أفغانستان: المستقبل في ظل صراع الهوية والحرية
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال تطبيق تلغرام
إضغط هنا للإشتراك
يوسف الديني
ما يجري على الساحة الأفغانية في هذه الأونة من إخفاقات عديدة، تنذر بعودة قوية إلى طالبان كلاعب رئيسي في الساحة الأفغانية بل، وكحركة خلاصية لمنطقة الجنوب الأفغاني والتي تمتد عليها القبائل البشتونية، وصولاً إلى الحدود مع باكستان.
كل هذه المتغيرات لا يمكن قراءتها كإخفاقات مؤقتة أو مرحلية تقتضيها طبيعة صعود أي مقاومة مسلحة تحاول استعادة مكانتها.. فما يجري على الأرض الأفغانية أعقد بكثير من التصور الساذج، الذي تحاول حكومة الولايات المتحدة تمريره في رسائل مقتضبة ومتحرجة عند أي محاققة صحفية نقدية.. ثمة حالة من التذمر والغليان في الداخل الأفغاني، تتنامى بشكل تصاعدي بعد مرور أكثر من خمسة أعوام على إسقاط نظام طالبان، كما تؤكده العديد من التقارير الصحفية لمراسلين غربيين، بل هناك من يتحدث عن تحول العاصمة الأفغانية وما جاورها إلى ما يشبه المحمية الدولية، التي لا تكترث كثيراً بما يجري خارج نطاق سيطرتها. فإعادة الإعمار ظلت شعاراً شبحياً لا يرى سكان المناطق الجنوبية والشرقية أي شيء يتحقق في الواقع من الوعود الكثيرة التي أنيطت بقوات "إيساف"، بعد أن أعلنت قوات الناتو نجاح هجومها الاستباقي على قوات طالبان المتمركزة في الجبال، والتي تحظى بدعم معنوي ولوجستي كبير من السكان المحليين الذين كفوا عن تقديم أي دعم لقوات التحالف بسبب الإخفاقات الأمنية التي زادت الطينة بلة، بعد أن بات حلم إعادة الإعمار بعيداً ونائياً عن أعينهم، كما أن لديهم إحساساً بوجود تمييز مناطقي وفئوي في مشاريع كتلك. فالشمال والمناطق المحسوبة على العاصمة تحظى باهتمام وتركيز بالغين جعل من المفوض الخاص بالأمم المتحدة الألماني توم كونيغز يتنبأ بـ"ثورة شعبية" عارمة، يمكن أن يحدثها الوضع في الجنوب.. يضاف إلى ذلك ما يشاع من مراقبين مستقلين عن وجود تلاعب كبير في المساعدات الإنمائية وحالات متكاثرة للرشوة والفساد والمحسوبية، تطال شخصيات بارزة في الحكومة الأفغانية، الأمر الذي ينذر بتراجع كل ما تم إنجازه على الأرض منذ لحظة التغيير الديمقراطي، الذي بشر به ساسة البيت الأبيض.
المأزق في أفغانستان يزداد عمقاً إذا ما أخذنا في الاعتبار الجانب
"القيمي" للغالبية الشعبية هناك، بغض النظر عن صواب أو خطأ الثقافة السائدة ما قبل التدخل الأمريكي، حيث ضمور وتراجع الدور الكبير الذي كانت تلعبه مجالس الشورى حين كانت صمام أمان للنزاعات المحلية فيما يخص القضايا الاجتماعية الكبرى، التي تجد حساسية مفرطة في مجتمع قبلي ميال إلى التمسك بالسائد الديني. فبدل أن يتم خلق ثقافة دينية متسامحة يمكن أن تحل بديلاً عن الثقافة التي خلفها "الطلبة"، فإن قلقاً شديداً ينتاب الأفغان في هويتهم بسبب الوضع الراهن. وكل هذا يتم تفسيره بشكل تآمري على أنه محاولة لتغيير هوية البلد. فالديمقراطية التي يتم فرضها استبدلت التعصب الديني بانتشار المشروبات الروحية ودور البغاء، بل حتى إن الانفراج الكبير الذي يخص حقوق المرأة الأفغانية بات ضرباً من الدعاية المفذلكة، التي تنقل واقع الطبقات البورجوازية المحررة من الأسر الطالباني، في ظل صمت مطبق حول أي برامج مساندة للنساء اللواتي ينتمين إلى طبقات مهمشة، كانت تعاني الأمرين إبان فترة الاضطهاد السابق.. تخبط كهذا سيهمش حتى الأصوات العقلانية في العالم الإسلامي، الذي أصبح يقرن مفهوم الديمقراطية بالمهزلة والكذب بناء على ما تشاهده من الأسلوب المحبب للإدارة الأمريكية الحالية، حين تعسكر الديمقراطية وتزرعها بشكل تعسفي قبل أن تهيئ المناخ الصالح لها.. صحيح أن مناخاً كهذا ليس بالسهل ولا الهين، لكنه أيضاً ليس بمستحيل إذا ما تم تبنيه كاستراتيجية طويلة المدى، وتم إشراك الآخرين فيه من دول الجوار والمنظمات غير الرسمية، وحتى من شرائح من داخل المجتمع معنية بتغيير كهذا.
يمكن القول إنه في ظل هذا التشاؤم الذي يحف الملف الأفغاني برمته، فلا زال بالإمكان خلق فرص عديدة لإعادة ثقة الشعب الأفغاني بالواقع الجديد، وقطع الطريق على طالبان التي وجدت نفسها محظية بفرصة تاريخية، متى ما استغلت هذه الحماقات والفوضى في التعامل مع طبيعة المجتمعات الواقعة تحت أجندة التغيير بالقوة. مجتمعات كهذه ستختار ولا شك سؤال الهوية على سؤال الحرية والتاريخ خير شاهد..!