الأسلحة السرية لوكالة الاستخبارات المركزية الأميركية
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على تويتر
إضغط هنا للإشتراك
تأليف :غوردون توماس
عرض ومناقشة: محمد مخلوف
(1)
الاستخبارات الأميركية تمارس التعذيب بحق الأسرى منذ خمسينات القرن الماضي ..
في الرابع من شهر يناير 2004، استدعى الرئيس الأميركي جورج دبليو بوش الملحقين الصحافيين في البيت الأبيض وكلفهم أن ينقلوا إلى العالم كله رسالة مفادها أن الولايات المتحدة الأميركية لم تسمح ولن تسمح أبداً بالتعذيب الذي يزعم أن القوات المسلحة والأجهزة الاستخبارتية الأميركية، خاصة وكالة الاستخبارات المركزية، قد مارسته من أجل الحصول على معلومات مفيدة للحرب ضد "الارهاب" التي أعلنها بوش بعد تفجيرات 11 سبتمبر.
كانت الرسالة واضحة، وهي أنه لم يكن مسموحاً لأي أميركي أن يقوم بالتعذيب، ولن يُسمح له أبداً بفعل ذلك والقيام بعمليات استجواب؟ نعم التعذيب؟ كلا.. بالطبع كلا، بل أبدى جورج دبليو بوش دهشته الكبيرة حيال اضطراره للحديث عن تسوية قضية من هذا النوع جهاراً.
لكن قبل ثلاثة أشهر من ذلك التصريح الرئاسي الأميركي، كانت الأحاديث تدور في العالم كله عن عملية "نقل استثنائية" ل"إرهابيين"، حسب قاموس وكالة الاستخبارات المركزية الأميركية المسؤولة عن العملية، إلى مراكز للاستجواب موجودة خارج مجال اختصاصي القضاء الأميركي والموجودة في العديد من مناطق العالم خاصة في آسيا الوسطى ومنطقة البلقان، وكان ألفارو جيل ـ روبلز ـ مفوض حقوق الإنسان في المجلس الأوروبي قد صرح عشية تصريحات بوش بالقول: "يبدو انه قد انشيء معسكر اعتقال حقيقي يمكن لوكالة الاستخبارات المركزية الأميركية ان تستجوب فيه السجناء بصورة مستمرة".
سري للغاية
يؤكد مؤلف هذا الكتاب انه في اليوم الذي أصدر الرئيس الأميركي تكذيبه "المكتوب بعناية فائقة" كان يعرف تماماً ان وزارة العدل في حكومته أصدرت في عام 2002 توصيات رسمية ـ جرى تصنيفها أنها في غاية السرية ـ لطرق استجواب "الإرهابيين" ونص تقرير يحمل عنوان:
"تقنيات محسنة للاستجواب"، لا يزال سرياً حتى الآن ـ لكن المؤلف يؤكد انه استطاع الاطلاع عليه ـ على ان "الضرب على البطن" على مستوى المعدة مسموح، ذلك دون أي ذكر انه يمكن، تبعاً لقوة الضرب إلحاق الأذى بالطحال وبأعضاء أخرى وتسمح هذه الوثيقة بوضوح باللجوء إلى ترك السجين "واقفاً ويداه في الأغلال وقدماه مسمرتان بالأرض لمدة قد تصل إلى 40 ساعة" كذلك تسمح باللجوء إلى "عقاب المغطس" الذي يتمثل بربط السجين على لوح خشبي وغمره بالماء إلى ان يقارب الغرق. وتضم قائمة المسموح به أيضا الحرمان من النوم والشتائم والتهديدات المختلفة.
هذه التوصيات مستوحاة من كتيبين ـ دليلين أعدتهما وكالة الاستخبارات المركزية الأميركية، يحمل الأول عنوان "الاستجواب القسري" والثاني "استغلال الموارد البشرية". ويتم التأكيد في هذا السياق على انه كان لدى وكالة الاستخبارات المركزية في عام 2006 أطباء يعملون بعقود في عدة بلدان وكان يمكنها ان تستدعيهم لحضور جلسات الاستجواب والإشراف على إعطاء العقاقير المناسبة لدفع المترددين إلى الإفصاح عن مكنوناتهم.
وقد جاء في "دليل" وكالة الاستخبارات المركزية الأميركية ما نصه: "يمكن للمخدرات ان تكون فعالة لقهر مقاومة لم يتم التمكن من قهرها بالوسائل الأخرى، ان استخدامها بشكل صحيح ـ أي مع أخذ شخصية المعني بالحسبان، وحساب جيد للجرعة ـ يمكنه ان يتبين انه خير حليف ولا يمكن مقارنة قيمته مع غيره بالنسبة للمحقق".
اشرف على إعداد الكتيبين ـ الدليلين لوكالة الاستخبارات المركزية الأميركية طبيبان نفسيان شهيران هما الدكتور "جوليان ويست"، المدعو "جوللي" المدير السابق لقسم علم النفس في جامعة لوس انجلوس من الدكتور "وليام سارجانت" مؤسس ومدير قسم الطب النفسي في مستشفى سان توماس بلندن.
وقد بقي هذان الطبيبان على صلة وثيقة لوكالة الاستخبارات الأميركية وبجهاز الاستخبارات البريطاني "إم آي 6" حتى نهاية حياتهما، وما يؤكده مؤلف هذا الكتاب هو أن ما يعدم أكثر يتمثل في واقع ان الطرق التي اخترعاها لم تتبدل إلا في نقطة واحدة وهي ان العقاقير التي "انتجاها" للتأثير على القدرات الذهنية وأدوات التعذيب التي توصلا إليها أصبحت أكثر تقدماً.
ويشير المؤلف في هذا السياق إلى ان السجناء المتهمين بالإرهاب الذين أظهروا قدرتهم على مقاومة الطرق والتقنيات المنصوص عليها في توصيات وزارة العدل الأميركية جرى نقلهم إلى تلك "المواقع السوداء"، أي مراكز التحقيق في العديد من بلدان العالم، والتي أكد الرئيس جورج دبليو بوش انه لم تتم أية عملية تعذيب باسم الولايات المتحدة.. تقرأ ما نصه:
"في الوقت الذي أدلى فيه الرئيس ـ بوش ـ بذلك التصريح، كانت منظمة العفو الدولية قد أعلنت للتو انه يوجد حالياً 90 بلداً تتم فيها ممارسة التعذيب. وقبل شهر أي في 5 ديسمبر 2005، هبطت طائرة نقل تابعة للقوات الجوية الأميركية في خليج غوانتانامو بكوبا وكان على متنها خمسة كراسي تثبيت قيمة كل منها ألف وخمسمئة دولار..
ووصل 20 كرسياً آخر بعد عشرة أيام من تكذيب بوش، وكانت إدارة البحث والتطوير في وكالة الاستخبارات المركزية الأميركية هي التي قامت بتصميم تلك الكراسي من أجل هدف محدد هو وضع حد للإضراب عن الطعام الذي يقوم به سجناء غوانتانامو أو مراكز الاعتقال الأخرى التي تديرها الوكالة وكان يتم ربط السجناء على هذه الكراسي ثم تجري تغذيتهم قسراً عن طريق أنبوب يتم إدخاله عن طريق الأنف أو الحلق أو الوريد وكان يجري أحياناً سحبه بعنف يؤدي إلى النزيف الدموي أو فقدان الوعي".
ويضيف المؤلف: "ان معتقل غوانتانامو يعج بالسجناء الأفغان والباكستانيين الذين جرى اعتقالهم دون سبب جدي.. وهم في اغلب الأحيان رجال وشى بهم أشخاص تثير المكافآت المالية اهتمامهم أكثر من الحرب ضد الإرهاب ويؤكد المحامون المختصون في ميدان حقوق الإنسان ان 8% فقط من السجناء جرى تصنيفهم على أنهم مقاتلون في صفوف تنظيم القاعدة .
وان أقل من نصفهم قد اقترفوا، حسب وثائق البنتاغون، اعمالاً معادية للولايات المتحدة.. وبكل الحالات رفض "البيت الأبيض" القيام بأي تعليق حول ما يجري في غوانتانامو أو غيره من مراكز التحقيق "المواقع السوداء" التي لا تحترم اتفاقية الأمم المتحدة لعام 1984 التي تمنع التعذيب والموقعة من قبل الولايات المتحدة الأميركية.
ومما يثير حفيظة منظمة العفو الدولية هو ان السجناء المعنيين لم تتم أية محاكمة فعلية لهم حتى عام 2006 وليس لهم الحق باختيار محاميهم وبمحاكمتهم امام لجنة محلفين وباستئناف الأحكام الصادرة بحقهم وعندما ستتم محاكمتهم ستكون امام قضاء عسكري وسيكون محاموهم مواطنين أميركيين توافق عليهم وزارة الدفاع.
وإذا أراد أي سجين الاستئناف، فإن ملجأه الوحيد سيكون "التوجه إلى وزير الدفاع دونالد رامسفلد" وليس هناك ما يرجى انتظاره من هذا الرجل، الأكثر تشدداً في الإدارة الأميركية الحالية سوى تأكيد الحكم الذي أصدرته المحكمة العسكرية.
رسائل الانتراكس
ويعود مؤلف هذا الكتاب إلى شهر أكتوبر 2001 أي بعد أسابيع فقط من تفجيرات 11 سبتمبر ففي ذلك الشهر ـ أكتوبر ـ عرفت أميركا موجة من الرسائل مجهولة المصدر التي تحتوي على بودرة مادة "الانتراكس" ذات السمية الشديدة.. والتي تنتشر بسرعة كما انها قاتلة بالتأكيد إذا لم يتم تشخيص الإصابة بها وتقديم العلاجات المناسبة بسرعة فائقة وسرى ذلك التهديد مثل النار في الهشيم.
كما سرت الإشاعات من كل نوع ولون وقال بعضها ان مليارات من جزيئات "الانتراكس" يمكن ان تنتشر في الأجواء قبل ان "تحط" في الشوارع والحدائق وعلى الأشجار وحافات النوافذ بل وتتسرب إلى داخل البيوت عبر فوهات المداخن ولم تستطع وكالة الاستخبارات المركزية ومكتب التحقيقات الفيدرالي الأميركي معرفة مصدر "الانتراكس" وحتى عام 2004 كان أمر هذه المادة لا يزال سراً ولم يكن قد جرى توجيه الاتهام رسمياً لأحد.
وبعد تفجيرات 11 سبتمبر بفترة وجيزة اعترف البنتاغون بأن الولايات المتحدة كانت قد كدست في قاعدة "نيلليسن" أحد أكثر القواعد سرية في البلاد، أكبر احتياطي من الأسلحة البيولوجية والكيميائية في العالم وكان الجزء الأعظم من هذا الاحتياطي من تصنيع علماء وكالة الاستخبارات المركزية الأميركية، احد أولئك العلماء كان أخصائي شغوف بالكيمياء الحيوية، وهو أحد الرواد في الأبحاث التي أدت إلى تكديس ذلك المخزون الهائل.. واسمه "فرانك أولسون".
ويذكر المؤلف انه في ذلك اليوم من سبتمبر 2001، كان ايريك ـ ابن فرانك أولسون ـ في السادسة والخمسين من عمره، قد أصبح خبيراً في ميدان علم النفس الطبي، ويسكن مع أسرته في بلدة فريدريك بولاية ميريلاند غير بعيد عن المكان الذي كان يعمل فيه والده لحساب وكالة الاستخبارات المركزية الأميركية.
وفي الوقت الذي كانت تعاد وتعاد مشاهد الخراب الذي سببته تفجيرات 11 سبتمبر على شاشات التلفزة كان اريك امام حاسوبه الذي سجل عليه العديد من الوقائع الغريبة الخاصة بوفاة والده والتي كان من بين الأكثر إثارة للدهشة منها قوله: لقد اغتيل أبي لأن وكالة الاستخبارات المركزية كانت تخشى فضح أكبر سر أميركي في فترة الحرب الباردة وربما أكبر سر في جميع الأزمنة. إنه سر أبحاث الوكالة المركزية حول الأسلحة الكيميائية والبيولوجية وآليات السيطرة الذهنية، وكان أبي قد لعب دوراً مهماً في هذين البرنامجين.
وفي معرض الحديث عن قصة "فرانك أولسون" يعود مؤلف هذا الكتاب إلى يوم 28 نوفمبر 1953 حيث وجد أرمان باستور المسؤول الليلي في فندق ستاتلر في مانهاتن، رجلاً لا يرتدي سوى ثيابه الداخلية ممدداً على الرصيف ومضرجاً بالدماء، ولم يكن سوى فرانك أولسون الذي كان يشغل الغرفة رقم 1018 في الفندق التي وجد أرمان باستور والشرطيان اللذان رافقاه شخصاً آخر فيها هو الدكتور روبرت لاشبروك، الاختصاصي أيضاً بالكيمياء الحيوية والذي اكتفى بالقول إنه يعمل لـ "حساب الحكومة".
قصة جراثيم فرانسيسكو
لقد توفي فرانك أولسون عند نهاية الحرب الكورية وبداية الحرب الباردة، وقد اكتشف ابنه ايريك فيما بعد، كما يشير المؤلف، انها أيضاً كانت الفترة التي بدأ فيها والده بالإعراب عن شكوكه لزوجته أليس فيما يخص أخلاقيات عمله وحيال التجارب السرية وكم هي غير شرعية تلك التي يقوم بها زملاؤه في وكالة الاستخبارات المركزية الأميركية لاختبار فعالية بعض الجراثيم على البشر. فقرأ: "جرى نشر جراثيم حية في سان فرانسيسكو بواسطة رشاشات.
وظهرت على السكان أعراض شبيهة بالرشح، لقد أدخل الكثيرون إلى المستشفى وتسبب حدوث وفيات عديدة فيما بعد إلى تلك التجربة، وترتب على ذلك رفع دعوى ضد الحكومة لكن لم تؤد إلى شيء، كان فرانك أولسون هو الذي أعد الطريقة المستخدمة لنشر الجراثيم في سان فرانسيسكو".
وكان ذلك النوع من التجارب قد حظي بمباركة رجل مشى وراء الجميع في جنارة فرانك أولسون في ذلك اليوم البارد من نوفمبر 1953، كان أحد الرجال المهمين في وكالة الاستخبارات المركزية وكان اسمه "سيدني غوتليب" .
ولمدة تزيد على عشرين سنة لم يبق من هذا الاسم سوى ذكرى باهتة في ذهن اريك أولسون، إلى أن نشرت صحيفة "الواشنطن بوست" في شهر يونيو 1975 مقالاً تحت عنوان "الكشف عن سر انتحار" وجاء فيه إن "موظفاً مدنياً كان يعمل لحساب الجيش وجدوه ميتاً بعد أن ألقى بنفسه من نافذة فندق في نيويورك بعد أن أعطي مخدر ال. اس. دي أثناء اجتماع لوكالة الاستخبارات المركزية". فهم ايريك في الحال أن المقصود هو والده.
وفي عام 1994 أخرج اريك نعش والده، وكانوا قد قالوا للعائلة ـ كما قال اريك للمؤلف ذات يوم ـ بأنه لا يمكن رؤية جثة فرانك لإلقاء نظرة الوداع الأخيرة "لأنها كانت مشوهة جداً وأن السقطة أدت إلى آثار خطيرة في الوجه، وفي الحقيقة كان قد جرى تحنيط الجثة وكانت عملياً بحالة ممتازة، لقد اكتشفنا عندها التواء آخر في نسيج الأكاذيب التي أحاطت بموت والدي".
ودلت عملية التشريح التي قام بها فريق من الأطباء الشرعيين تحت إدارة البروفيسور جيمس ستار من جامعة جورج واشنطن، على أن "وفاة فرانك أولسون تسمح بالتفكير بعملية القتل عمداً". إذ ليس هناك أي جرح على الوجه أو الرقبة يدل على أن السقطة سببت الوفاة، بالمقابل هناك كدمة زرقاء واسعة تحيط بالعين اليسرى توحي بأنه "تعرض للضرب على الرأس بآلة راضة قبل الإلقاء من النافذة".
هذه "الآلة الراضة" يمكن أن تكون ضربة بقبضة اليد، ان هذه الطريقة في القتل موجودة بين طرق الاغتيال الموجودة في دليل وكالة الاستخبارات المركزية الأميركية الذي نجح اريك بالحصول على نسخة منه كما يقول مؤلف هذا الكتاب.
ويشير مؤلف هذا الكتاب أيضاً إلى أن العديد من أجهزة الاستخبارات الخارجية كانت قد اهتمت بوفاة فرانك أولسون، ومن بينها جهاز الاستخبارات السوفييتي "كي جي بي" وجهاز الاستخبارات الألماني الشرقي "ستاسي" ويضيف اعتماداً على الوثائق التي اطلع عليها بعد انهيار النظام السوفييتي أن اغتيال فرانك أولسون كان محط دراسة جهاز الاستخبارات البريطانية "إم آي" وجهاز الاستخبارات الخارجية الفرنسي "دي. اس. تي" ثم نقرأ:
"إن جهاز الموساد هو الذي جنى أكبر الفوائد من تلك الوفاة، إذ اعتباراً من عام 1976، عندما وضع الرئيس الأميركي جيرالد فورد حداً لجميع عمليات الاغتيال التي تقوم بها وكالة الاستخبارات المركزية الأميركية، عهد سراً بالتخلص من أعداء الولايات المتحدة إلى جهاز الموساد.
ويقدر انه قام منذئذ بقتل ما يزيد على ألف شخص من أعداء الولايات المتحدة وإسرائيل، وإحدى الطرق المتبعة شبيهة بالانتحار المزيف لفرانك أولسون. ولا تزال هذه التقنية مستخدمة من قبل وحدة كيدون المختصة بالاغتيالات داخل الموساد والتي تؤيد دولة إسرائيل عملها".
ويتحدث مؤلف هذا الكتاب عن قضية أخرى لها علاقة بقضية قتل فرانك أولسون، وتتعلق باغتيال عميل خدم لسنوات طويلة داخل جهاز وكالة الاستخبارات المركزية الأميركية، وكان يعرف أيضاً بالتجارب السرية للباحثين العمليين في الوكالة.
اسمه وليام "بيل" بومكي، وبعد أن كان قد خدم لفترة في مكاتب الوكالة جرى تحويله إلى القسم العلمي والتكنولوجي للعمل في مشروع أعطوه تسمية "ام. كي. الترا" والذي كان يهدف إلى دراسة وسائل استغلال العقل البشري، وكان المشرف عليه هو الدكتور "غوتليب" الذي كان شديد الاهتمام أيضاً ب"الأسلحة الجرثومية".
لم يكن "بيلي بوكلي" شخصاً كفئاً فحسب وإنما كان أيضاً صديقاً جيداً جديراً بالثقة. وكان باستطاعته أن يعمل بوظيفة مرموقة في "وول ستريت" أو في الحكومة، لكنه فضل العمل في وكالة الاستخبارات المركزية لأنه "لم يكن لدى الولايات المتحدة أبداً حتى حينه وكالة استخبارات بتلك الأهمية والتنظيم في زمن السلم" على حد قول مؤلف هذا الكتاب الذي التقى به للمرة الأولى في روما ثم يشير: "فيما بعد وخلال لقاءاتنا في بيروت أو في الأمكنة الأخرى بدأ بوكلي يتحدث لي بصراحة أكثر فأكثر عن الماضي، ويصف لي شخصيات المتورطين في عمليات.
لقد تحدث لي عن تجارب السيطرة الذهنية على الآخرين وعن الفترة التي كان فيها في كوريا، هكذا أصبح بيل بوكلي، أحد مصادر معلومات هذا الكتاب وأحد شخصياته الرئيسية.
وكان بوكلي قد غدا صديقاً مقرباً من وليام كيسي، مدير وكالة الاستخبارات المركزية الأميركية لعدة سنوات، وتحول "الاحترام المتبادل" بينهما في البداية إلى "صداقة حقيقية"، نقرأ: "لقد أصبح عندها المساعد الخاص لكيسي وكان يرافقه غالباً إلى القواعد الخارجية لوكالة الاستخبارات المركزية، خاصة إلى منطقة الشرق الأوسط، وكانت تلك الأسفار تنعش لدى بيل بوكلي رغبة العودة إلى ميدان العمل".
في شهر يونيو 1981 جرى تعيين بيل بوكلي، مديراً مساعداً لفرع وكالة الاستخبارات المركزية في القاهرة، وكان مؤلف هذا الكتاب موجود في العاصمة المصرية أيضاً، وهناك تحدث طويلاً، ثم كان لهما لقاء آخر في صيف عام 1982، وهذا ما يصفه المؤلف بالقول:
"لقد التقينا وسط حشد من جنود المارينز الأميركيين عند شاطئ البحر في بيروت لنرقب مقاتلي منظمة التحرير الفلسطينية وهم يغادرون المدينة بعد عمليات القصف الإسرائيلية التي جعلت مقر قياداتهم في بيروت خرائب، وكان رونالد ريغان، الذي حل في البيت الأبيض قبل فترة قصيرة قد أعطى الضمان لياسر عرفات بالمرور آمنين وكان بوكلي هناك كي يتحقق من أن الإسرائيليين لن يهاجموا قوات منظمة التحرير وهي تصعد إلى السفن قاصدة "تونس".
وكان هناك لقاء آخر بين الرجلين في شهر مارس من عام 1983 وإنما هذه المرة في واشنطن، وفي نفس المساء أعلن التلفزيون عن تفجير أمام سفارة الولايات المتحدة في بيروت، وكان من بين ال16 قتيلاً عدد من عملاء وكالة الاستخبارات المركزية الأميركية من بينهم روبرت آميس رئيس فرع الوكالة في الشرق الأوسط، وكان قد وصل إلى لبنان منذ أربع وعشرين ساعة فقط.
كان بوكلي على أهبة الاستعداد للعودة إلى بيروت من جديد، وقد قال لمؤلف هذا الكتاب قبل سفره: "اسمع، هناك أمر قد يهمك، إن الإسرائيليين يقولون إن حزب الله قد بدأ بتحديث بنيته، وقد وظف طبيباً اختصاصياً بوسائل السيطرة الذهنية فان قد أمضى دراساته في روسيا وإذا عرفت المزيد عن هذا الأمر سوف أخبرك بذلك ثم يردف المؤلف قائلا:
كانت تلك هي الكلمات الأخيرة التي قالها وليام بوكلي لي ويضيف: إلى جانب قضيتي بيل بوكلي وفرانك أولسون اكتشفت قضية أكثر إثارة للصدمة من أغلبية القضايا التي قمت بالتحقيق حولها خلال مسيرتي المهنية كلها.
ويتصدر بتلك القضية دور الدكتور سيدني م. غوتليب المتوفى في 7 مارس 1999 ونسبت وفاته إلى أزمة قلبية كما كان سائدا في عائلته وقد مشى في جنازته حشد متنافر من البشر بينهم عملاء متقاعدون من وكالة الاستخبارات المركزية الذين لم يفقدوا أبداً عادة تفحص أية حالة قبل الدخول إليها وأعضاء فرقة دينية تتبنى فلسفة "الزمن" الصينية وأطفال من المدرسة المحلية.
عاش "غوتليب ثمانين سنة"، أمضى 22 منها في الظل كمدير للقسم العلمي في وكالة الاستخبارات المركزية وحيث اشرف من ذلك الموقع على إجراء تجارب لتأثير المخدرات وخاصة ال"ال اس دي" على البشر وكان يفترض ان يمثل قبل وفاته بخمسة عشر يوما فقط أمام محكمة نيويوركية بشأن عملية "تسميم" احد ضحاياه الكثيرين كان ذلك في باريس عام 1952.
كان الضحية في ذلك اليوم هو رسام شاب يدعى ستانلي ثمليكمان وكان الدكتور غوتليب قد دس له السم في كأس قدمه له في إحدى المقاهي الباريسية وذلك بعد ان وقع الخيار عليه لإحدى التجارب لكن ملف التحقيق أغلق بالطبع مع وفاة الدكتور غوتليب وفي يوم وفاته أيضاً أصر أريك ولسون على ان لا يتوقف عن البحث عن دوره في قتل ابيه عام 1953 وأصبح يدعو الدكتور غوتليب صراحة بتعبير "قاتل ابي".
ويشير مؤلف هذا الكتاب إلى أن العديد من رؤساء وكالة الاستخبارات المركزية الأميركية من آلن دالس الرئيس الخامس للوكالة حتى ريتشارد هيلمز رئيسها الثامن الذي يروي المؤلف عنه انه منذ وصوله إلى مقر الوكالة بعد تعيينه مديرا لها استدعى الدكتور سيدني غوتليب واستمع له ساعات ثم قال له:
سيدي كل ما تريده سوف تحصل عليه..ومهما يكن.. لكن الأمر اختلف تماما مع وصول وليام كولبي إلى إدارة الوكالة الاستخباراتية الأميركية.. إذ أنه أفشى ما يقوم به غوتليب من نشاطات إلى الكونغرس الأميركي وكانت تلك هي المرة الأولى التي تكشف فيها وكالة للاستخبارات أسرارها هي بنفسها كما يعلق المؤلف.
وكان الدكتور سيدني غوتليب قد أخفى طيلة الاثنين وعشرين عاما التي أمضاها في الوكالة المركزية الأميركية للاستخبارات طبيعة عمله عن أسرته وعن اقرب أصدقائه وكان رجلا كتوما مما ساعده على الاحتفاظ بوظيفته رغم كل "التصفيات" التي عرفتها أجهزة الوكالة. أما الصورة التي اشتهر بها فهو انه كان رجل علم حازم ومستعد باستمرار لتجاوز حدود الأخلاق من اجل تجاربه.
وفي أوج فترة الحرب الباردة تلقى وزير الدفاع الأميركي وثيقة بأن "غوتليب" احد محرريها وقد جاء فيها "ان الولايات المتحدة الأميركية هشة جدا في مواجهة هجمات جرثومية ومن الضروري إنتاج أسلحة أكثر فعالية مما تمتلك الآن في هذا الميدان.
فينبغي علينا ان نكون في مستوى الرد" هذا وقد وافق الكونغرس سرا على ميزانية مقدارها 90 مليون دولار من أجل تجديد ترسانة منذ زمن الحرب العالمية الثانية بالقرب من مدينة بين يلوت الصغيرة في اركانساس وحيثما كانت توجد مصانع لإنتاج الجراثيم بكميات كبيرة.. لم يكن ذلك الموقع سوى جزء من إمبراطورية الدكتور سيدني غوتليب ذات الأطراف المترامية أكثر فأكثر.
كان سيدني غوتليب ابن أسرة يهودية هاجرت من المجر وكان في وقت مبكر قد جعل من جوهر نشاطاته العمل على إيجاد طرق جديدة لإخضاع الآخرين ذهنيا وجعلهم يطيعون بدون تردد جلاديهم وهذه كانت مهمته داخل وكالة الاستخبارات المركزية الأميركية.