جريدة الجرائد

بريطانيا.. وجدل الانسحاب من العراق

قرائنا من مستخدمي تلغرام
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال تطبيق تلغرام
إضغط هنا للإشتراك

الجمعة: 2006.10.20

أمير طاهري

في عام 1961 تجمعت القوات الكويتية على الحدود مع العراق حديثة الاستقلال بينما كان رجل العراق القوي الكاريزمي اللواء عبد الكريم قاسم يتحدث عن الضم. غير انه وقبل اطلاق طلقة واحدة، ألغى عبد الكريم قاسم العملية، والسبب كان الرسالة التي تلقاها عبر الاصدقاء السوفيات من ان الهجوم العراقي على الكويت سيواجه مقاومة من قوة بريطانية خاصة في طريقها للمنطقة. وننتقل بسرعة الى عام 1969، ونجد القوات البريطانية تساعد سلطان مسقط على سحق تمرد في منطقة الجبل الاسود.

وبعدها بعامين تمكنت قوة بريطانية خاصة اخرى، هذه المرة بمساعدة من القوات الايرانية، من هزيمة تمرد شيوعي، بدعم من ضباط كوبيين وألمان شرقيين في ظفار.

وننتقل الى عام 1979 الذي شكل فيه اية الله صادق روحاني جيشا من "المتطوعين" لغزو البحرين وربطها بالجمهورية الاسلامية التي شكلها حديثا الخميني. وفجأة اختفى جيش روحاني بنفس السرعة التي ظهر بها، مثل السراب. السبب؟ بعثت رئيسة الوزراء البريطانية انذاك مارغريت ثاتشر "برسالة حازمة" الى الخميني تبلغه ان أي هجوم على البحرين سيعتبر هجوما على بريطانيا. (طبقا للمنشق السوفياتي فلايمير خوزشكين الذي كان يعمل في جهاز الاستخبارات السوفياتي، فإن السوفيات نقلوا رسالة ثاتشر).

وقد اعيد تأكيد التزام بريطانيا بالدفاع عن اصدقائها في المنطقة في عام 1990 عندما شن صدام حسين عملية لضم الكويت.

الا انه يبدو ان هذا الالتزام انتهى في الاسبوع الماضي بعد المقابلة الصحافية التي اجريت مع قائد الجيش البريطانية الجنرال سير ريتشارد دانات. والهدف الرئيسي لانتباه سير ريتشارد هو وجود القوات البريطانية في العراق، وعددهم 7100. فقد اعتبر وجودهم مسؤولاً عن اسالة الدماء في الداخل والخارج ونصح بسحبهم "قريبا".

وبالطبع فإن كلمة "قريبا" هي صياغة ادبية بل شاعرية، واستخدامها من قبل رجل عسكري، الذي يفترض التزامه الدقة، هو شيء يثير الدهشة. فلا يجب على الجنرال استخدام تعبيرات يمكن تفسيرها بطرق مختلفة، طبقا لمن يسمعها. الجنرال يقول "في يوم" او في "اسبوع" او في "عام"، ولكنه لا يقول "قريبا". ربما كان سير ريتشارد شاعرياً لأنه اراد السماح لرئيس الوزراء البريطاني توني بلير تفسير كلمة "قريبا" بمعنى "عندما تقرر الحكومة العراقية المنتخبة مطالبتنا بالانسحاب بعد انتهاء مهمتنا".

وبالرغم من الجزء الخاص بـ"اعيدوا اولادنا للوطن" في مقابلة الجنرال هي التي لفتت الانتباه، جزئيا، لان الصفوة البريطانية تأسف لإسقاط صدام حسين، فإنها كانت اقل الجوانب اثارة في اول مقابلة يجريها سير ريتشارد مع وسائل الاعلام.

ولان سير ريتشارد طرح مثل هذا الموضوع، فيمكن ان يصل الأمر الى حد اعادة التفكير في نظريات الدفاع البريطانية، ولا سيما فيما يتعلق بالشرق الاوسط.

فطبقا لإعادة التفكير، فلا يجب على القوات البريطانية دخول دولة الا اذا دعيت. لقد كانت الحرب في العراق خطأ منذ البداية "لانه لم تتم دعوتنا، ولاسيما من جانب هؤلاء الذين كانوا يسيطرون على العراق انذاك. والحملة العسكرية التي شاركنا فيها في 2003، اقتحمت البلاد". وهذا بالطبع يمكن اعتباره اشارة الى كل الاشخاص السيئين بعدم الخوف من أي رد فعل عسكري بريطاني، ما داموا لم يوجهوا هم دعوة للندن. ولو كانت هذه النظرية مطبقة قبل تولي سير ريتشارد للقيادة، لما استخدمت بريطانيا القوة لطرد الارجنتينيين من جزر الفوكلاند، او راتكو ملاديتش من البوسنة والجبل الاسود او مطاردة سلوبدان ميلوسفيتش من كوسوفو وفرار الملا عمر على دراجته البخارية في قندهار.

والنقطة الثانية في عملية اعادة التفكير، لا يهم الامر ما اذا كانت الحكومة القائمة في بغداد صديقة ام عدوة. الامر المهم هو ان الخطيئة الاصلية تكمن في "اقتحام الباب". ولا يظهر الجنرال في المقابلة أي تعاطف للحكومة المنتخبة ديموقراطيا التي من المفروض ان تدعمها بريطانيا والحلفاء حتى تتمكن من الدفاع عن نفسها ضد الاعداء في الداخل والخارج.

والنقطة الثالثة في إعادة التفكير تتركز في ان التدخل العسكري لا يجب ان يؤدي الى مخاطر تتهدد امن بريطانيا في الداخل او الخارج. وألقى السير ريتشارد، في إطار دعم تصريحاته، بمسؤولية الهجمات الارهابية في بريطانيا وعلى مصالح بريطانية في الخارج على الوجود العسكري البريطاني في العراق.

هنا ايضا استخدم السير ريتشارد كملة "مفاقمة الغضب" التي يتضمن بعض مدلولاتها الشعور بالمرارة. الرسالة المتضمنة هنا تتلخص في انه يكفي الذين يختلفون مع هذه السياسة البريطانية او تلك، التعبير عن هذه المرارات، على سبيل المثال من خلال تنظيم هجمات انتحارية على شبكة المواصلات بالعاصمة البريطانية، على اعتبار ان هذه الهجمات ستؤدي الى وقف بريطانيا من اتباع هذه السياسة. هذا على وجه التحديد ما حدث في اسبانيا عقب الهجمات الارهابية على قطارات مدريد التي ادت الى تغيير الحكومة هناك وفي وقت لاحق الى انسحاب اسبانيا من العراق.

النقطة الرابعة تتلخص في انه حتى في ظل وجود حلفاء اقوياء مثل الولايات المتحدة والناتو لا تستطيع بريطانيا خوض حربين في جبهتين في نفس الوقت.

رحب معلقون بريطانيون بتحليل السير ريتشارد وحثوا الحكومة على التركيز فقط على افغانستان على الرغم من حدوث تطور هناك ايضا. وبهذه المنطقة، خلال الحرب العالمية الثانية، اتخذت بريطانيا قرارا بوقف القتال الى جانب فرنسا لصعوبة ذلك والتركيز على كسب الحرب في بورما لسهولتها. وبنفس المنطق فإن تشكيل صدام حسين خطرا استراتيجيا على بريطانيا وحلفائها اكبر من الخطر الذي تشكله طالبان مسألة لا تحدث فارقا كبيرا. ولكن ماذا اذا واجهت بريطانيا تهديدا خطيرا في دولة ثالثة او رابعة او خامسة؟ هل ينطبق منهج السير ريتشارد الذي يتلخص في "نستطيع القتال فقط في دولة واحدة"؟

ربما يكون الجانب الأكثر اثارة للاهتمام في إعادة التفكير هو تحذير السير ريتشارد من ان الوجود البريطاني في العراق ربما يؤدي الى التأثير سلبا على الجيش البريطاني خلال خمس او عشر سنوات. القوة العسكرية البريطانية الصغيرة لم تنفذ أعمالا عسكرية كثيرة خلال المرحلة الاولى لتحرير العراق. ولكن بعد ان بدأ التمرد في المحافظات السنية لم تقابل القوات البريطانية، التي كانت مسؤولة عن اربع محافظات شيعية، اية تحديات رئيسية من أي مجموعة متمردة.

فقدت القوات البريطانية 120 من أفرادها، بمن في ذلك الذين قتلوا في حوادث عادية غير عسكرية. والسؤال هنا هو كيف يمكن ان تؤدي هذه العمليات العسكرية المحدودة والخسائر القليلة الى التأثير سلبا على الجيش البريطاني خلال فترة خمس او عشر سنوات.

لا شك ان السير ريتشارد يرغب في حوار يتجاوز نطاق حالة العراق على وجه التحديد. وإذا كان راغبا فقط في العراق ربما انتظر حتى 31 ديسمبر المقبل، موعد نهاية التفويض الذي منحته الامم المتحدة للقوات البريطانية في العراق. وبظهور زينة أعياد الميلاد في اوكسفورد ستريت من المؤكد ان يوم 31 ديسمبر سيأتي قريبا. السير ريتشارد ليس في حاجة الى ترك انطباع بأنه ينصح بخروج القوات البريطانية. لكنه فعل ذلك وأثار تنافسا بين المجموعات المنافسة وسط أعداء بريطانيا حول الجهة التي "تتولى طرد البريطانيين خارج العراق".

الرئيس الايراني محمود احمدي نجاد نسب الفضل مسبقا لنفسه بتذكيره للجميع بأن بريطانيا تشكل جزءا من حضارة الغرب التي "غربت شمسها"، كما ان مقتدى الصدر نسب الفضل مسبقا الى جيش المهدي التابع له. فرع "القاعدة" في العراق، الذي يبعد عن مكان وجود القوات البريطانية، قرع من جانبه طبول انتصار زائف بادعائه إخراج "الاسد البريطاني العجوز المريض" من ارض الرافدين.

الحقيقة هي انه ليس هناك جهة تطرد القوات البريطانية من العراق، إذ ان عددا كبيرا من العراقيين لا يريد ان تخرج هذه القوات فورا. غالبية البريطانيين هي التي ترغب في مغادرة العراق لأن قلوبهم لم تعد هناك. كل ما فعله السير ريتشارد هو ترديد مشاعر شعبية في بريطانيا، وهو بذلك يكون قد تصرف بوصفه سياسيا وليس عسكريا. ونعرف جميعا ماذا قال كليمنصو عن هذه الحالة قبل زمن طويل.

التعليقات

جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف