جريدة الجرائد

الأرمن بين باموق وفولتير

قراؤنا من مستخدمي إنستجرام
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على إنستجرام
إضغط هنا للإشتراك



بشير البكر


ما الذي يجمع بين حصول الكاتب التركي اوركان باموق على جائزة نوبل، في نفس اليوم الذي اقر فيه البرلمان الفرنسي مشروع قانون يتعلق ب ldquo;الابادة الارمنيةrdquo;، على غرار القوانين الخاصة بالمحرقة اليهودية، والتي تفرض احكاما قضائية قاسية تصل الى عقوبة السجن لعدة سنوات، وفرض غرامات مالية.

لا شيء يجمع بين الحدثين من ناحية الشكل، وربما المضمون. إلا أن الحدث بالحدث يذكر. لقد أثار باموق في السنة الماضية قبل اعلان الجائزة بقليل ضجة من خلال تصريحات ادلى بها، وذكر فيها ان مليون ارمني و30 الف كردي قتلوا في تركيا، وليس هناك من يجرؤ على الحديث عن هذه القضية.

جرى تفسير تلك التصريحات في ذلك الوقت، على انها من قبيل تسويق الاديب التركي لنفسه، عشية اعلان اسماء الفائزين بالجائزة خصوصا وان اسمه بات في قائمة التصفيات الاخيرة، وكانت النتيجة ان الكاتب لم يحصل على الجائزة، لكنه استحق اللعنة والمحاكمة في تركيا، وبقي طيلة هذا الوقت تحت الاضواء بسبب تقديمه الى المحاكمة. فهو من جهة خرج عن الاجماع الوطني في بلاده بسبب ldquo;اهانة الأمة التركيةrdquo;، ومن جهة أخرى تصدى لفتح ملف سياسي بعيد عن اهتمامات الادب والادباء طيلة القرن الماضي. وقد ساهم في زيادة رصيد باموق هنا انه تحمل رأيه بشجاعة، وبقي في وطنه ليواجه المحاكمة، وما كان لهذا الأمر أن يتم لو لم تتقدم تركيا اصلا في اتجاه احترام حرية الرأي والتعبير، وفق مقاييس الاتحاد الاوروبي.

هاهو باموق ينال الجائزة هذا العام، وفي اليوم الذي عاد فيه حديث ldquo;الابادة الارمنيةrdquo; يملأ الأجواء، ويتحول الى حدث اوروبي، بسبب تصريحات الرئيس الفرنسي جاك شيراك خلال زيارته الأخيرة الى ارمينيا. والمفارقة في الأمر هنا هي ان الحكومة التركية سارعت الى تهنئة الكاتب، الذي سبق لها ان احالته الى المحكمة. ويدل ذلك على نضج واستيعاب لاخطاء السنة الفائتة.

لقد تم تصوير محاكمة باموق على انها جزء من الصراع، بين مؤيدي الانفتاح والانضمام لاوروبا وبين معارضي هذا التوجه، لكن في جميع الاحوال ألقت عملية محاكمة الكاتب بظلال سلبية على طلب تركيا الانضمام للاتحاد الاوروبي، ووصل الحال ببعض المسؤولين الاوروبيين الى اعتبار المحاكمة نقطة محك بالنسبة لالتزام تركيا بالاصلاح في ميدان حقوق الانسان، الذي تطالب به اوروبا كشرط للعضوية.

باموق روائي موهوب لكنه ليس من العيار الثقيل من الكتاب الروائيين الذي ينتظر هدية نوبل منذ سنوات، من امثال الامريكي فيليب روث والهندي سلمان رشدي والتشيكي ميلان كونديرا والالباني اسماعيل كاداريه والتركي ياشار كمال، لذا يخشى أن تكون هذه الجائزة عبارة عن هدية مسمومة تأتي في اسبوع ldquo;الإبادة الارمنيةrdquo;.

لايتحمل باموق مسؤولية في كل حال عن تكريمه بالجائزة في هذا الوقت، ولكن المبرر الذي ساقته اللجنة يترك المجال مفتوحا لنقاش لايتوقف بين الشرق والغرب. ومن هنا لايمكن نفي الصفة السياسية عن اختيار الاكاديمية السويدية.

لقد كان الاعتقاد السائد منذ سنوات ان التركي المرشح بجدارة على قائمة نوبل قبل غيره، هو ياشار كمال كاتب ملحمة الاناضول على نحو فذ، وخمّن الكثيرون أن لجنة نوبل ربما أخذت في عين الاعتبار أن هذا الروائي المغبون هو من أصل كردي وتعرض للاستثناء في تركيا لهذا السبب. وقد كان الظن انها سوف تنتصر لأدبه قبل قضيته، لكن الريح ذهبت نحو سفن باموق.

إن من يراقب التطورات بين باريس وانقرة، يجد ان الفرنسيين يبالغون في استعداء تركيا، ولم يكتفوا بالتصريحات التي اطلقها الرئيس شيراك خلال زيارته لارمينيا منذ اسبوعين، وطالب فيها ربط العضوية التركية في الاتحاد الاوروبي، بالاعتراف التركي ب ldquo;الابادة الارمنيةrdquo;. بل قرروا استصدار قرار من البرلمان الفرنسي يضع الارمن في فرنسا في مصاف اليهود.

كان لفرنسا أن تعي مخاطر دفع القضية في هذا الاتجاه، وتتدخل لتضبط ايقاع هذا التهريج منذ البداية، ذلك انه من دون شطط الرئيس ماكان للوبي الارمني ان يصعد ضد تركيا الى هذا الحد. لقد كانت تصريحات الوزير السابق من اصل ارمني باتريك دوفجيان، اكثر من استفزازية، وظهر وكأنه يريد ان يحول البرلمان الفرنسي الى ساحة لتصفية الحسابات مع تركيا، واعتقد البعض لوهلة وهو يسمع خطاباته انه يوجه كلامه الى نواب الامة الارمنية، وليس لنواب فرنسا الذين سبق لهم، وان اصدروا قرارا رمزيا سنة 2001 يعترف ب ldquo;الابادة الارمنيةrdquo;.

يمكن للمرء ان يفهم الجانب العاطفي من حملة دوفجيان، ولكن يجب لفت الانتباه الى ان هذا الشخص لايصفي فقط حسابات تاريخية، بل راهنة ايضا مع الاسلام والشرق، فهو صاحب ماضٍ سياسي عنصري، وكان قريبا جدا من الزعيم العنصري جان ماري لوبين المعادي للعرب والمسلمين، وهو على قرابة حميمة ايضا مع الاوساط الصهيونية، والصديق العزيز والحليف الأول لوزير الداخلية نيكولا سركوزي، ومن هنا يفهم كيف استطاع مشروع القرار ان يمر في البرلمان الفرنسي رغم ان الحكومة عارضته، واعتبرته بلا مبرر. وهنا تكمن نقطة الخلل الرئيسية، فقد كان يتوجب على باريس الرسمية أن تعلن صراحة ان اقصى ما يمكن ان تفعله للارمن هو قانون سنة ،2001 لا أن تتبنى المسألة على هذا النحو المفتوح الذي صار ينذر بأزمة عميقة بين البلدين. ويبرز في هذا السياق سؤال مهم يتعلق باندماج الاجانب في فرنسا، ذلك ان تبني دوفجيان القضية الارمنية الى هذا الحد يعيد طرح القضية من جديد.

بدت القضية مفتعلة ايضا من جانب اوروبا، وهدفها تحريك الرأي العام ضد العضوية التركية المطروحة على الاستفتاء الشعبي قبل ان تأخذ طريقها، لذا تدخلت المفوضية الاوروبية لتطلب في رسالة مفتوحة من النواب الفرنسيين رفض مشروع القرار، وتدخل المفوض الاوروبي لشؤون توسيع الاتحاد ldquo;أوللي ريهانrdquo; للمرة الثانية خلال اسبوع، ليحذر من عواقب التصعيد الفرنسي ضد تركيا، وانعكاساته على الحوار الاوروبي التركي. ووقف البرلمان الاوروبي موقفا مشابها لموقف المفوضية، واعتبر النائب البريطاني نائب رئيس لجنة العلاقات مع تركيا اندرو دوف تصويت البرلمان الفرنسي لمصلحة القرار بأنه ldquo;يوم حزين بالنسبة لحرية التفكيرrdquo;، ونوه الى ضرورة احترام الاختلاف في الرأي، وعدم الذهاب الى حد معاقبة كل فرنسي لايعترف ب ldquo;الابادة الارمنيةrdquo;، وقال ldquo;على فولتير ان يعود الى قبرهrdquo;. ورأى ان القرار خرق فرنسي للمعاهدة الاوروبية لحقوق الانسان. وتساءلت النائبة الفرنسية في البرلمان الاوروبي ماري آن ايسلير المسؤولة عن العلاقات مع ارمينيا ldquo;كيف يمكن تبرير اقرار قانون يحد من حرية التفكير، في حين اننا نطلب من تركيا تعديل قوانينها التي تعاقب من يهاجم الهوية التركية؟rdquo;. وقد لمحت بذلك الى محاكمة باموق في مطلع العام.

تكاد سلسلة التناقضات والمعايير المزدوجة لاتنتهي، حيث كان للفرنسيين أن يضعوا ldquo;الابادة الارمنيةrdquo; في مستوى مقاربتهم ل ldquo;الابادة الجزائريةrdquo;. فهم يردون على الدعوات الجزائرية للاعتراف بهذا الامر بالقول انه من اختصاص المؤرخين. كان للاختصاص ان يسري في الحالة الارمنية ايضا، طالما ان تركيا شكلت لجنة من المؤرخين للنظر في المسألة، وفي مسؤولية دور حكومة ldquo;تركيا الفتاةrdquo;، وقد عقدت هذه اللجنة مؤتمرها الاول قبل سنة.

لم يكن شيراك بالتأكيد يريد ايصال الموقف مع تركيا الى هذه الدرجة من التعقيد، لكنه هو الذي استضاف في قصر الاليزيه قبل شهر مؤتمرا دوليا (الاتلييه الثقافي) في اطار تفاهم الحضارات، وكان نجمه الرئيسي وزير الخارجية التركي عبدالله جول، ألا يفوته ان اثارة القضية على هذا النحو، سوف يفتح امامها المجال لتأخذ مجراها نحو ldquo;تصادم وتشابك الغرب والشرقrdquo;، وهو التيمة التي استندت اليها لجنة نوبل كمبرر لتكريم باموق.

التعليقات

جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف