الأسلحة السرية لوكالة الاستخبارات المركزية الأميركية (2)
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على إنستجرام
إضغط هنا للإشتراك
السبت: 2006.10.21
المخابرات الأميركية تقتفي أثر النازي في تجارب العقاقير المهلوسة
تأليف :غوردون توماس
عرض ومناقشة: محمد مخلوف
يلقي المؤلف في هذا المنعطف المبكر من كتابه، الضوء على الجهود التي بذلتها أجهزة المخابرات الأميركية في قطع الشوط كاملاً في توظيف الأسلحة الكيماوية والبيولوجية ابتداء من التقاط الرصيد الذي راكمه العلماء الألمان في ظل النازي تم تحويل هذه النواة إلى أكبر ترسانة عرفها التاريخ من هذه النوعية من الأسلحة بما في ذلك الجهود المبذولة لتطويرها واستخدامها الفعلي في العديد من الحروب وبينها الحرب الكورية وحرب فيتنام.
الغاية تبرر الوسيلة
خلال أكتوبر 2001، وفي الوقت الذي كانت أميركا لاتزال تحت تأثير صدمة تفجيرات 11 سبتمبر، وفي حالة من القلق العميق أمام الإنذارات التي لا تنقطع من أخطار مسحوق (الانثراكس) السام، كان اريك ولسون قد جمع أقصى ما أمكنه من المعلومات حول اغتيال والده فرانك ولسون العالم في ميدان الكيمياء الحيوية والجراثيم الذي كان قد عمل لسنوات طويلة في القسم العلمي بجهاز وكالة الاستخبارات المركزية الأميركية، ووجدوه ذات يوم من أيام نوفمبر 1953 مكوّماً على الرصيف بعد أن ألقي بنفسه، كما قيل آنذاك، من الطابق العاشر في فندق "ستاتلر" بنيويورك.
ويشرح أحد الملفات الموجودة بحوذة ابنه "اريك ولسون" كيف أن الرئيس الأميركي الأسبق جيرالد فورد قد استدعاه هو ووالدته إلى البيت الأبيض، حيث قال لهما: "ما كان آخر ما قاله فورد هو أنه سوف يقدم مذكرة إلى الكونغرس للموافقة على تعويض للعائلة مقداره سبعمئة وخمسين ألف دولار أميركي.
بعد أسبوع من اللقاء مع الرئيس، التقى اريك ووالدته "أليس" بوليام كولبي مدير وكالة الاستخبارات المركزية آنذاك، بناء على طلبه. وقد حرص الابن على أن يصطحب معه محاسبين.
كما حضّر في رأسه جميع الأسئلة التي كانت لا تزال من دون أجوبة والتي كانت تدور حول سؤال واحد يتردد على ذهنه منذ سنوات وهو "لماذا قتلوا أبي؟" وكان أريك قد أسر فيما بعد لمؤلف هذا الكتاب: "كنت أردد لنفسي من دون توقف أنه كان من المفروض معرفة كولبي بحقيقة الأمر وتقديم إجابة".
أثناء الحوار كان المحاميان يكتبان كل ما يدور بصمت لم يعلن كولبي عن اعتراضه على ذلك، لكنه كتب فيما بعد: "كانت تلك هي إحدى أصعب المهمات التي صادفتها طيلة حياتي المهنية"، وزاد التوتر في الجلسة عندما "تحدى" اريك مدير الوكالة الاستخبارات بأن يجد تبريراً للحرب في فيتنام، وكان كولبي قد أدار أكبر مشروع في تلك الحرب والمعروف باسم فونيكس الذي ساد الاعتقاد بأنه أودى بحياة عشرين ألف فيتنامي.
قال أريك في ذلك الحوار: هذه القضية كلها دنيئة ولا أخلاقية. فأردف كولبي: ربما كان بإمكاننا الانتصار باستخدام قدر أكبر من الأسلحة. وفي نهاية اللقاء سلم كولبي ملفاً لأسرة ولسون وقال لابنه: "هذه نسخة عن الوثائق التي تخص موت والدك، وستجد فيها كل شيء". ثم أضاف: وكل شيء هنا، القضية كلها، خذوا الملف وتصفحوه بهدوء فلم يعد هناك ما يراد إخفاؤه.
إن وليام كولبي لم يعترف لهما ـ ولم يكشف الملف عن ذلك ـ بأن فرانك ولسون لم يكن مستخدماً مدنياً لدى الإدارة العسكرية وإنما كان أحد مديري قسم تابع لوكالة الاستخبارات المركزية الأميركية في فورت ديتريك.
رحلة نحو المجهول
في ليلة 14 أغسطس 1975، بعد أن انتهى أريك ولسون من كتابة محضر عن اللقاء مع كولبي، شرع بقراءة الملف ووجد تعبيرات لم تكن مفهومة بالنسبة له، مثل "انتيستوك" و"بلوبيرو" اللذين كانا يعنيان الصيغة الأولى لمشروع "إم. ي. الترا" أي المشروع الذي شهد ولادته في بداية الحرب الكورية.
وكانت الوثائق تشرح بوضوح، كما يؤكد مؤلف هذا الكتاب، أن ذلك البرنامج كان يهدف إلى دراسة إمكانية استخدام مخدر "ال. اس. دي" أو "مصل الحقيقة" أو الزيغان ـ السم ـ أو الانثراكس من أجل القيام بعمليات اغتيال سرية. لكن هل عمل والد اريك في ذلك المشروع الأكثر إثارة للرعب من الأسلحة البيولوجية والكيميائية المكرسة للتدمير الشامل؟ هكذا يتساءل المؤلف ويضيف:
لقد شرع الابن وهو باحث في ميدان علم النفس، انطلاقاً من هذا السؤال الذي كان في رأسه برحلة لمحاولة الكشف عن ذلك وقد كتب بعناية كل ما صادفه أثناء تلك الرحلة.
إنه يعود إلى يوم 16 أبريل 1943 حيث كان البروفيسور ألبرت هوفمان مدير الأبحاث في مركز صناعة الأدوية والكيمياء المعروف باسم ساندوز في مدينة بال السويسرية، يعمل باستمرار لمعرفة أسرار مادة اكتشفها منذ عام 1938 ودعاها "ال. اس. دي" وفي ذلك اليوم من ابريل قرر مزج تلك المادة بمادة أخرى هي "الارغوت" التي كانت قد أثارت اهتمامه باستمرار، لا سيما أنه كان يسود الاعتقاد في الصين وبعض مناطق الشرق الأوسط بأن هذا النوع من الفطر يشفي من عدة أمراض.
أما في أوروبا فإنه يتم تذكره كوباء عرفته القارة خلال القرون الوسطى وترك وراءه من الموتى بمقدار ما ترك الطاعون الأسود. وكانت أعراضه شبيهة به إلى حد كبير حيث كانت أصابع اليدين والقدمين تتحولان إلى خرق ذات لون أسود ويتضخم البطن، وكان كاردينال ألماني قد أسماه بـ "نار القديس انطوان" مؤكداً أنه يصيب من يسيئون إلى القديسين.
هكذا قام البروفيسور هوفمان بخلط الأرغوت مع عقار ال. اس. دي، وكانت النتيجة كما وصفها هو نفسه بعد أن تجرع الخليط: "رأيت في رأسي دفقات لا تنقطع من الصور الباهرة، كانت تجيء وتذهب وهي تتلاطم. لقد أصابني الرعب وخشيت من أن أصبح مجنوناً، لقد اعتقدت أنني ميت".
وعندما قرأ اريك ولسون، هذه الكلمات تساءل عما إذا كان والده قد عاش هذه التجربة؟ لا سيما وأن الملف الذي سلمه له كولبي يسمح بالقول إنهم أعطوه عقار "ال. اس. دي" من دون علمه، وهل كانت الجرعة التي أخذها غير مدروسة مثلما كان الأمر بالنسبة للبروفيسور هوفمان، وبالتالي "قفز" من نافذة غرفة الفندق التي كان نزيلها في الطابق العاشر؟
وعلى بعد عدة مئات من الكيلو مترات من مختبر "ساندوز" في سويسرا كان أطباء في معتقل دخاو النازي يجربون آثار مادة "المسكالين" على السجناء، وقد شرح أحدهم، المدعو والنزنيف فيما بعد للمحققين الأميركيين قوله: كان الهدف هو إنهاء إرادة الأفراد، بتعبير آخر السيطرة على ذهنهم. وكان يتم خلط تلك المادة "المهلوسة" بقهوة السجناء الذين كانوا يبدون سريعاً مشاعر الحقد والثأر وينتقلون بالتناوب من حالة الحزن العميق إلى الفرح.
ويتذكر أريك ولسون أن أمه كانت قد تحدثت له عن أن والده كان قد عرف مثل تلك الحالات. واكتشف أنه في الفترة التي كانت قد بدأت فيها التجارب في معتقل دخاو النازي، كان مكتب الخدمات الاستراتيجية، الذي تحول فيما بعد إلى وكالة الاستخبارات المركزية الأميركية، قد شكل لجنة عملت على ما سمي بـ "مصل الحقيقة".
وينقل المؤلف عن اريك ولسون انه كتب في أحد ملفاته: "تحت ضغط مجموعة من العناصر أثبتت أن آلة الحرب الألمانية كانت تكرس كل طاقتها من أجل تطوير برنامج تسلح كيميائي وبيولوجي، أصبحت قلعة ديتريك، مقر القسم العلمي التابع لوكالة الاستخبارات المركزية الأميركية، مركزاً سرياً للغاية في أميركا للقيام بذلك النوع من الأبحاث، وكان والدي أحد أول رجال العلم المدنيين الذين عملوا فيه.
في ظلال مكارثي
كانت تلك أيضاً فترة قائمة من تاريخ الولايات المتحدة الأميركية، أي عندما أطلق السيناتور جوزيف مكارثي حملة ضد المشتبه بهم انهم من الشيوعيين، بغض النظر عن دقة ذلك الاتهام من زيفه وكان قد أعلن عن وجود 250 شيوعيا محددي الهوية في وزارة الخارجية الأميركية.
بل وأضاف في إحدى خطبه أن ولاءهم هو لموسكو. لقد رفع يومذاك ورقة بيده ولوح بها أمام الجمهور كي يعطي الانطباع بأنه قد حصل على أسمائهم بفضل التحقيقات المعمقة، التي قام بها، لكن لم يطلع أحد على تلك القائمة المزعومة عن قرب، وعندما طلب منه صحافيون فيما بعد الاطلاع عليها أجابهم إنها ضاعت.
ما يؤكده مؤلف هذا الكتاب هو أن جوزيف مكارثي كان يبحث عن أن يتحدث الناس عنه، وقد نجح في ذلك، بل نسيت سريعاً الفترة التي كان قد قبل فيها رشوة من مجموعة ضغط كوكاكولا وأنه كان يحمل في حقيبته أينما تحرك زجاجة ويسكي.
مع ذلك أصبح هذا الرجل ذو الصوت الأجش والرقبة الغليظة بطلاً وطنياً، إنه بطل النضال ضد التهديد الأحمر، وكانت كلمات عدة منه كفيلة بتخريب المسار السياسي لأية شخصية ولم يتردد في تقديم الأرقام والإحصائيات عن عملاء الشيوعية، إذ تحدث عن "12 دبلوماسياً أدخلوا الروبل الروسي إلى البعثة الدبلوماسية الأميركية وإلى الأمم المتحدة "ووجدوا" 37 في وزارة
الزراعة، تم تأكيده: "انهم موجودن في كل مكان في إذاعة صوت أميركا الوطنية وفي هولييود، في كل مكان، في كل مكان.
كان من المطلوب إذن إزالة الشيوعية كلها، وقد تساءل اريك ولسون عمّا إذا كان والده هو أحد العلماء الذين طُلب منهم تصنيع أسلحة جرثومية قادرة على إبادة سكان الاتحاد السوفييتي كلهم، لكن لم يتعرّض له أحد طيلة الأشهر التي حامت فيها الشبهات "المكارثية" حول الجميع.
وفي الوقت الذي سحبوا فيه التسهيلات الأمنية من عدد من العاملين في ميدان الأبحاث السرية احتفظ فرانك ولسون دائماً بشهرته كرجل علم منضبط ومنخرط تماماً في إعداد ما سيصبح أكبر ترسانة للأسلحة السامة في العالم كله، بل وبسبب تهويلات "مكارثي" حول الخطر الشيوعي تم تكريس أموال سرية طائلة أكثر فأكثر لمشاريع الأسلحة الجرثومية والكيميائية.
ولم يكن ذلك بعيداً أيضاً عن مشروع "مانهاتن" الذي كان وراء إنتاج القنبلة الذرية، وكانت المختبرات التي تجري فيها التجارب السرية لوكالة الاستخبارات المركزية محروسة بواسطة دوريات مسلحة كانت قد تلقت الأوامر بإطلاق النار على كل من يقترب منها.
بعد اندلاع الحرب الكوري عام 1950 بشهرين فقط قام الرئيس الأميركي ترومان بتعيين الجنرال والتر بيدل سميث على رأس وكالة الاستخبارات المركزية الأميركية، وكان الجنرال "سميث" سفيراً سابقاً لبلاده في الاتحاد السوفييتي، حيث أصبحت لديه القناعة بأن الروس والصينيين كانوا ينوون توحيد صفوفهم ضد بلاده.
وكانت "قلعة ديتريك"، حيث تجرى الاختبارات العلمية على الأسلحة الكيميائية والبيولوجية، هي أحد أول الأمكنة التي زارها، وقابل هناك الدكتور ستانلي غوتليب أكبر مسؤولي القسم العلمي، حيث اتفق الرجلان على أن الحرب الكورية كانت أفضل فرصة يمكن الحلم بها من أجل تجريب الأسلحة السرية، وقد طمأن الجنرال سميث الدكتور غوتليب بأن عليه ألا يقلق فيما يخص ميزانية أسلحته البيولوجية.
أسرار في يوكوهاما
سافر الدكتور غوتليب بعد ذلك إلى اليابان، حيث ذهب إلى القاعدة السرية لوكالة الاستخبارات المركزية الأميركية الموجودة بالقرب من يوكو هاما، وحيث كان قد شُرع بعمليات سرية ضد كوريا الشمالية.
وفي تلك الفترة بدأ فرانك ولسون وزملاؤه من الباحثين العمل على الحشرات والثدييات الصغيرة، وكان جميع العلماء قد وقعوا وثيقة تنص على أنه في حالة وفاة أي منهم بسبب مرض يصابون به في إطار أعمالهم فإنه يترك جثته للحكومة الأميركية، وكانوا قد تلقوا جميعهم اللقاحات ضد الجراثيم التي سوف يستخدمونها لنقل المرض إلى الحيوانات المستقدمة من كوريا.
كانت العملية بطيئة وخطيرة، ولقد جرى تجريب الجراثيم على أرانب وخنازير وغيرها. وفي ابريل 1951 قامت القوات الأميركية وحلفاؤها بأسر العديد من الكوريين الشماليين الذين سجنتهم في معسكر بجزيرة "كوجي" في كوريا الجنوبية.
وفي ذلك الشهر بالتحديد (ابريل 1951)، كان الدكتور غوتليب على متن حاملة طائرات تعود للقوات البحرية الأميركية جرى تحويلها من قبل الوحدة 406، التي كانت تحتوي على مخابئ سرية، إلى مختبر عائم مقابل الجزيرة كوجي، كانت تلك السفينة مكلفة "رسمياً" بمعالجة وباء الزحار الأميبي، المنتشر بين السجناء.
لكن الأشهر التالية عرفت إصابة نحو 20 ألفا من أولئك السجناء بالمرض، ووفاة 1800 منهم، يومها سرت الإشاعة في آسيا كلها حول أنه يتم استخدام السجناء من أجل تجريب جرثومة في منظور استخدامها في الحرب الجرثومية، وكانت مجلة "نيوز ويك" قد لخصت تلك الإشاعات بالقول:
"تشك كوريا الشمالية والصين انه قد جرى تجريب الطاعون على شيوعيين صينيين على متن إحدى السفن"، وغطّت وكالة الاسوشيتدبرس القضية بصيغة مشابهة.
وفجأة انطفأت التعليقات حول ذلك الموضوع، لكن بعد سنوات، شرح وليام كولبي، مدير وكالة الاستخبارات المركزية الأميركية آنذاك أمام الكونغرس أن السجلات الخاصة ببرنامج التسليح البيولوجي للوكالة لتلك الفترة كانت "ناقصة جداً"، ذلك أن قسماً كبيراً منها قد جرى اتلافه خلال عامي 1972 و1973و لماذا؟
صرح بأنه لا يعرف السبب، "لعل الوثائق التي جرى اتلافها كانت تكشف عن وباء الزحار الأميبي الغامض الذي أصاب السجناء الكوريين، كما يقول مؤلف هذا الكتاب.
وبعد قرابة نصف قرن، وتحديداً في شهر أكتوبر 2001 كان اريك ولسون قد جمع كل الوثائق الخاصة بحياة أبيه وأسفاره إلى كوريا الجنوبية وقصة السجناء من أفراد القوات الجوية الأميركية الذين كانوا قد اعترفوا باستخدام الأسلحة البيولوجية خلال الحرب الكورية وكانت أغلبية هؤلاء من الذين شاركوا في الحملة الجوية الخاصة ومن بينهم عقيدان ومقدمان وعشرون نقيباً.
وقد وصفوا كيف كان لا يتم تلقين القنابل الجرثومية إلا قبل دقائق فقط من إقلاع الطائرات من أجل الحد من مخاطر وقوع أي حادث قد يؤدي إلى فناء قاعدتهم العسكرية كلها.
لقد اعترف أولئك الطيارون، واحداً بعد الآخر، بأن هدف الهجومات التي قاموا بها كان نشر المرض في وسط كوريا الشمالية من أجل منع حركة الجنود وإيصال التموين إلى المنطقة الواقعة جنوبي خط العرض 38، وكشفوا جميعهم عن أنه قد قيل لهم أن الهدف النهائي لمهمتهم أن "تقصير زمن الحرب وبالتالي إنقاذ حياة أميركيين، ثم كان أكد أحد الضباط قد أنهى لقاء له معهم بالقول:
"إن القنبلة الذرية هي التي أنهت الحرب الأخيرة، وكان يقصد بالطبع الحرب العالمية الثانية، وكان كل طيار منهم قد أكدّ أنهم أبلغوه بوضوح بأن القنابل الجرثومية سوف "تولّد أوبئة لدى العدو".
وعندما انتهت الحرب الكورية عام 1953 وأُعيد أولئك الطيارون إلى أميركا تراجعوا عن اعترافاتهم ولكن عودتهم عن تلك الاعترافات لم تكن ذات مصداقية تساوي ما كانوا قد أفصحوا عنه لسجانيهم، وكانوا قد أشاروا جميعهم إلى أنهم قد يواجهون المثول أمام المحكمة العسكرية الأميركية، إذ لم يقوموا بما يمليه عليهم واجبهم.
وكان اريك ولسون قد حصل على شهادات مباشرة من العديد من الصينيين والفيتناميين الذين بقوا على قيد الحياة بعد الهجومات الجرثومية، ولم تتأخر الولايات المتحدة على تكذيب كل ما جاء في تصريحاتهم، مثلما كانت قد فعلت بالنسبة لما قاله الطيارون الأميركيون الذين وقعوا في الأسر أثناء الحرب الكورية.
من جهة أخرى كان أريك ولسون قد أدرك أن والده فرانك ولسون، ورغم حسه الوطني العالمي وإرادته المصممة في أن يقوم بواجبه كأحد رواد "البيولوجيا القاتلة"، فإن حسه الأخلاقي هو الذي تغلب في النهاية.
ولذلك كان قد أصبح قابلاً للتخلص منه في عالم الدكتور "ستانلي غوتليب" المشؤوم.. وكانت هناك حياة شخص آخر، يصفه مؤلف هذا الكتاب بأنه "بطل أميركي أصيل في الحرب الكورية"، ارتبطت أيضاً بعمل الدكتور غوتليب وبقتل فرانك ولسون.. انه وليام ـ بيل ـ بوكلي.
حكاية بوكلي
"بيل بوكلي" من مواليد مدينة ميدفورد في ماساتشوستش عام 1928 في كنف أسرة متدينة كاثوليكية. كان عمره 11 سنة عندما اندلعت الحرب العالمية الثانية. وفي عام 1945 انخرط بوكلي في الجيش الأميركي كمجند، شارك في الحرب الكورية التي استمرت سبعة وثلاثين شهراً وذهب ضحيتها مليونان من البشر بينهم أربعة وخمسون ألف أميركي.
وبعد أسبوع واحد من مراسم حفل التوقيع على الهدنة يوم 27 يوليو 1953 عاد بيل بوكلي إلى الولايات المتحدة، حيث بدأ العمل أولاً في أرشيف البنتاغون للاهتمام بالوثائق التي تهم الحرب الكورية.
وفي مطلع فبراير 1954 تلقى "بوكلي" اتصالاً هاتفياً من مكتب توظيف وكالة الاستخبارات المركزية الأميركية. لقد طلبوا منه أن يعمل "مساعد استقبال" في حفل تقيمه كلوفر دالاس زوجة مدير الوكالة ألن دالاس، الذي كان آنذاك في أوج مسيرته المهنية ويدير منظمة تتمتع بميزانية هائلة تسمح له بأن ينفق كل سنة مئة مليون دولار من دون أن يسأله أحد عنها..
ولم يكن رئيس الولايات المتحدة ولا الكونغرس يعرفان حقاً أين تذهب هذه الأموال، هكذا كان يستطيع أن يعمل ضد أي بلد في العالم، عدواً كان أو صديقاً.
كانت كلوفر دالاس تعاني من اضطرابات نفسية كبيرة بسبب مغامرات زوجها النسائية هكذا أقنعها الدكتور "ستانلي غوتليب بلقاء طبيب نفساني أيوين كاميرون" الذي كان يعمل في مستشفاه بالقرب من مونتريال في كندا، والذي كان حاضراً الاحتفال الذي نظمته، إنما لسبب محدد له علاقة بالحرب الكورية. ذلك إن بعض الجنود الأميركيين الذين عادوا من الأسر بعد نهاية تلك الحرب أخذوا "يكيلون المديح للحياة في ظل النظام الشيوعي"reg;.
وهذا ما كان الرئيس الأميركي قد طلب توضيحاً له من وكالة الاستخبارات المركزية، إذ "كيف يمكن لجنود مدربين جيداً أن يذهبوا إلى حد أن يصبحوا خونة؟" بل إن البعض منهم أعلنوا بعد عودتهم أنهم لا يريدون البقاء في أميركا. وكانت الولايات المتحدة قد تخلت آنذاك سراً عن فترة عدم استخدام الأسلحة البيوكيميائية إلا من أجل الرد عندما يتبين أن ذلك ضروري.
وقد جاء في وثيقة سرية أعدتها وزارة الدفاع الأميركية حملت عنوان "عقيدة القوات المسلحة فيما يخص استخدام الأسلحة الكيميائية والبيولوجية والدفاع" ما نصه "ان قرار السماح للقوات المسلحة باستخدام الأسلحة الكيميائية والبيولوجية ينبغي أن لا يتعلق من الآن فصاعداً إلا بالولايات المتحدة.
هكذا أخلت سياسة الهجوم المضاد المجال لسياسة المبادرة بالهجوم، وبالتوازي مع هذا تنشط دور الدكتور شتانلي غوتليب الذي جال في أدغال افريقيا وأميركا وآسيا من أجل ايجاد سموم أكثر فعالية، وأصبحت أفكاره حول الاغتيال أكثر وضوحاً وجلاء. وينقل عنه المؤلف ما كتبه فيما بعد وجاء فيه:
"بصورة عامة ينبغي عدم اللجوء إلى القتل، لكن إذا كان أمن الولايات المتحدة معرضاً للخطر فإن ذلك مسموح به. وينبغي عدم اتخاذ قرار القتل على عجل. بالمقابل عندما يتم اتخاذ مثل ذلك القرار فينبغي الذهاب بالتنفيذ إلى النهاية.. إذ لا يغدو مسموحاً آنذاك طرح أسئلة أخلاقية على النفس".
التعاون الأنغلو ـ أميركي
يشير مؤلف هذا الكتاب على مدى عدة صفحات إلى التعاون الأميركي ـ البريطاني في مجال الأسلحة الكيميائية والبيولوجية.. وهكذا أوفدت وكالة الاستخبارات المركزية مراراً الدكتور ستانلي غوتليب، برفقة فرانك ولسون، للإشراف على الاختبارات التي كان يقوم بها الدكتور وليام مسارغان، المسؤول البريطاني عن ذلك لدى جهاز "أم 160" أي نظيره على الضفة الأخرى من المحيط الأطلسي.
وبعد شهر من حفل الاستقبال الذي نظمته زوجة مدير وكالة الاستخبارات المركزية الأميركية جرى استدعاء بيل بوكلي إلى أحد مكاتب الوكالة في وزارة الدفاع.. وهناك أخضعوه لعدة اختبارات وتدريبات خاصة مع مجموعة من المرشحين، وكان هو الوحيد الذي تم قبوله في النهاية كي يصبح أحد رجال الوكالة الاستخبارية.
وفي شهر مارس 1954 وضعوه في مكتب بالبناية التي كان يعمل فيها الدكتور ستانلي غوتليب الذي استدعاه ذات يوم إلى مكتبه وبادره قائلاً:
* هل تعرف سبب وجودك هنا ؟
ـ لا.
* هذا لأنني بحاجة إليك. واعتباراً من الآن سوف تعمل تحت أمرتي المباشرة.. هل هذا مفهوم؟ ثم أردف غوتليب سوف تلاحظ أننا بصدد البحث في أمر أكثر جدية مما سبق وهو محاولة معرفة ما فعله الصينيون للجنود الأميركيين الذين وقعوا في الأسر لديهم "وكان غوتليب" يعمل آنذاك على جبهتين مختلفتين الأولى تتعلق باكتشاف الآليات التي استخدمها الصينيون والروس أيضاً في عمليات "غسل الدماغ" للسجناء الأمريكيين، والثانية كانت تطوير ترسانة أسلحة بيولوجية قادرة على مواجهة ذلك.
وبعد أن قام بيل بوكلي بقراءة الملفات الخاصة بالأسلحة البيولوجية، في إطار مهام عمله الجديد، لاحظ أن الدكتور ديوين كاميرون الذي كان يعمل في مستشفاه بالقرب من مونتريال في كندا، كان هو الأكثر تطرفاً من الأطباء النفسانيين الذين كان قد قابلهم حتى آنذاك..
وكان ألن دالاس مدير وكالة الاستخبارات المركزية الأميركية هو الذي جند ذلك الطبيب عندما كان يلتقي به بانتظام في مكتب جمعية الأطباء النفسانيين الأميركيين بواشنطن. نقرأ "لقد تفاهما بسرعة، إذ كانت لديهما الشكوك نفسها حيال الانجليز والحقد ذاته حيال الألمان، وكان حقدا لا يعادله سوى حقدهما على الروس".
وكان كاميرون قد كتب تقريراً سرياً إلى دالاس تحت عنوان "كيف تثار حالة هذيان هستيريا ـ جماعية لدى السكان المدنيين الألمان"reg;. وكان كاميرون قد كتب وثيقة بعد نهاية الحرب العالمية الثانية اقترح فيها أن "يتلقى كل ألماني عمره أكثر من 11 سنة علاجاً بالصدمة الكهربائية يكفي لمحو كل أثر للنازية من ذاكرته".
وينقل مؤلف هذا الكتاب أن "ألن دالاس" قد شرح لبيل بوكلي أن الدور الذي لعبه الدكتور ديوين كاميرون كان حاسما في معركة معرفة آليات السيطرة الذهنية "على الآخرين وشل إرادتهم" وينقل أيضا عن بيل بوكلي انه قد أصيب بالدهشة عندما طلب منه الدكتور كاميرون ذات يوم إذا كان بإمكان وكالة الاستخبارات المركزية الأميركية توفير بعض الأجانب لإجراء دراسات عليهم ثم حدد القول "الحالة المثالية هي أن يكونوا شيوعيين..
وربما أنهم يكونون قد تركوا أوروبا إلى الولايات المتحدة لكن لا أهمية لذلك.. إذ ستكون الإيديولوجية الشيوعية في رؤوسهم دائما. كان كاميرون يأمل أن يتوصل قريبا إلى تصنيع آلة لغسل الدماغ "ليس المهم كيف.. فالغاية تبرر الوسيلة".