كيف حوّل البعث الصدامي العراقيين شهداء منتصرين في حروبه المقدسة؟
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال تطبيق تلغرام
إضغط هنا للإشتراك
زهير الجزائري
في بداية الحرب بين العراق وايران (1979) اعتبرت القيادة العراقية قرار المعركة "مبادرة تاريخية عربية". فمنذ فترة طويلة كانت الامة العربية تهاجَم ولا تهاجِم، على ما كتب احد منظّري القيادة البعثية، الدكتور الياس فرح الذي رأى ان هذه المعادلة كادت تتحول قدرا استطاع عراق البعث الصدامي ان يقلبه رأساً على عقب، مستعيداً روح الفتوحات العربية. وتجلت هذه الاستعادة في تسمية الحرب "قادسية صدام"، للايحاء بأن قائدها الحالي وريث الفاتحين الاوائل.
القيادة الايرانية الخمينية بدورها اعتبرت الحرب "حرب الكفر ضد الاسلام"، فقال الخميني ان "البعث في جوهره جاهلية في ثوب جديد". الطرفان، اذاً دخلا حربا يعتبرانها وجودية متأصلة، وبلا اهداف سياسية وآنية. وبتكليف وتوجيه من صدام حسين تكوّن فريق من 18 مؤلفاً ومؤرخاً عراقيا لاعادة كتابة التاريخ العراقي في وصفه تاريخ الصراع العربي - الفارسي، على الأمة المختارة فيه، اي الأمة العربية، أن تقبل عليه اقبالها على قدرها كي تحافظ على نبالتها التاريخية، فتخوض الحرب كأنها رسالتها الدائمة. فبعد مضي سنة على بداية الحرب لم يعد الزمان ولا المكان ولا السياسة حدوداً لها، حسب الياس فرح نفسه، بل الارادة. وهدف الحرب ليس تحرير ارض، بل المهم ان تكون هناك معركة. وكان منظّر البعث الاول، ميشال عفلق، قد دعا العرب الى "مغالبة النفس وصقل الارادة" لخوض النضال لتكون الحياة "بطولة" خالصة، كي تنطلق الامة "مستعذبة الم التضحية في سبيل تحقيق رسالتها في الوجود"، عبر الحرب.
عبادة الشهداء
صدام حسين رأى ان "القيمة التاريخية للانتصار ليست احتلال ارض العدو او تحرير ارض الوطن، بل تدشين عصر جديد من النهوض النفسي". وبعدما فقدت كلمة النصر معناها الملموس في سياق اكلاف الحرب وآلامها الفعلية، كف الاعلام الرسمي عن استخدام كلمة النصر منفردة، ليستخدم عبارات مثل: روح النصر، الثقة بالنصر، ديمومة النصر، النصر النفسي. اما كلمة الفروسية التي تعني التضحية بالنفس، فراحت تتردد كثيرا في الادب الحربي البعثي، لتطابق معنى الشجاعة العمياء التي لا يقاس الاقدام عليها بالاهداف والنتائج. وخلال الحرب استشهد صدام حسين كثيرا بالامام الحسين الذي اعتبره مثالا للفروسية، لأنه دخل معركة يعرف مسبقا انه خاسرها. فالقيمة، القيمة كلها، بحسب عفلق، "تكمن في الصراع" الذي يبلغ القمة حين يكون يائسا وتراجيديا ومقدسا. وهكذا تكون الشهادة اعلى قيم الفروسية.
ثم بدأت عبادة الشهداء: "عليكم ان تتذكروا ان الشهداء اكرم منا جميعا"، قال صدام حسين مخاطبا مجلس وزرائه والقيادة القومية في حزبه، رافعا للمرة الاولى كائنا آخر غيره الى مرتبة اعلى من مرتبته. وقد اطلقت هذه العبارة الصدامية تقليد عبادة الموتى في الدولة العراقية، على مستويات ثلاثة، معنوية ومادية ودينية.
- معنوياً أعلت شأن الشهداء على الاحياء. تجلى ذلك في المدارس بايكال مهمة رفع العلم العراقي في الصباح لأبناء الشهداء الذين يتصدرون الصفوف الامامية للطلاب، قبل ان يبدأ النهار المدرسي في قاعات التدريس، بقيام عرفاء من ابناء الشهداء بكتابة عبارة "الشهداء اكرم منا جميعا" على الالواح المدرسية. والنهار المدرسي في كل صف لا يبدأ قبل ان يقف الطلاب دقيقة صمت محدقين في العبارة نفسها. وهناك توجيهات حازمة للمدرسين تقضي بمعاملة ابناء الشهداء معاملة خاصة: اجلاسهم في المقاعد الامامية، اعفاؤهم من اي عقوبة معنوية او مادية، مهما فعلوا، اضافة 5 درجات لكل منهم عند احتساب المعدلات السنوية.
خلّفت تقاليد عبادة الشهداء نوعا من الحرج للأحياء. ففي المناطق التي كان صدام يزورها يبدأ اولا بالسؤال عما قدمته من شهداء، فيبدو الحرج على المسؤولين الذين لم تقدم مناطقهم ما يكفي من الشهداء لـ"قادسية صدام". لذا كان الاحياء يشعرون بأنهم دون مستوى الوطنية المطلوب، لأنهم احياء. وكتب يوسف الصايغ ان ابنه الصغير عاد مرة من المدرسة الى البيت وراح يبكي، قائلا: لماذا ابي ليس شهيدا، لماذا؟! وذلك لأن المعلمة طلبت من التلامذة التصفيق لابن شهيد، وحرمته منه رغم تفوقه عليه في مسابقة الحساب.
اما اللافتات التي راحت تُرفع في شوارع العاصمة العراقية وغيرها من المدن، فكان يكتب عليها ايضا "الشهداء اكرم منا جميعا، وبشهدائنا نباهي الشعوب، وشهداؤنا في الجنة وقتلاهم (اي الاعداء الايرانيون) في جهنم، وكل عراقي مشروع شهيد".
جنة الشهداء
- ادرك النظام البعثي ان المكافأة المعنوية والالقاب لا تكفي وحدها تعويضا عن فقدان الابناء والازواج في حرب لا يعلمون اسبابها ولم يقتنعوا بها. لذا استوحى صدام حسين تقاليد "الدية" العشائرية ومنح اسرة كل شهيد 10 آلاف دينار وسيارة وبيت او ثمن بيت، مع راتب تقاعدي.
هذه التقدمات وغيرها من الامتيازات التي تزايدت وتكاثر عدد المستفيدين منها مع ازدياد اعداد قتلى الحرب، انشأت طبقة اجتماعية قفزت فجأة من الفقر الى اليسر، ومن الريف الى العاصمة بغداد، حيث توافرت لها امتيازات السكن والعمل والتعليم. وهذا ما ساهم في ترييف المدينة وافقار الريف، وتفكك الروابط العائلية والاسرية بسبب المنازعات على الامتيازات وارث الشهداء. لكن هناك الكثير من الأسر والعائلات التي رفضت التعويضات المادية مفضلة الاكتفاء بالاحتجاج الصامت الحزين.
- في بداية الحرب كانت الصحافة العراقية تسخر من اساليب التعبئة الدينية الايرانية التي اتبعها آيات الله بتعليق مفاتيح الجنة في اعناق المجندين الايرانيين الذاهبين الى جبهات الحرب. لكن بعدما استنفدت اجهزة التعبئة العراقية المكافآت المعنوية والمادية لذوي الشهداء، استوحت اساليب آيات الله نفسها. فبعدما كانت الدعاية البعثية تعتبر الشهيد "اول من يحقق وحدة الشخصية بين الحياة والموت"، راحت تركز على انبعاث الشهيد حيا بعد استشهاده. وظهرت في الصحف العراقية مقالات تؤكد ان الاستشهاد في سبيل الامة والوطن هو استشهاد في سبيل الله، لينتقل الشهيد الى الجنة خالدا مطمئنا. وملائكة الرحمة التي تشهد مصرعه، هي التي تنقل روحه، على محفة من الريش، الى الجنة، حيث يحيا عند ربه شاهداً خالداً. وأشاع رجال الدين بين الناس احاديث عن "نعمة الاستشهاد" وانبعاث الشهداء من موتهم، وخلودهم بعد الاستشهاد. وفكرة البعث هذه جسدها نصب الشهيد، على ما قال مصممه اسماعيل فتاح الترك، مشدداً على العلاقة الحميمة بين الرحم والقبر. فكما يخترق الجنين الرحم كي يولد، ينهض الشهيد من الأرض على شكل مسلّة النصب، صاعداً الى الخلود في السماء.
الحرب الوجودية الأبدية
اراد صدام حسين تصوير الحرب في وصفها حرب الأمة العربية مجتمعة ضد العدو الفارسي، فدعا سنة 1981 الى قمة عربية لم يحضرها سوى ممثلين عن نصف الدول العربية. لكن صدام حسين قال في المؤتمر الختامي للقمة "إن العراق يحارب نيابة عن الأمة العربية، وهو أمين على شرفها. والعراق المنتصر يكون للعرب جميعاً، حتى لو لم يريدوا هذا الشرف". لقد أضفى على عزلة نظامه نوعاً من الدراما البطولية، في اعتبارها قدر العراقيين الذين يقاتلون "وحيدين دفاعاً عن الأمة ونيابة عنها"، ملقياً تبعات هذه الدراما على الدول العربية التي "تقف متفرجة" أو "تطعن العراق في الظهر". وراحت الكتابات البعثية تتحدث عن الحرب "كمدرسة أخلاقية للأمة والاجيال، وتضفي على من يخوضها الحيوية والنبل". وهكذا تحولت الآلام والمآسي مطهراً اخلاقياً يضخم الذات العراقية، ويمتدح عزلة العراق عن البلدان العربية الأخرى، لأنه لا يطل مباشرة على البحر، واقلها اعتماداً على التجارة والسياحة والسفر والاختلاط.
عاش العراقيون سنوات الحرب وسط دوامة من البث الإعلامي المنظم، مرددين ما يقوله النظام من دون ان يصدقوا ما يرددونه، وهذا ما ينطبق بقوة على الشبان. لكن الجميع مقتنع اقتناعاً مكبوتاً ومكتوماً في داخل كل شخص، بأن النظام وصدام حسين هما المسؤولان عن الكوارث التي حلت بالبلاد. لا أحد يصرّح بهذا الاقتناع، لأن النظام بأمنه ومخابراته المبثوثة في كل مكان يسيطر على الشارع. وهكذا عاش الناس نوعاً من الفصام بين الرغبة في الخلاص من النظام والخوف منه ومن العدو في آن واحد. ونجم عن هذا نكوص في الوعي ورضوخ للبث الاعلامي وللواقع اليومي القاسي، ما دام طريق السلامة الوحيد هو اليأس والتسليم بأن "نكون بعثيين"، على ما يقول كثيرون. وكلما تفاقمت النتائج الكارثية للحرب التي أرادها النظام لتصريف "تناقضاته الداخلية، كان يتزايد الانفصال بين وعود الحرب ونتائجها المدمرة وبين تبريراتها العقائدية والسياسية، من دون ظهور أي حلّ قريب في الأفق. وحيال تأبيد الحرب وخطابها عمد الوعي الشعبي الى السخرية من عبارات البث الاعلامي المتواصل، مثل "روح النصر"، و"الشهداء أكرم منا"، وغير ذلك من الأغاني الحربية والأهازيج الحزبية.
ووعد قادة البعث العراقيين بعقد ثان من القتال، معلنين عن تسخير كل طاقات العراق، من الاقتصاد الى الثقافة الى العائلة، في سبيلها، ولخلق مجتمع الحرب الطويلة. وحثت حملات التعبئة الحربية العراقيين على الزواج المبكر وانجاب خمسة أطفال وما فوق لتوفير جيل احتياطي للجيل الذي سيموت في سنوات الحرب الطويلة. وبث القسوة والكراهية هو السبيل الأمثل في برامج التعبئة التي تتجنب معرفة الى أي حد يشكل العدو خطراً جدياً، وتركز على العداوة الوجودية الجذرية والأبدية له، فلا يعود تجسيداً للشر المطلق الذي يخشاه المواطن المقموع والمسلوب الإرادة، فحسب، بل الشر الذي يحمله هذا المواطن في داخله ويخشاه في حال تهاونه في مشاعر العداوة والكراهية حياله.
لازمت القسوة خطب صدام حسين في زمن الحرب، وجعلت القتل في مصاف الديانة: "أضربوا بكل اقتدار، ويقيناً انكم سيف الله في الارض، والرقاب التي تضربونها هي رقاب الفرس المجوس أعوان المهووس خميني". وقد أظهر التلفزيون مرة صدام حسين يضحك مقهقهاً وهو يقلد مجموعة من المقاتلين أوسمة الشجاعة، قائلاً: "جعلتم الغربان والنسور وأبناء آوى والضباع والسمك والسلاحف تنهش أجسادهم، وأظن أن اشلاء البعض لا تزال طافية في مياه الغور". وقبل استخدامه الأسلحة الكيميائية، قال: "حضروا لهم الشوايات (...) ومن يحتاج لقنبلة واحدة لنسف رأسه أنسفوه بعشرة، فلدينا من الذخيرة ما يكفي لإغراق ايران كلها". وهذه الخطابة المهووسة بالقتل والموت والتدمير، جعلت للحرب ومعاركها اسماء دينية. في الجانب الايراني اعتمدت لها اسماء شتى أضيفت الى كلمة رمضان، وفي الجانب العراقي سميت "توكلنا على الله". حتى ان "تقطيع الرقاب" أمسى كناية لازمة عن الإعدام الذي جعله صدام حسين سياسة داخلية في العراق، وبوصفه ايضاً مرآة التاريخ الاسلامي، في قوله: "هكذا كان يفعل أجدادنا في صدر الرسالة".
يعكس هذا الولع بوصف الجثث والرقاب المقطوعة والاشياء المدمرة، حالاً مرضية قوامها حب تحويل الأجساد الحية أجزاء وأشلاء لا حياة فيها. ويندر ان نجد قائداً معاصراً امتلك ولع صدام حسين بتحويل الموت والخراب طقساً احتفالياً، ابتداء من حفلات إعدام اليهود العراقيين سنة 1971، وإعدام القياديين المعارضين سنة 1979، وصولاً إلى إعدام الهاربين من الحرب أمام أعين الناس. وقد دخل هذا الولع في التكوين الرمزي لنصب النصر الذي استخدمت في قاعدته 2500 خوذة حقيقية لجنود ايرانيين قتلوا في المعارك.