الذي لم يكن كأخيه في حبه وشغفه بالمعالي ولا يعرف عن حياته الكثير سوى أنه تنازع مع أخيه على الكرسي ودخل في حرب معه بعد وفاة والدهما وخسر المعركة لصالح المأمون الذي أصبح الخليفة وأمير المؤمنين المتوج. بعد استيلائه على السلطة واستقرار الملك له واصل المأمون بحوثه المعرفية ومناقشة الفقهاء والبحث العلمي المتواصل في القضايا الفلسفية الكبرى.
ثم إنه توصل للقول بأن القرآن الكريم كلام الله مخلوق، بناء على نظرية تنزيه الله عن مشابهة المخلوقين فيما ينسب لهم من صفات، القول الذي شهره أساتذته المعتزلة، ثم حدثت الفتنة وابتلي فقهاء السنة بلاء عظيماً لأن المأمون لم يكن ديموقراطياً، وكان يسجن الفقهاء ويعذبهم لكي يوافقوه على تلك النظرية ولكي ينشروها بين الناس، برغم أن كتب الحكمة الإغريقية التي ترجمت في عصره تحدثت كثيراً عن الديموقراطية وناقشتها على لسان أكثر من فيلسوف، وعرفت روما عصوراً ديموقراطية قبل أن يولد المأمون بمئات القرون.
أثناء متابعتي لهذا المسلسل فوجئت بالقنوات الإخبارية وهي تبث خبراً مفاده أن مجموعة من الشخصيات العربية والإسلامية التي تعتد بنسبها العباسي، تتهم مسلسل "أبناء الرشيد: الأمين والمأمون" بالافتراء على الواقع و"الطعن في شخصية خليفة المسلمين وأمير المؤمنين هارون الرشيد المجاهد العابد وأن هذا المسلسل عمل لا يحتوي في الواقع إلا على أكاذيب وافتراءات، وهو مليء بالطعن في شخصية خليفة المسلمين وأمير المؤمنين هارون الرشيد.
الذي أريد أن أقوله هنا مع كامل الاحترام والود للإخوة المحتجين على هذا العمل الفني وإدراكي وتفهمي للانزعاج الذي قد يكون لحق بهم، أن التاريخ يظل تاريخاً، وهو ماض طوته عنا السنين ولم ير أحد منا هارون الرشيد ولا أبناءه، لا نحن ولا آباؤنا ولا أجدادنا، ولا يمكن لأي أحد أن يزعم أنه يملك الحقيقة المطلقة بشأن حياة هارون الرشيد.
لكن يكفي كاتب السيناريو الذي يريد أن يشارك في عمل فني أن يستند أثناء الكتابة على مصدر علمي موثق، ولا يلزمه أبداً أن يجمع المصادر المتعارضة ولا الجمع بينها، مصدر تاريخي واحد وتبني رؤيته يكفي. ثم يقال بعد هذا هذه رؤية واحدة ومن حق الآخرين أن يطرحوا رؤاهم.
كتب التاريخ ذكرت الكثير من التفاصيل التي قد تزعج البعض منا، فهذا شمس الدين الذهبي المؤرخ الذي اجتمع الناس على أنه أكثر المؤرخين السنة إنصافاً واعتدالاً، قد ذكر في كتابه (سير أعلام النبلاء) في ترجمة المجاهد بطل حطين صلاح الدين الأيوبي أنه كان يشرب الخمر ثم تاب عنه في آخر حياته. فهل سنكذب رجلاً بقامة الذهبي لمجرد أن كلامه لم يعجبنا ولم يتناسب مع الصورة النمطية الطوباوية الملائكية التي رسمناها في أذهاننا عن أبطالنا ورجالات تاريخنا.هي في النهاية روايات عفا عليها الزمن، لا تكذب بالمطلق ولا تصدق بالمطلق وتبقى أهمية التاريخ قابعة في تلك الدروس المهمة التي يجب أن نستخلصها لتكون رائداً لنا في نهضتنا المرجوة.rlm;rlm;