جريدة الجرائد

خسارة عون ليست في متن تياره و«القوات اللبنانية» لم تتمكن من استثمارها

قراؤنا من مستخدمي تويتر
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على تويتر
إضغط هنا للإشتراك

صور من الانقسام اللبناني في ضوء اشتداد الاحتقان واقتراب الاستحقاقات ...


بيروت - حازم الأمين


تقول سيدة من بلدة بكفيا كانت اقترعت للائحة النائب ميشال عون في الانتخابات النيابية الأخيرة في لبنان، انها لا تميل الى الخطاب السياسي لميشال عون وغير مرتاحة لعلاقته مع "حزب الله"، لكنها في الوقت نفسه لا تشعر بأنها تستطيع نقل ولائها الى "القوات اللبنانية" على رغم محاكاة خطاب القوات لمزاجها وميولها. تعبر هذه المعادلة عن الكثير مما يجري في البيئات المسيحية اللبنانية، لكنها ايضاً لا تعكس درجة التوتر التي تشهدها تلك البيئات. وإذ يندهش الكثير من اللبنانيين من سهولة اختراق الخطاب العوني وعياً مغايراً لمضامين "الوجدان المسيحي"، يبدو هذا الاندهاش ضرباً من السذاجة، ويمعن الانقسام في الوضوح ويصير انقساماً موازياً للانقسام السني الشيعي.

هل تمكن ميشال عون من جر المسيحيين الى الموقع السياسي الذي انتقل إليه من خلال تحالفه مع "حزب الله"؟ ام ان خطوته تلك أفقدته قواعد مؤيدين كانت أمنت له تبوء التمثيل المسيحي في البرلمان اللبناني؟ الإجابة عن هذين السؤالين تبدو مستحيلة اليوم. وهي اذا كانت ان ميشال عون تمكن من نقل المسيحيين اللبنانيين بضربة واحدة الى موقع كانوا اختلفوا معه منذ تأسيس الجمهورية اللبنانية، ستكون إجابة تنطوي على قدر من التسرع الذي لن يقع فيه حتى ميشال عون نفسه. كما ان الإجابة اذا ما كانت ان الناخبين الذين حملوا ميشال عون وكتلته الى المجلس النيابي انفكوا عنه ونقلوا ولاءهم ومزاجهم الى منافسيه، ستكون مبالغة اخرى وان غذتها بعض الوقائع.

لا بد اذاً من البحث عن اجابات بين هذين الحدين، كأن نقول ان المسيحيين اللبنانيين لم يذهبوا الى الموقع الذي أراده لهم ميشال عون، ولكنهم لم يتخلوا عنه. او ان الأمين العام لـ "حزب الله" حسن نصرالله مثل للقواعد العونية نموذج القوة وخاطب وعياً مسيحياً غائراً يرى بنصرالله بعداً طهرانياً، وهو امر سهل على عون تسويق حلفه الجديد في بيئة كان من المفترض ان يجد هذا الحلف صعوبة في العثور على موطئ قدم له فيها. لا بد من اجابات اخرى ايضاً منها ان كثيرين ممن يفترض ان يثير حلف عون - "حزب الله" حفيظتهم لم يجدوا موطئ قدم لهم في اي مساحة عامة لبنانية. واذا كانت "القوات اللبنانية" ملاذ هؤلاء فإن عقبات كثيرة تقف في وجه اقتناع فئات مسيحية واسعة في الانخراط او الاقتراب من هذه القوات، لا سيما الفئات المتوسطة والمدينية التي ترى في القوات خياراً طرفياً سبق ان كابدت من طغيانه خلال سنوات الحرب الأهلية اللبنانية.

عونيون كثيرون لا يقيمون وزناً في عونيتهم لخيار الجنرال السياسي بقدر ما يستحضرون في ردهم على التساؤلات مقولات عامة عن "نزاهة الرجل" و "نظافة كفه" و "عدم ميليشويته". وهذه الخصال تمت الى الوعي المسيحي المتوسط بصلة وترتبط بقيم الطبقات المدينية التي تشكل متن القاعدة العونية. فعلى هذا النحو مثلاً يمكن رصد التأرجح بين تبني هذه القيم وبين المخاوف والتحفظات التي ولّدتها خيارات الجنرال السياسية. ويمكن ايضاً ملاحظة ان القاعدة غير الصلبة التي يرتج التيار العوني في خفقانها غير المنتظم، تتصدع ثم تلتئم مجدداً تحت وطأة "جاذبية هذه القيم". ففي اثناء الحرب الأخيرة على لبنان انخرط كثير من العونيين في حركة الاعتراض على خيار الجنرال الوقوف الى جانب "حزب الله". عبر هؤلاء علانية عن تذمرهم، وأعلن كثيرون انسحابهم من التيار، لكن وما ان انتهت الحرب وجاء دور الانقسام الداخلي حتى شهدنا عودة الكثير من هؤلاء الى حضن الجنرال.

دنيا تقول انها غير قادرة على استيعاب اندفاع صديقها نيكولا في الانحياز الى التيار العوني، كأن هذا الاندفاع منفصل عن القناعات الفعلية لهذا الأخير، وهو ايضاً اندفاع غير متغير على رغم تقلبات المواقف العونية. فهي تتفق مع نيكولا في الكثير من القضايا التي من المفترض ان تهز عونيته، ولكنه على رغم ذلك ثابت في عونيته ومتبن لها تبنياً كاملاً. لورين التي تعمل نادلة في احد مقاهي بيروت لا تربط عونيتها بانحيازات الجنرال وسجالاته، وانما بكلام اكثر عمومية عن اعجابها بشخصيته وقوته. واذ يبدو ان هذا الإعجاب مفارقة في ظل ضعف خصال عون التي من الممكن ان تشكل جاذباً لشابة لم تتجاوز العشرين، تتم الاستعاضة عن هذه الخصال بـ "نظافة الكف" والماضي العسكري الذي يحاكي تطلع المسيحيين الى دولة قوية وجيش قادر.

يجزم جميع من تلتقيهم في بيروت بأن الاحتضان المسيحي لـ "التيار الوطني الحر" (العونيين) تصدع بفعل مواقف عون الأخيرة، و "التحاقه" بـ "حزب الله"، لكن هذا الجزم يعوزه الكثير من التدقيق، فالقاعدة العونية اصلاً لم تكن صلبة، على رغم اتساعها، والبيئة المسيحية لم تكن قد اختبرت فعلاً على مدى تجربة ما بعد الحرب، بحيث كان يصعب التمييز والفرز بين المزاج القواتي والمزاج العوني. انتخابات العام 2005 وحدها كانت مؤشراً. ولكن الظروف التي أحاطت بهذه الانتخابات أعاقت إمكان الاعتماد على نتائجها في تحديد وجهة الرأي العام المسيحي في لبنان. اما القول ان العونيين هم الفئات المتوسطة والمدينية المسيحية وان القوات هم الفقراء وأبناء الجبال والجرود، فيصح على رغم ما يعتريه من تعميم. ثم ان العونية تعني قيماًَ وخصالاً وخصائص فضفاضة وهو امر يساعدها على التوسع والتفلت من التزامات الموقف السياسي الواضح والثابت، في حين تعني القواتية التزاماً حزبياً و"تاريخياً" ما زالت تعاني القوات من اثقاله الى اليوم. ويقول انطوان ان معظم اساتذة المدرسة التي يدرِّس فيها في برمانا في قضاء المتن اقترعوا للائحة التيار العوني في انتخابات الـ2005 من دون ان يكونوا عونيين ملتزمين، وهم شعروا خلال الحرب الأخيرة بمرارة كبيرة جراء مواقف الجنرال. لكن انطوان يقول انه لا يستطيع ان يجيب عن سؤال يتعلق بما اذا كان هؤلاء سينتخبون غير التيار العوني فيما لو حصلت انتخابات قريبة، فعونية هؤلاء اجتماعية اكثر منها سياسية، وهي بمعنى ما احتجاج متني على طرفية "القوات" وعلى ميليشيويتها السابقة، وهي ايضاً انتقال مسيحي من الولاء التقليدي للزعامات المحلية الى ولاء اعم لا ينفي مسيحية الخيار ولكنه يربطها بخيارات ابعد منها قليلاً. وربما مثلت العونية بهذا المعنى نزوعاً اجتماعياً لا تحتمله هي نفسها. وبهذا المعنى ايضاً يبدو خيار اقتراب عون من "حزب الله" او التحاقه به اقل تأثيراً في هذه الفئات، خصوصاً اذا اعتُبِر مرحلياً ومرتبطاً بأوضاع راهنة تقتضي اقتناص الفرص.

ومثلما تغذى تصدع القاعدة العونية من مواقف الجنرال وارتباطاته المستجدة، يتغذى التئام هذه القاعدة مجدداً من حدة الانقسام المسيحي. فالعونيون والقواتيون متجاورون في السكن والعمل والأمزجة في احيان كثيرة، والاحتكاكات الكثيرة تعرض كلاً منهما الى مزيد الالتفاف حول خياراته. وانقسامهم بهذا المعنى اكثر تعرضاً للاختبار من الانقسام الشيعي - السني، الذي تبدو حدوده مضبوطة بحدود الإقامة وان كانت متداخلة احياناً وبالتقية وتجنب كشف مستويات الاحتقان. اما في الحالة القواتية العونية، فيظهر الناس اكثر اندفاعاً لمواجهة بعضهم بعضاً بآرائهم وميولهم، وأكثر ميلاً الى جعل خلافاتهم مجالاً للتداول الذي يصل في أحيان كثيرة الى حدود الاحتقان. فنحن نتحدث عن عائلات انقسم افرادها وعن مؤسسات يعمل العوني فيها الى جانب القواتي، ثم ان الزمن وعوامل كثيرة ألغت فروقات شكلية بين البيئات المسيحية لكنها أبقت على ما يبدو على اختلافات من انواع اخرى.

وتقول رنا، وهي مسلمة سنية، ان الانقسام بين زملائها في العمل بين قواتي وعوني هو بأحد صوره انقسام بين نازحين من مناطق بعيدة الى ساحلي المتن الشمالي والجنوبي وهؤلاء معظمهم قواتيون، وبين آخرين من أبناء كسروان والمتن ويميل معظم هؤلاء الى التيار العوني.

ويلاحظ طوني ان الوجود القواتي في المتن الشمالي مثلاً يتركز في مناطق الدكوانة والزلقا وبياقوت والجديدة وهي مناطق يكثر فيها النازحون المسيحيون من مناطق بعلبك ودير الأحمر والقاع. وبينما يلاحظ سليمان ان النفوذ العوني قوي في ساحل المتن ويبدأ بالتراجع كلما صعدنا باتجاه الجبل، تعزز هذه المعادلة حقيقة قوة التيار العوني في الأوساط المدينية والفئات المتوسطة المسيحية.

وفي حين تتعاظم القواعد القواتية في بلدات مارونية كبرى كالدامور ودير الأحمر وبشري وعين ابل وهي مناطق معظمها بعيد عن العاصمة وعمّدت ولاءها للقوات بوقائع تمت الى الحرب الأهلية بصلات دامية، فإن العونية قلما ارتبطت بمعانٍ وصور مناطقية. وإذا كانت بلدة الحدث واحدة من الساحات العونية، فهي كذلك من دون ان تكون العونية فيها عصبية محلية ومن دون ان يكون لها تاريخ متصل بضائقة المسيحيين في الحرب اللبنانية.

ويبدو ان خرائط الانتشار التقريبي لكل من "القوات" و "التيار" لم تتعرض لاهتزازات جوهرية بفعل الانقسامات السياسية المستجدة في لبنان، وان ما يمكن رصده على هذا الصعيد هو في الدوائر الأقل وضوحاً في ولاءاتها، وهذه الدوائر من الصعب رصد اتجاهات مشاعرها ومن الصعب تثبيتها ايضاً. فالتيار العوني كجسم حزبي لم يصب مباشرة، وما اصيب هو فئات كانت اعتبرت ان عون خيار انتخابي وهي فئات واسعة، في حين لم تتمكن "القوات" كما يرجح الكثير من المراقبين من الاستثمار في تصدع الالتفاف المسيحي على التيار.

ثمة عناصر اخرى تدخل على معادلة العلاقة المنافسة بين "القوات اللبنانية" والتيار العوني، فتحالف الجنرال مع "حزب الله" وإن ادى الى خسائر على مستوى القاعدة المسيحية، شحذ بفعل المنافسة مع قوى 14 آذار وتحديداً "تيار المستقبل"، ايضاً من معين حساسية اخرى تتمثل في خوف مسيحي غائر من تصدر السنّة الحياة العامة لا سيما الاقتصادية والاجتماعية منها، خصوصاً مع انطلاق ظاهرة رفيق الحريري خلال العقد ونصف العقد المنصرمين. وربما تمكنت مقولات التيار الداخلية حول هذا التحالف بصفته تحالف أقليتين (الشيعة والموارنة) في وجه أكثرية (السنة) من شق طريق لها الى بعض النفوس. اما الطرفة الأخيرة على هذا الصعيد فهي ما يشاع من ان "التفاهم" العوني مع "حزب الله" جنب مناطق الاحتكاك الشيعي - المسيحي، وخصوصاً مناطق الشياح - عين الرمانة، مواجهات محتملة في اكثر من مناسبة، وهنا يبرز التفاهم بصفته "ضرورة سلبية" لا بصفته نتيجة طبيعية للقاء المصالح.

وتبرز هنا تساؤلات عن مدى تأثير الانتقادات التي وجهها عون اكثر من مرة الى البطريرك الماروني نصرالله صفير وما يقال عن تعبئة في أوساط التيار العوني ضد الدور الذي تلعبه البطريركية، في حال الاستقطاب العوني القواتي، والأرجح ان هذه الانتقادات لم تؤد إلا الى مزيد من الاصطفاف الحاصل أصلاً، خصوصاً ان عون يخاطب جمهوراً اقل تديناً وارتباطاً بالكنيسة من الجمهور القواتي.

وتجزم أوساط في 14 آذار ان الجو المسيحي اليوم مختلف عنه خلال فترة الانتخابات النيابية في العام 2005. وتشير هذه الأوساط الى استطلاعات رأي أظهرت تذمراً مسيحياً من خطوة الجنرال الاقتراب من "حزب الله". قد يمت هذا الكلام الى الحقيقة بصلة ما، لكنه لا يعني انه صار في إمكاننا الحديث عن جهة تمكنت من استثمار الواقع الجديد.

التعليقات

جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف