جريدة الجرائد

الأرمن والأتراك والفرنسيون

قراؤنا من مستخدمي إنستجرام
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على إنستجرام
إضغط هنا للإشتراك

الخميس: 2006.10.19

كيراكوس قيومجيان


استغرب وبأسى التصريحات النارية التي يطلقها المسؤولون الاتراك هذه الايام، وعلى أعلى المستويات، والمظاهرات التي تنظم امام السفارة الفرنسية في تركيا وفي دول عديدة، حيث الجميع يستنكرون مشروع القانون الذي اقره البرلمان الفرنسي لتجريم كل من ينكر ويشكك في حقيقة الابادة الارمنية التي نفذت على ايدي العثمانيين في خضم الحرب العالمية الاولى وراح ضحيتها 1.5 مليون ارمني، استغرب ويستغرب معي كل انسان له اقل معرفة بالتاريخ الحديث لمنطقة الشرق الاوسط وشرق اوروبا، حيث ان الحدث معروف للجميع وموثق في جميع الوثائق ومدموغ في ذاكرة كل انسان ينتمي للمنطقة.
اتساءل لنفسي ما بالهم جيراننا الاتراك اقاموا الدنيا حول العالم ولم يقعدوها استنكارا لهذا القرار الانساني، وانهم بدل التصالح مع الذات وتبني مبدأ الاعتراف بالذنب فضيلة واعطاء كل ذي حق حقه يكيلون الاتهامات يمينا وشمالا، تارة بحجة عدم صحة وقوع المجزرة اصلا، ومرة بحجة عدم جواز بحث الموضوع سياسيا بل وجوب تحويله الى المؤرخين لبحثه ومناقشته، تارة بأن عدد الضحايا مبالغ فيه، وتارة بأن الارمن هم الذين اعتدوا على الاتراك وليس العكس، واخر صرعة الاتهامات ان فرنسا نفسها يجب ان تنظر الى تاريخها الاستعماري الدامي أولا بدل اعطاء دروس في الاخلاق للاتراك.. الخ.
في معمعة نشرات الاخبار في الفضائيات العربية والتعليقات والمقابلات التي تجرى، وفي خضم التحليلات المتناقضة في تلك المحطات والوكالات او الصحف المحلية او العالمية رأيت ان اوضح بعض الامور حسب تسلسل الاتهامات منعا للالتباس:
ان صحة وقوع المجزرة لا لبس فيها ومعلومة في كل العالم (ويا للأسف ما عدا الاتراك) نعم الموضوع ليس اكاديميا بل سياسي واجتماعي واخلاقي ومتعلق بحقوق دم مهدور لمليون ونصف مليون انسان كانوا يعتبرون مواطنين اتراكا، ذنبهم الوحيد وقوفهم حاجزا امام الاطماع التوسعية الطورانية، وكذلك وجودهم على خط التماس في الحرب مع الروس وعلى اراض كانت ارمنية قبل الغزو والاحتلال العثماني، وكذلك ما نفع هدر الوقت بتشكيل لجان لنبش التاريخ للبحث عن واقعة هي واضحة وجلية، كما انه ما جدوى التأكد من الاعداد سواء بالزيادة او النقص حيث انه 'من قتل نفسا بغير حق فكأنما قتل الناس جميعا'.
اما بدعة بث شرائط يظهر فيها ضحايا اتراك بزعم انهم قتلوا بيد الارمن، فهذا افتراء واضح يصعب عليهم ايجاد من يصدقه، حيث انه لا يعقل أن امبراطورية جبارة تحارب بجيوش جرارة في اسيا الوسطى واوروبا وشمال افريقيا باقتدار لا تستطيع حماية مواطنيها داخل بلدها، مع العلم بأن جميع رجال الارمن كانوا في صفوف الجيش على الجبهات يدافعون عن الاراضي التركية حينذاك.
اما ما يخص استراتيجيتهم الهجومية على الخصم باتهام برلمان فرنسا بأن قراره غير ديموقراطي من ناحية عدم امكان التباحث في الموضوع بعد صدور القرار، وكذلك اتهام دولة فرنسا بتاريخها الاستعماري فهنا الدهشة تفرض نفسها مرة اخرى حيث ان تركيا ذاتها هي التي اصدرت أخيرا قانونا لتجريم اي انسان يأتي بذكر جملة 'مجزرة الأرمن' على لسانه وبأي صيغة كانت على الأراضي التركية، والعجب ان هذه الدولة تتجرأ على لوم الاخر لاتخاذه قرارا مشابها وتتجاهل التنكيل بحق الروائي الفذ الشجاع السيد اورهان باموك الذي تمت جرجرته في المحاكم لمجرد تصريحه لاحدى الصحف السويسرية عن ضرورة عدم انكار قتل مليون ارمني من قبل الدولة وتنسى بسرعة الاهانات التي تعرض لها الكاتب - كما رأينا في الفضائيات - ويا لسخرية القدر فقد نال الكاتب جائزة نوبل للاداب لهذا العام في اليوم نفسه الذي اصدر فيه البرلمان الفرنسي قراره العادل 'يا ما انت كريم يا رب.. تمهل ولا تهمل' وانني بهذه المناسبة اهنئ الكاتب اورهان باموك لجائزته الرفيعة وشجاعته العظيمة وادعو بقية الادباء والسياسيين الاتراك الى التحلي بالنخوة والشهامة ذاتها.
وبالعودة الى موضوع اتهام فرنسا بأن لها تاريخا استعماريا في الجزائر وفي دول افريقية اخرى، فإنني ورغم استنكاري الكامل لأي فعل استعماري دموي من اي دولة كانت بحق اي دولة اخرى، ولكنني كمراقب غير ملم بتفاصيل ذلك الموضوع وشخص غير مؤهل ومكلف للدفاع عن فرنسا، ارى بأنه شتان ان تتشابه الدولتان بماضيهما وحاضرهما، فلا مجال للمقارنة حيث ان الفرنسيين اليوم كما يعرف الجميع يؤوون ملايين الجزائريين ومواطني بقية مستعمراتهم السابقة في فرنسا ويمنحونهم العيش الكريم والجنسية الفرنسية مع كامل الحقوق وان هؤلاء الافراد يحولون مليارات اليوروهات وينعشون اقتصاديات عائلاتهم وبلدانهم، وانك اذا خيرتهم اليوم بين العودة الى الجزائر والبقاء في فرنسا فان 90% منهم على ما اظن سوف يفضلون البقاء عند مستعمريهم لما يتمتعون به من رفاهية تصل احيانا لدرجة الدلع، اما لو اخذنا من باب المقارنة حالة الاتراك مع الارمن او حتى مع بقية الاقليات التي كانت تعيش في الوطن التركي حينذاك فسنرى بوضوح ان الفرق شاسع جدا جدا حيث لم يبق من الارمن الناجين الا القليل بعد تهجيرهم من اراضيهم عنوة حيث تفرقوا وتشتتوا حول العالم، اما الباقون فمغلوبون على امرهم لا يتمتعون من حقوق المواطنة الا بالقليل وشبه مضطهدين ومقهورين تفرض عليهم سياسة التتريك القومي قسرا، ولا يتجرأون على التحدث بلغتهم الام والافصاح عن اصلهم.. الخ.
اما ما يخص علاقات الدول بين بعضها في الوقت الراهن وبعد مرور عقود على الاستعمار او الاحتلال فإن فرنسا تقف بجانب الجزائر وتؤازرها من النواحي السياسية والاقتصادية منطلقة من النبل القومي وهذا موقف مشرف منها لا شك. اما ما تفعله تركيا مع ارمينيا اليوم هو عكس ذلك تماما ولا يرتقي لإحساس الجيرة والصداقة وادنى درجات الرحمة، حيث ما تفعله تركيا مع الاسف هو الحصار التام للحدود الدولية الوحيدة مع العالم الخارجي، قاطعة طرق التموين والطاقة، وخناق مدمر لاقتصاد وشعب ارمينيا والامتناع عن بدء علاقات دبلوماسية مع ارمينيا قبل قبول ارمينيا لشروط تركيا التعجيزية واولها عدم ذكر المجازر والاحتفال بذكراها واشتراط حل خلافنا الحدودي مع اذربيجان من الطرف الاخر من الحدود وهي ليست طرفا فيه والمراهنة على اركاع الشعب الارمني واذلاله من العوز والفقر وتطبيق سياسة لوي الذراع غير المتكافئة لقبول شروطهم الظالمة يا له من تشابه!.
نعم استغرب من تركيا ويعتصر قلبي من كل هذا ويستغرب معي جميع احرار المجتمعات المتمدنة الابتعاد عن السلم والمصالحة تحليا بالروح النبيلة السامية التي يجب ان تتمتع بها اي دولة ترغب في دخول النظام الدولي الحديث المتحضر وخاصة المجتمع الاوروبي.
اما شكري وامتناني فللبرلمان الفرنسي لاتخاذه ذلك القرار الشجاع العظيم فلم ينسني اياه اي ضجة يخلقها اي كان.

imcck@imcck.com

التعليقات

جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف