جريدة الجرائد

الفكر الديني...عقبة أمام التغيير في السعودية

قرائنا من مستخدمي تلغرام
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال تطبيق تلغرام
إضغط هنا للإشتراك

الأربعاء: 2006.10.11


د. خالد الدخيل

ما يحصل في السعودية هذه الأيام، وعلى يد حملة الفكر الديني هو نتيجة طبيعية للمواجهة بين هذا الفكر من ناحية، وموجة التغير التي يتعرض لها المجتمع السعودي من ناحية أخرى. المجتمع يتعرض للتغير على كل الأصعدة، وإن بدرجات متفاوتة. تركيبة المجتمع تتغير بشكل واضح، نمط حياة المجتمع انقلب رأساً على عقب، المستوى المعيشي الحالي لم يعرفه المجتمع من قبل، التركيبة الطبقية للمجتمع انقلبت هي الأخرى، التعليم يختلف بل يتناقض مع ما كان سائداً قبل أكثر من نصف قرن، المصادر الثقافية ومصادر المعرفة التي كانت سائدة، تتعرض لعملية تصدع قوية وسريعة، قيم المجتمع تتعرض بدورها لتحد لم تعرفه. هناك انفتاح على الخارج، انفتاح فضائي، ومعلوماتي، وسياحي، عدا عن قنوات الاتصال السياسية والاقتصادية، والتعليمية، وغيرها، بدرجة لم تكن معروفة. كل ذلك له آثاره وتبعاته على المجتمع، بنيته، وثقافته، وقيمه وسلوكياته، وتوجهاته الأيديولوجية والاجتماعية، وغيرها. من الطبيعي أن يكون هناك رد فعل على ما حصل ويحصل للمجتمع. لكن رد فعل الفكر الديني هنا يعبر عن شيء واحد، وهو أزمة هذا الفكر مع نفسه أولاً في لجة التغير الذي يعتمل داخل المجتمع، وأزمته في التعامل مع موجة التغير هذه ثانياً. أزمته مع نفسه أنه لا يبدو قادراً على تطوير نفسه، وأدائه. لا يزال أسير نفس الطروحات التي كانت سائدة في الماضي البعيد. أما أزمته مع موجة التغير أنه غير قادر على استيعاب طبيعتها، ومصادرها، ولا استيعاب ضرورتها وأهميتها. كل ما يملك إزاءها هو الخوف منها، الرهاب من نتائجها ومستتبعاتها. لا يدرك حملة الفكر الديني أنهم بموقفهم هذا لا يفعلون أكثر من تأجيل التغيير. بل إنهم قد يتسببون في أن يأخذ التغيير مجراه، ويفرض نفسه على الجميع من دون توجيه أو تعديل.

من بين أهم ما يشغل حملة الفكر الديني هذه الأيام في السعودية محاربة الدعوة لمراجعة حجاب المرأة، والدعوة لجعل قيادة المرأة للسيارة خيارا لمن تريد أن تأخذ به، المطالبة بإقالة وزير العمل، الدكتور غازي القصيبي، لأنه يعمل على توسيع مجالات عمل المرأة، ضمن الضوابط الشرعية، في حين أن حملة الفكر الديني لا يريدون للمرأة أن تعمل خارج منزلها. محاربة وزير الإعلام، إياد مدني لأنه أضاف جرعة من الإنفتاح لبرامج التلفزيون السعودي، وفتح المجال أمام المرأة للعمل في هذا الجهاز. كل هذه أمور قابلة للاختلاف والأخذ والرد في الفقه، لكن حملة الفكر الديني لا يعترفون بذلك، ويعتبرون هذه الأمور من ثوابت الدين. أضف إلى ذلك مقاومة الكثيرين، وخاصة النافذين منهم، لتقنين الشريعة، ورفض فكرة الديموقراطية، والمشاركة السياسية.

لماذا يرفض حملة الفكر الديني الديمقراطية والمشاركة السياسية على وجه التحديد؟ أولاً موقفهم الرافض بشكل عام لفكرة التغير والتطور منبعه الثقافة التقليدية التي تعادي كل جديد. الثقافة الدينية التقليدية ترسخ فكرة الطاعة هكذا من دون حدود. وتحارب أي توجه نقدي لأنها ترى في ذلك ما قد يهدد باشعال الفتنة. أما رفض الديموقراطية والمشاركة السياسية فمصدره المحافظة على المكانة الاجتماعية التي يتمتعون بها، وبما يأتي معها من امتيازات مالية وسياسية. الأمر الآخر حماية مقامهم الرفيع من أن يكون عرضة للاهتزاز في حال أخضعت آراؤهم ومواقفهم للنقاش والنقد. مقامهم كان ولا يزال مصاناً بهالة الدين والعلم الديني، وقداسته، تمشياً مع ما قاله القرطبي من أن "لحوم العلماء مسمومة". فكرة طاعة ولي الأمر التي يؤكد عليها الفكر الديني ذات دلالة وصلة هنا. فمشروعية ولي الأمر مرتبطة بمشروعية "أهل الحل والعقد"، والعلماء عند أكثر أهل العلم، هم جزء من هؤلاء. فكرة الديمقراطية قد تشكل تهديداً لهذه المعادلة، وبالتالي تهديداً لكل حملة الفكر الديني.

ثم هناك الحملة المعتادة كل رمضان على المسلسل التلفزيوني "طاش ما طاش". حيث يتعرض نجومه هذه الأيام لهجوم شرس وصل إلى حد الدعاء عليهم في بعض المساجد، وإلى سبهم وتهديدهم في مواقع الإنترنت. وقد وصلت موجة الهجوم على هذا المسلسل إلى حد اتهام المسلسل بالتعدي على ثوابت الدين والمجتمع.

لماذا الهجوم الشرس على مسلسل تلفزيوني يستخدم الأسلوب الكوميدي في تسليط الضوء على بعض القضايا الاجتماعية، والمواقف والسلوكيات اللافتة في المجتمع؟ لا توجد إجابة إلا في أزمة الفكر الديني، وفي النزعة التقليدية التي يتكئ عليها هذا الفكر. كل التهم الموجهة للمسلسل لا أساس لها لمن أراد أن ينظر إلى الموضوع بشيء من التوازن والموضوعية. وليس أدل على ذلك من الشعبية التي يحظى بها المسلسل لدى مختلف قطاعات المجتمع وطبقاته، ومن الجنسين أيضاً. الفكر الديني يتمتع بقاعدة شعبية واسعة أيضاً. كيف يمكن التوفيق بين الاثنين؟ هذا السؤال غير مطروح بالنسبة للفكر الديني، لأنه يتضمن اعترافا بمشروعية الآخر، شعبياً على الأقل. وهذا مؤشر آخر على أزمة الفكر الديني. لا يدرك حملة هذا الفكر أن الفن كان ولا يزال أحد أهم مصادر التغير والتحول الاجتماعي. ومن هنا مأزق الفكر الديني. شعبية "طاش ما طاش" تجعل من ما يحمله من أفكار ومواقف مقبولة اجتماعيا. وعندما تكون الفكرة مقبولة على هذا المستوى فإنها تكتسب مشروعية خارج إطار وصاية الفكر الديني.

هناك مجال واسع لنقد هذا المسلسل فنيا: نقد المشاهد، والسيناريو، والفكرة، والأداء، ومستوى التناول، وطبيعة الشخصيات وتصميمها... الخ. لكن حقيقة أن ما يتعرض له هذا البرنامج لا يتجاوز كونه هجوما أيديولوجيا بحتا يعبر من ناحية أخرى عن أزمة ثقافية في المجتمع السعودي. فمن ناحية لم تتبلور بعد الثقافة الفنية في المجتمع السعودي، وتؤسسس لنفسها كثقافة لها دورها ومشروعيتها. والنتيجة غياب أدوات النقد الفني المهني. بدلاً من ذلك يسيطر الفكر الديني بأدواته، ويصبح أبرز أشكال تناول الأعمال الفنية، في الوقت الذي قد لا يعرف فيه حملة هذا الفكر شيئاً ذا بال عن الفن ودوره في المجتمع. ومن ثم لا تتسع ثقافة المجتمع إلا لمثل هذا الهجوم الذي يلبس لباس الدين، والذي يأخذ أحياناً منحى بذيئاً. هجوم مقدس باسم الدين من المفترض أن لا يأتيه الباطل من يمينه أو شماله. وهذا مؤشر آخر ليس فقط على أزمة الفكر الديني، بل أزمة المجتمع وتخلفه. كيف سيكون موقف جماهير البرنامج في مثل هذه الحالة؟ حملة الفكر الديني يصفونه بأبشع الأوصاف؟ فهو يستهزئ بالدين، ويسخر من الثوابت، وبأنه يقول "للعالم بأننا نصنع الإرهاب في السعودية". من ناحية أخرى، فطرة الجماهير تقول لهم إن ما يقدمه البرنامج لا يعدو لقطات من المجتمع في صيغة فنية ونقدية. كان البرنامج يعرض في القناة السعودية الأولى، وهو الآن يعرض على قناة سعودية أيضاً. ما ينتقده البرنامج ليس الدين، وإنما سلوكيات، ومواقف مأخوذة من حياة المجتمع. مشكلة حملة الفكر الديني أنهم لا يميزون بين مواقفهم وقناعاتهم وبين الدين. حملة الفكر الديني، يصرون على التماهي مع الدين.

المشكلة أكبر من ذلك. هناك رفض لتقنين الشريعة، ولقيادة المرأة للسيارة، ومقاومة لتغيير وتطوير مناهج التعليم، خاصة الدينية منها، ورفض لعمل المرأة، ورفض إعطاء المرأة حرية الاختيار في الأمور التي هي محل خلاف بين الفقهاء. وهذه بحد ذاتها مواقف مشروعة انطلاقا من مبدأ حرية الرأي، وحرية الاختيار، وحرية الفكر. لكن المشكلة أن من يتبنى هذه المواقف والقناعات يعتبر نفسه مدافعاً عن الدين، وعن الفضيلة، وأن كل من اختلف معه في ذلك فهو بالضرورة يدعو إلى الرذيلة والانحراف، وإلى محاربة الدين وأهله. ينزلق خطاب هؤلاء إلى الشتم، والتكفير، والتخوين والإقصاء. وهنا تتبدى بشكل جلي قمة أزمة الفكر الديني. فهو من ناحية لا يستطيع مواجهة حركة التاريخ، وأنها بطبيعتها حركة متغيرة، ولا تتوقف عند مرحلة بعينها. ولا يستطيع التعامل مع التغير إلا بالرفض والاستنكار، والمقاومة. ولا يملك إلا الشتم والتحريض في مواجهة الرأي الآخر. لا يملك آلية لاستيعاب التغير، ومحاولة فهمه وتحليله. كأن الفكر الديني لا يملك شيئاً من ذلك، الأمر الذي يجعله عرضة للصدمة بسرعة وسهولة، ويتسبب بإصابته بحالة من التشنج ورد الفعل العصبي غير الموزون في الكثير من الأحيان. والنتيجة الإتكاء إلى خطاب التكفير والتخوين، وخطاب التهديد والتحريض. بهذا الموقف يؤكد حملة الفكر الديني التهمة التي توجه إليهم دائماً، وهي أنهم حملة فكر منغلق متشدد، يرفض التغير، ويحارب الانفتاح، ولا يعترف بالرأي الآخر، وبالتالي فهو فكر متخلف سوف يجر المجتمع معه إلى الهاوية.

التعليقات

جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف