أنور السادات بعد ربع قرن!
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على تويتر
إضغط هنا للإشتراك
الخميس: 2006.10.12
د. وحيد عبد المجيد
في كثير من الأحيان يكون مرور ربع قرن كافياً لتكوين نظرة أكثر موضوعية على حدث معين أو سياسة محددة, أو حتى على أداء زعيم ما. ولذلك تفرج الدول العريقة في توثيق الأحداث عن الوثائق التي تحتجزها بعد مرور فترة لا تتجاوز ربع القرن.
ولكن الأمر قد لا يكون كذلك عندما ننظر الآن إلى فترة حكم الرئيس المصري الراحل أنور السادات بعد مرور ربع قرن على رحيله. صحيح أن نظرتنا إلى هذه الفترة اليوم يمكن أن تكون أكثر موضوعية مما كانت عليه من قبل. ولكن الفرق ليس كبيراً بعد لأن الكثير مما حدث في تلك الفترة, ويتحمل السادات المسؤولية عنه، مازال مؤثراً بدرجات مختلفة في أوضاع مصر والعالم العربي بوجه عام حتى يومنا هذا.
ولعلي أزيد على ذلك أن بعض أهم مكونات الأزمة المصرية الراهنة يعود إلى عهد السادات, الذي شهد في المقابل أحداثاً رائعة. ولكن المحصلة, في النهاية, هي أن أسوأ ما اتخذه السادات من قرارات ونفذه من سياسات كان له الأثر الأكبر من غيره في تشكيل معالم أزمة مصر الراهنة. وهناك من يرى أيضاً أن "كامب ديفيد" المصرية- الإسرائيلية أثرت بشكل سلبي، ومازالت، في مسار القضية الفلسطينية. ولكن لنبق مع مسؤولية السادات عن الأزمة المصرية الراهنة، وحدود هذه المسؤولية.
لقد أحدث السادات تحولاً اقتصادياً- اجتماعياً كبيراً خلخل المجتمع وأنهكه وفرض عليه تطوراً مشوهاً، سواء في البناء الاجتماعي أو في النسق القيمي. ولا يرجع ذلك إلى اتجاه هذا التحول في حد ذاته, وإنما إلى عشوائيته, وبدرجة أكبر إلى توقيته. لم تكن المشكلة في الاتجاه نحو اليمين, أو في التحول مما يشبه اشتراكية إلى ما يشبه رأسمالية. كانت المشكلة في عشوائية هذا التحول. وما أدراك ما العشوائية في تحول يُعاد في ظله تشكيل مراكز القوة السياسية والاجتماعية, ويتفشى الزواج بين السلطة والثروة, ليصعد أصحاب نفوذ وقوة يشبهون في بعض ممارساتهم "أمراء المماليك" في مرحلة ما قبل الفتح العثماني لمصر. كان بعض هؤلاء أقوى من مؤسسات الدولة مجتمعة. وكان أحدهم في الإسكندرية من القوة إلى الحد الذي يكفي لأن ينحني محافظ الثغر أمامه. ولم يكن هذا النمط من العلاقات المشوهة إلا واحداً من اختلالات نجمت عن الطابع العشوائي للتحول الاقتصادي- الاجتماعي الذي أراد السادات أن يجعله بديلاً عن التحول الذي سبقه بسنوات قليلة في عهد عبد الناصر، ولم يخل بدوره من عشوائية.
وهنا, تحديداً, يكمن أحد أهم جذور الأزمة الراهنة في مصر. فقد أطلق السادات التحول نحو اليمين في لحظة تاريخية كان المجتمع فيها منهكا من جراء التحول الناصري السابق نحو اليسار.
وأنتج تعاقب هذين التحولين, بالطريقة التي حدث بها كل منهما والظروف التي أحاطت بهما, عجزاً مزمناً عن التطور الاقتصادي الطبيعي في ظل هيمنة شكل شاذ من الرأسمالية يغلب عليه الفساد والمضاربة ونهب المال العام وسطوة جهاز الحكم ومراكز القوة العاتية فيه.
لقد خلق التحول الذي أحدثه السادات رأسمالية أغنياء طامعين فى أرباح فاحشة لا رأسماليين روادا طامحين إلى إيجاد سوق حرة حقيقية... رأسمالية بارونات من حيث نمط حياتهم وليس نوع أخلاقهم... رأسمالية جهلاء لا يعرف العلم سبيلا إلى معظمهم, وليس لديهم استعداد لإنفاق أقل القليل من فائض أرباحهم الهائل لتطوير البحث العلمي في مجالات أعمالهم.
ولم يقل خطراً عن ذلك سوى توقيت التحول الساداتي بعد أقل من عقدين على التحول الناصري, وقبل أن يستوعب المجتمع تداعيات ما حدث في ذلك التحول الذي بدأ في مطلع الستينيات. فالتحول الاقتصادي- الاجتماعي الكبير, أيا يكن اتجاهه, يهز المجتمع في أعماقه لأنه يعيد صوغه ويغير العلاقات بين فئاته وشرائحه ويبدل بعض القيم السائدة فيه. ولذلك يحتاج المجتمع إلى عدة عقود لكي يستوعب الآثار الاجتماعية لهذا التحول الذي قد يجوز أن نشبهه بـ "ماراثون" طويل مرهق يجتازه شخص غير مدرب فيقطع أنفاسه ويرفع مستوى ضغطه ويؤثر على وظائف جسمه الحيوية, فيصبح في حاجة إلى وقت لكي يستعيد إيقاعه الطبيعي. وإذا فرضنا على هذا الشخص أن يخوض "ماراثونا" آخر فور انتهائه من الأول, لابد أن يصيبه ذلك بأمراض قد تكون عصية على العلاج.
وهذا هو ما حدث للمجتمع المصري في العهد الساداتي, إذ اشتد عليه الإنهاك مصحوباً بتوتر واحتقان على كل صعيد, الأمر الذي وضعه على أعتاب الأزمة الراهنة.
كان المجتمع المصري، الذي تركه السادات في حالة إنهاك واحتقان سياسي واجتماعي وديني، في حاجة إلى قدر من التهدئة لكي يستعيد إيقاعه الطبيعي.
كان هذا المجتمع قد وصل, عند رحيل السادات قبل ربع قرن, إلى حالة اقتربت من الغليان, وجعلت التبريد حاجة ضرورية. ولكن التبريد تحول إلى تجميد. بدا الأمر كما لو أن المجتمع دُفع به إلى "الفريزر" لفترة طويلة, بينما كان في حاجة إلى تبريد لفترة قصيرة.
فالجمود السياسي الذي حدث بعد رحيل السادات كان نتيجة ما ترتب على سياساته من إنهاك وتوتر واحتقان في المجتمع. هذا الجمود طال أمده, وجمد المجتمع معه, فنشأت أجيال ثلاثة في ظل هذا الجمود. وترتب على ذلك توسع الفجوة الجيلية, وازدياد انصراف الناس عن كل ما هو عام, وتراجع ثقتهم يوما بعد يوم في مختلف مؤسسات النظام السياسي الحاكمة والمعارضة على حد سواء. وفي ظل هذا الجمود, فقد المجتمع الاتجاه وغلبت عليه حركة عشوائية, وساده سلوك عدواني ترك أثر عميقا في العلاقات بين الأفراد والجماعات, وطبعها بطابعه. وكان أخطر ما تراكم, بدءا من التحول الذي أحدثه السادات, هو الفساد الذي صار بمثابة القوة الأكثر رسوخاً, في الوقت الذي بات المجتمع عاجزاً عن كسر مسار الأزمة وخاضعاً لوطأة علاقاته العشوائية والعدوانية في آن معا. وفي مثل هذا المجتمع, يقل بل يتضاءل الشعور العام بالإنجازات التي حققها السادات, وفي مقدمتها قيادته الحكيمة لحرب أكتوبر 1973 التي تتزامن ذكراها مع رحيله في كل عام.
وما أيسر ملاحظة ضعف احتفاء المجتمع بذكرى هذه الحرب, التي أتاحت تحرير أرض مصر المحتلة واستعادة الكرامة التي دفنت في أرض سيناء خلال حرب 1967 . وليست هذه هي المرة الأولى التي تمر فيها ذكرى حرب أكتوبر مرور الكرام كما لو أن المجتمع الذي ظل ينتظرها بشغف على مدى ست سنوات (67-1973) فقد ذاكرته.
غير أنه لا المجتمع فقد الذاكرة, ولا التغيير الكبير الذي حدث في المنطقة والعالم يكفي لتفسير سلوك المصريين تجاه إحدى أعظم أحداثهم في القرن الأخير. فالتغيير الذي يصلح لمثل هذا التفسير حدث في المصريين أنفسهم بفعل تراكمات كان التحول الساداتي إلى اليمين في منتصف سبعينيات القرن الماضي هو منطلقها الرئيس. فكأن السادات, إذن, وضع الأساس لنسخ إنجازاته عندما قاد ذلك التحول الذي وصلت تداعياته عبر ثلاثة عقود إلى حد أن أصبح المصريون أجساداً بلا روح.
وهذا هو أخطر ما يمكن أن يحدث لأي شعب. فإذا خبت الروح وانطفأ الوهج وتبدد الحماس إلا لما هو خاص أو شخصي, فقل على الشعب الذي يحدث له ذلك السلام.
وقد حدث ذلك, وتراكمت آثاره, منذ أن سكتت المدافع بتعبير صاحب العقل الكبير الراحل محمد سيد أحمد. لم تمض شهور على الإنجاز الذي تحقق بفضل عملية بناء كبرى استمرت ست سنوات قبله حتى بدأت معاول الهدم تفعل فعلها الذي فاق أثره كل بناء تحقق منذ ذلك الوقت، فوصلت مصر إلى ما هي فيه اليوم مما لا يحسدها أحد عليه. لقد أراد السادات بها، وبأمتها العربية، خيراً. ولكن التاريخ يعلمنا أن من النوايا الحسنة ما يفتح باب "جهنم". ويبدو أن أكثر ما يفتح مثل هذا الباب في أداء زعيم يبغي الخير هو أن يتملكه اعتقاد في أن كل ما يصدر عنه هو خير وأن ما يأتي به كل من يختلف معه إنما هو الشر بعينه!