أورهان باموك : أريد أن أكون كاتباً حرّاً لا شخصية سياسية
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على إنستجرام
إضغط هنا للإشتراك
في حوار أشبه بالوثيقة السياسية والأدبية ...
الحياة
الحوارات الصحافية التي يجريها الروائي التركي أورهان باموك، الفائز بجائزة نوبل للآداب لهذا العام، قليلة جداً، لكنه حين يتحدث الى الصحافة يدلي بآراء مهمة ومثيرة سواء تكلم عن عالمه الروائي أم عن تجربته السياسية.
في 12 أيار (مايو) أجرت الصحافية في جريدة "لوموند" ليلا عزام زانفانه حواراً مع باموك غداة عدول القضاء التركي عن محاكمته بتهمة الاساءة الى الهوية التركية. ننقل هنا الحوار نظراً الى كونه وثيقة مهمة حول الكاتب وقضيته.
gt; عام 1985، رافقت آرتُور ميلر وهارولد بنتر في رحلة برعاية المركز الأميركي "بان" ومنظمة "هلسنكي وتش"، بهدف إعداد تقرير حول حقوق الإنسان في تركيا. ما هي انطباعاتك من هذه المغامرة؟
- في العام 1980 حصل انقلاب عسكري وعُلقت حرية التعبير وانتُهكت حقوق الإنسان. وكانت السجون مسرحاً للكثير من الإساءات. إلا ان الناس كانوا يتكلمون على رغم ذلك - عائلات المساجين إنما الكتاب أيضاً ...
gt; هل كنت تشعر بالتضامن؟ أو باللوم؟ أو بالاثنين معاً؟ فرواياتك تتسم بالازدواجية بصورة أقرب إلى الهاجس...
- من جهة، كنت أشعر بعار كبير يشبه ذلك العار الذي لاحظته في أنحاء أخرى من العالم حينما يأتي أجانب من أميركا أو أوروبا بهدف إجراء تحقيق حول طبيعة الديموقراطية أو غياب الحريات: هذا الأمر يسبب عاراً يصعب التعبير عنه، مع انه شعور يسود كل الناس. من جهة أخرى، كان يُخيّل إليّ فجأةً ان من الممكن ان ينشأ تضامن دولي بين الكتاب الذين يُعتبرون ممثلين ليس لجذورهم القومية فحسب بل للعالم بأسره. إنه تضامن وليد الاحترام المتبادل، بل أقول الاحترام المقدس، لحرية التعبير.
gt; لكنك أساساً لست روائياً "سياسياً" إذ إنك تحب ان تخلق عوالمك الخاصة المتنوعة والخيالية. ويحمل عدد من عناوين رواياتك إشارة إلى الألوان، على غرار "إسمي أحمر" و "الكتاب الأسود" و "القلعة البيضاء"...
- صحيح، كنت أميل أكثر إلى المدرسة "النابوكوفية" (نابوكوف) في البداية. كنت أكتب بنوع خاص للجمال. وفي حين كانت أجيال كاملة من الكتاب الأتراك يتمثلون بالروائي الأميركي شتاينبك أو الروسي غوركي، ويدمرون جوهر موهبتهم من خلال وضعه في خدمة شيء كان من المفترض ان يتجاوزهم. كنت أقرأ نابوكوف وأحلم. وبعد مرور خمس وعشرين سنة، أعلم أنني لو اقترفت في حينه خطأ تأليف روايات سياسية، لكان مصيري الهلاك، ولكان النظام قضى عليّ.
gt; ماذا عن رواية "ثلج" الصادرة في العام 2004؟ لماذا كتبت، فجأةً، روايةً عن الإسلام والقومية وانتحار الشابات اللواتي يرغمن على نزع الحجاب في بلدة صغيرة في شمال شرقي البلد؟
- قررت أن أكتب روايةً سياسيةً لأنني رغبت فجأةً في أن أسرد واقع بلدي بطريقة مختلفة. في الواقع، تتسم كل من رواياتي بهيكلية مختلفة. والسبب وراء ذلك: غالباً ما ألتقي في أحد شوارع اسطنبول بمن يقول لي، "آه، سيد باموك، يا للأسف! لقد أحببت جداً هذه الرواية أو تلك، ولكنك لم تكتب بعدها أبداً ما يشبهها!" وهذا هو بالضبط معنى الرواية المختلفة ... بالنسبة إليّ، هنا تكمن كل الحبكة، في القدرة الدائمة على التجديد في الحبكة قبل صوغها. فالكتابة تصبح عندها عملية فنية بحتة.
gt; هل تشعر اليوم بنوع من المسؤولية في تركيا؟
- لنقل انني لم أقصد يوماً أن أحمل عبء معظم المسؤوليات السياسية التي رميت على عاتقي! لكنها انتهت بأن اهتدت إليّ كلها بفعل الغيرة والكراهية والمحرمات والضغوط المتعددة. وكأنك كنت تمشي ذات يوم على الطريق لا مبالياً وسقط على رأسك شيء من شرفة. ولأن البلد يعيش في قمع، ولأنني أتمتع بشبه مكانة دولية، أُجبرت على تحمّل هذا القدر الجديد. يسرني هذا الأمر. ولطالما حلمت سراً ان أكون فناناً حراً. ويتطلب أسلوبي في الكتابة وطريقة صوغ أفكاري روحية الطفولة. في قرارة نفسي، أحدد مسؤولية الكتابة باللعب الجنوني والسحري بقواعد الدنيا. ليس من المفيد في الكتابة بأن يكون الروائي شخصية عامة. فما حال إذا كان الروائي شخصية سياسية! لا يمكن ان أقول أي كارثة هذه!
gt; ولكن ثمة الكثير من القضايا التي تثير اهتمامك. لقد حددت حرية التعبير بالكرامة والفرح. هل تشعر، على اثر المشاكل القضائية التي عانيت منها، بالحاجة الى ان تناضل من أجل حرية التعبير؟
- يكفيني أن أكتب. فكل ما عدا ذلك صادفني من باب سوء الحظ لأنني استُدرجت إلى حيث لا أحب أن أكون. إذاً، إما أن أقع في خندق ما، أو يُهاجمني أحدهم وأُجبر على ان أبني خندقاً لأحمي نفسي...
gt; وماذا عن الاتحاد الأوروبي؟ هل تتمنى أن تنضم تركيا إليه؟
- نعم. أنا أؤيد هذه الخطوة، وقد طلب مني الكثير من السياسيين مساعدتهم. وكتبت مقالات كثيرة في هذا الشأن. لقد وجدت نفسي فجأة ألاحق سراباً. كنت أعتقد أن في إمكان أوروبا وتركيا التناغم، إلا أن ما من ودّ متبادل بينهما، وبالتالي فإنني أفضل العودة إلى رواياتي.
gt; من هو الكاتب الذي تكنّ له إعجاباً مطلقاً؟
- العظماء: تولستوي ونابوكوف وتوماس مان ولا شكّ أيضاً بروست. إلا انني لا بد من أن أحاول تصوّرهم انطلاقاً من عالمي أنا ومن عالم اسطنبول. فحين كان معظم الكتاب الأتراك منهمكين بالكتابات الواقعية أو الاجتماعية، كان بروست يأخذني في رحلة بين عباراته الطويلة والغريبة بوضوحها تارةً وغموضها طوراً، إلا أنها كانت تضج بالمتعة ومعانيها المتعددة إلى ما لا نهاية.
gt; هل سبق أن جذبتك الرواية السياسية، قبل رواية "ثلج"؟
- نعم. لدي رواية لم تكتمل بعد وعمرها خمس وعشرون سنة. بالنسبة إليّ، هي رواية على طريقة دوستويفسكي، حيث تلتقي الراديكالية اليسارية والقوى الغريبة. إلا أنه حدث وقتئذ انقلاب حال دون نشرها. وأدركت حينئذٍ أن بعضاً من أصدقائي القدامى ذوي التوجه الماركسي استمالهم الإسلام المتشدد والخطاب المعادي للغرب....
gt; كتبت في بحث، نشر في مجلة "نيو يوركر"، قبل شهر من محاكمتك في اسطنبول، أن للقومية التركية جذوراً غريبة تجمع بين الفكر والبورجوازية...
- نعم. وكأني كنت بذلك أتقي شبح الانحلال المعولم من جهة، وشرّ حقد الطبقات العاملة. أما الطبقات المثقفة فتلجأ أحياناً إلى أشدّ حالات التقوقع القومي الصارخ "أتراك فقط لا غير!". ولا شكّ في أن هذه النخبة كانت بمثابة مجتمع ما قبل الحداثة. وهي من منطلق ردّ الفعل الجماعي، تفضّل أحياناً أن تحدد هويتها انطلاقاً من الحس الوطني أكثر من توجه الحداثة، ولا سيما مع نتائج التوجه الديموقراطي التي نعهدها...
gt; هل أن هذه الطبقة يستميلها أيضاً الإسلام المتشدد؟
- كلا ليس بالضرورة. فالصورة السائدة تقدم تركيا وقد غزاها الإسلام السياسي. إلا أن على الأرض، تكثر في الواقع التركي التوجهات والتفرعات إلى درجة أن التشدد بات غير نافر ضمن هذه التركيبة. ففي تركيا، على سبيل المثل، مجموعات صوفية وأخرى متفرقة إذا اجتمعت فإنها تشكل شبح ما نسميه "الإسلام السياسي". إلا أن لا بد من التنبه إلى أن في تركيا أيضاً حضوراً لافتاً لمناهضي الغرب العلمانيين ومناهضي الديموقراطية العلمانيين! وما هذه المكونات سوى خيوط نسيج سياسي بالغ التعقد. وبالتالي فمن الطبيعي أن يشكّل هذا النسيج للروائي خليطاً متنوعاً وثميناًhellip;.
gt; ألذلك نلاحظ في رواية "ثلج" اهتماماً بتركيا المحرومة، بمدينة "قارس" التي تسيطر عليها ازدواجية عميقة هي عبارة عن تأرجح بين الإسلام المتشدد والعلمانية أسوة بكمال أتاتورك؟
- صحيح، لقد انتابتني فجأة الرغبة في التحدث عن تركيا المعاصرة والإسلام السياسي والتطرف والعلمانية والنزعة الوطنية إلى الانقلابات العسكرية وقومية مجموعاتنا الإتنية والقوى السياسية والفصائل التابعة لها والتي لا يمكن قمعها. وكنت أرغب في أن يكون مسرح الرواية مدينة صغيرة تعاني فقراً مدقعاً، لتتحول لاحقاً جزءاً من تركيا التي أتخيلها اليوم. وكنت أتمنى أن أحبك قصة تكشف أسرار الحقائق المقنعة في بلدي، إضافة إلى طرق التفكير المبنية على التنجيم، ودهاليز السياسة السخيفة.
gt; تحب أن تتكلم عن تأرجحات الهذيان عند شخصيات الرواية... وتحب أن تصف، على غرار ما فعلت في "ثلج"، الديكور التركي المزخرف إلى أقصى حدود الذهول. ولكنك تعلم أن الغربيين يميلون أكثر إلى تبسيط هذه الأمور لتتماشى مع أغراضهم السياسية الخاصة...
- ليتك تتخيلين عدد الأشخاص الذين يعرفون أنني موالٍ لأوروبا وأنني أرغب بشدة في أن تنضم تركيا إلى الاتحاد الأوروبي والذين لاموني لأن روايتي تناقض تطلعاتي السياسية! في البدء لم أفاجأ بهذا الأمر ولاحقاً سرني. إن آرائي السياسية الشخصية غير مهمة. ويفترض بالرواية، على غرار روايات توماس مان، أن تكون متماسكة إلى درجة تدافع فيها عن رونقها الخاص.
gt; قام كريستوفر هيتشن، في مجلة "ذا أتلنتك منثلي"، بلومك لأنك تراعي وصف الشخصيات الإسلامية المتطرفة في رواياتك أكثر من الشخصيات الأخرى؟
- القاعدة الذهبية بالنسبة اليّ هي الآتية: الرواية الناجحة هي تلك التي تسمح للقارئ بالتماهي مع الشخصيات كلها. والتماهي مع الشخصيات الأكثر غموضاً يعزز نجاح الرواية أكثر فأكثر. والمثل على ذلك هو بالطبع دوستويفسكي.
gt; ماذا عن رواياتك الجديدة؟ تلك التي تتناول المجتمع التركي الراقي ومغامراته الإجتماعية والجنسية في تركيا المعاصرة؟
- لم أحرز فيها أي تقدم بعد، فالمحاكمة أضاعت مني وقتاً طويلاً ولم أعد أستطيع التحمل!
(إعداد قسم الترجمة في "دار الحياة")