جريدة الجرائد

الحصار والدمار يحولان الجوع في غزة الى كراهية

قرائنا من مستخدمي تلغرام
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال تطبيق تلغرام
إضغط هنا للإشتراك



تيم مكغيرك - التايم

تقشعر ابدان الفلسطينيين في غزة وترتعد فرائصهم لدى سماع رنين الهاتف في المنزل مع انتصاف الليل. وغالبا ما يأتي عبر الأسلاك صوت غريب يتحدث عربية ركيكة ليقول "انا من جيش الدفاع الاسرائيلي. إن هذا تحذير. سنقصف منزلكم في غضون خمس عشرة دقيقة. غادروا وابلغوا الجيران". وعادة ما تكون المعلومات الاستخباراتية الاسرائيلية دقيقة، حيث تعج غزة بالمخبرين الفلسطينيين، ثم تقوم مقاتلة إسرائيلية من طراز (اف-16) بإسقاط قذائفها، وتدور حول هذا القطاع الساحلي الضيق من البحر المتوسط لتدمر مخبأ او مستودع اسلحة او نفقا سريا.

لكن تلك التحذيرات غالبا ما تكون غير كافية لانقاذ حيوات الابرياء. ففي احد أيام الشهر الماضي، اسقط الاسرائيليون قنبلتين ضخمتين على منزل في مدينة رفح الواقعة في جنوب قطاع غزة، حيث كان المهربون يحاولون شق نفق الى داخل الاراضي المصرية اسفل سور كان الاسرائيليون قد شادوه بعلو يبلغ سبعة امتار ونصف المتر. وبالرغم من ان اتصالات هاتفية تحذيرية سبقت القصف، إلا أن الانفجارات كانت قوية لدرجة ان الحطام المتطاير افضى الى اصابة خمسين شخصا من الجيران بجروح. كما انطلق سهم من شظية طائرا مسافة تزيد على 450 مترا مما ادى الى مقتل الفتاة داميلاز حمد التي كانت في الرابعة عشرة من عمرها. ووفق المركز الفلسطيني لحقوق الانسان الذي يتخذ من غزة مقراً له، فإن داميلاز كانت من بين ستين سيدة وطفلا ممن قتلوا بفعل الغارات الجوية الاسرائيلية منذ حزيران - يونيو الماضي، عندما شنت اسرائيل هجومها على قطاع غزة ردا على خطف العريف الاسرائيلي جلعاد شاليت. وخلال تشييع جنازة داميلاز، اطلق افراد ميليشيات فلسطينية كانوا يرتدون قمصانا سوداء عيارات نارية من بنادق من طراز -ايه كيه -47 في الهواء. وعلى جدار ابيض مجاور، كتب احدهم عبارة (تهانينا لعائلة الشهيدة داميلاز حمد).

وكان الحزن الوحيد الحقيقي البادي هو حزن والدة الفتاة الكسيحة التي كانت تستلقي منهارة على فراش ممدد على ارض متسخة وهي تولول منتحبة على فقدان فلذة كبدها. وقد استمعت الى اصدقاء كانوا يحاولون اقناع العائلة بان الله اختار داميلاز من بين كافة الناس في هذا الشريط المبتلى من غزة، لأنه اراد مكافأتها لقاء معاناتها بدخول الجنة. وبدون تلك المواساة، كما شرح لي مترجمي، "فإن وفاتها ستبدو بلا معنى، وستزيد من معاناة أسرتها ونحيبها".

بالنسبة للفلسطينيين، أصبح الحزن شيئا روتينيا. وفي الوقت الذي الزمت فيه المجموعة الدولية نفسها بوضع قرار وقف اطلاق النار بين حزب الله واسرائيل في لبنان موضع التنفيذ، فإن الحصار المفروض على غزة ومواطنيها البالغ عددهم 1.4 مليون نسمة لا يزال مستمرا في تقويض البنية التحتية للمنطقة، مصيباً اقتصادها بالشلل، وتاركا ما تبقى من الحكومة الفلسطينية غارقاً في اتون الفوضى. وفيما تهاجم الطائرات الاسرائيلية من الجو- والتي قال الجميع ان قنابلها دمرت 43 بناية وقتلت اكثر من 220 شخصا معظمهم ممن يشتبه في انتمائهم إلى المليشيات-، فإن الفصيلين السياسيين الفلسطينيين المتنافسين، وهما حركة فتح التي يرأسها الرئيس الفلسطيني محمود عباس وحركة حماس التي تدعم رئيس الوزراء اسماعيل هنية قد تورطا في معارك يومية افضت الى مقتل اكثر من اثني عشر شخصاً في قتال نشب في الايام الاخيرة. وعند هذه النقطة يبدو الفلسطينيون اقرب الى أن يشهدوا اندلاع حرب اهلية بينهم من تطلعاتهم الى تحقيق حلمهم باقامة دولة مستقلة قابلة للحياة. ويقول الناطق بلسان حماس غازي حمد في لحظة صفاء "إننا معتادون على تحميل اخطائنا على الاخرين، لكننا كلنا نعاني من بكتيريا الحماقة".

وإذا كان الامر كذلك، فإن العالم لا يعرض الكثير على صعيد المعالجة. فعندما زارت وزيرة الخارجية الاميركية كوندوليزا رايس الاراضي الفلسطينية مؤخراً، قدمت مبلغ 26 مليون دولار كمساعدات لتعزيز قبضة قوات الامن التابعة لعباس. لكنها في الوقت نفسه اغضبت قادة حماس عبر تشجيعها لعباس من اجل اقالة هنية وحكومته، والتخلي عن الجهود التي يتم بذلها على صعيد تشكيل حكومة وحدة وطنية. والى ذلك، باتت ميليشيات حماس تهدد الان بإثارة المزيد من المشاكل لو تمت تنحية هنية. وفي الاثناء، تبدو الظروف المعيشية لسكان القطاع وهي آخذة بالتدهور. وبسبب الحصار الذي فرضته اسرائيل في اعقاب انتخاب حماس لقيادة الحكومة الفلسطينية في شهر كانون الثاني الماضي، لم يعد يسمح إلا للمواد الغذائية الاسرائيلية والمساعدات الانسانية بالدخول الى غزة (في حين يمنع الفلسطينيون من تصدير اي من منتجاتهم المحلية، فيما دمرت عمليات القصف الاسرائيلية اكثر من اربعين من البيوت المحمية الزراعية الفلسطينية التي كانت قد شيدت بمساعدة منظمة كير انترناشنال). كما فرض الاسرائيليون ايضا حصارا بحريا في اعقاب اعتراض بحريتهم مهربي اسلحة وإفشال عمليتين انتحاريتين استهدفتا الوصول الى الشواطئ الاسرائيلية. وكما استنتج جون دوغارد، المقرر الخاص للامم المتحدة حول حقوق الانسان في الاراضي المحتلة في شهر ايلول الماضي، فإن "غزة سجن، والذي يبدو ان الاسرائيليين قد رموا مفتاحه بعيدا".

إن جولة في مناطق غزة تشي بمدى البؤس الذي يواجهه الناس العاديون. وبسبب الاجراءات الصارمة التي تفرضها اسرائيل، فإن قوارب الصيد لا تستطيع ان تمخر عباب البحر المتوسط إلى عمق اكثر من ميل بحري (1.6كم) دون ان تطلق القوارب العسكرية الاسرائيلية النار عليها.

لكن الصيادين الفلسطينيين يخرجون الى البحر مع ذلك. ويشير أبو عودة، وهو صاحب قارب، الى ثلاثة ثقوب كبيرة احدثتها طلقات اسرائيلية من العيار الثقيل في قاربه. ويشرح وضعه بالقول "لو بقيت في المنزل، فانني ساموت من الجوع، ولذلك، فإن من الافضل ان اموت في البحر لاوفر الغذاء لأبنائي". وكان أحد القوارب قد ضل طريقه في الايام الاخيرة وابتعد أكثر من اللازم، فما كان من زورق حربي اسرائيلي الا ان اطلق عليه النار ما ادى الى مقتل احد الصيادين.

ومنذ الثامن والعشرين من حزيران الماضي حين قصفت طائرات نفاثة اسرائيلية محطة الكهرباء الرئيسية في غزة، لم يعد الناس يحصلون الا على اربع ساعات من التيار الكهربائي في كل يوم. ويبدو الوضع محزناً في مستشفيات غزة، حيث أجبر 400 فلسطيني يعانون من امراض تهدد حياتهم او اصابات على الانتظار لثلاثة اسابيع قبل ان تفتح السلطات الاسرائيلية نقطة عبور رفح للسماح للفلسطينيين بالمرور الى مصر من اجل تلقي العلاج الطبي. ورغم توافر الغذاء في غزة، إلا أن القليلين من الفلسطينيين يستطيعيون دفع ثمنه نظرا لان الحكومة لم تعد قادرة على دفع رواتب الشرطة والاساتذة والبيروقراطيين. ويعتمد اكثر من 70% من الغزيين على مساعدات غذائية دولية للبقاء على قيد الحياة. وفيما يعض الفقر الناس بأنيابه، تفتقر العديد من العائلات الى اصدقاء يمكن الاقتراض منهم، مما دفعها إلى الشروع في بيع اثاثها، بل وحتى مجوهرات المهور بغية توفير الطعام. وذهب البعض الى ابعد من ذلك؛ بحيث ترى الان حوانيت بيع الملابس المستعملة وهي تنتشر في ضواحي غزة الأكثر فقراً.

أما بالنسبة لكل من اسرائيل والولايات المتحدة، فقد هدف الضغط على غزة إلى تحقيق فوائد افترض بأنها ستكون نتيجة طبيعية، مثل نثر بذور عدم الرضا من الحكومة التي تقودها حركة حماس، وتعزيز مركز عباس الذي تنظر اليه اسرائيل على انه الشريك المفاوض الحيوي الوحيد. لكن شيئا من هذا القبيل لم يحدث بعد. وتقول مصادر مقربة من عباس ان رايس قد وعدت برفع العقوبات وإعادة تدفق الاموال الى الفلسطينيين في حال تم اطلاق سراح العريف الاسرائيلي المختطف وإقدام الرئيس عباس على حل الحكومة التي تقودها حماس. لكن عباس، بالرغم من انه المفضل لدى ادارة بوش، قد ينتهي به المطاف الى ان يكون الخاسر. اذ يرى فيه الكثير من الفلسطينيين شخصاً ضعيفا ومتقلبا، كما أن رجال حماس المسلحين هم اكثر عددا وافضل تنظيما من مقاتلي فتح التابعين لعباس، والذين انقسموا الى ميليشيات متنافسة، والتي يتركز نشاطها الرئيسي في غزة هذه الايام على سرقة السيارات وعمليات الخطف. ويعترف ضابط كبير من فتح بقوله "ان صورتنا في الشارع باتت سيئة للغاية، اذ ينظر الينا على اننا انانيون ومتعاونون مع اسرائيل وأننا لسنا نقاتل من اجل فلسطين، وهذا ما يتجاهله عباس. وأنت لا تستطيع ان تواجه خصومك السياسيين من دون دعم جماهيري".

هنا تكمن الكيفية التي يمكن ان تندلع في اطارها حرب اهلية، اذ بدأ الوعاظ الاسلاميون الخاضعون لنفوذ حماس في الحض على نبذ عباس في المساجد ووصفه بأنه تابع لاسرائيل والولايات المتحدة، مقللين بذلك من حجم صدقيته. وقد تعمد حماس عندها إلى استغلال اغلبيتها في المجلس التشريعي لمحاولة عزل عباس عن الرئاسة. واذا ما فشلت تلك الجهود، فإن مقاتلي حماس سينزلون الى الشوارع في غزة وفي الضفة الغربية على حد سواء. ومن شأن مثل هذا النزاع المميت ان يشق الفلسطينيين. ذلك لان العديد من العائلات تضم آباء يدعمون عباس فيما الاولاد ينتمون الى حماس. كما ان التبعات قد تكون سيئة بالنسبة لاسرائيل بدورها. ويقول قائد كبير من حماس ان الشق مع عباس غير قابل للترميم. ومع ان حماس قد وافقت على وقف حملات التفجيرات الانتحارية ضد اسرائيل، فإن هذا القائد يقول "اخشى ان (الضغوطات) من الامريكيين والاسرائيليين قد تفضي الى حمل الراديكاليين داخل حماس على استئناف هذه الهجمات". واذا ما حدث ذلك فإن غضب اسرائيل من الفلسطينيين سيكون بالتأكيد اكثر حدة .

ان الخطر بالنسبة الى اسرائيل - والعالم - هو انه كلما طال امد حصار غزة، اصبح من الأكثر ترجيحاً تقوية مركز الراديكاليين الذين لديهم مصلحة قليلة في التوصل الى تسوية سلمية للنزاع مع اسرائيل. وبالرغم من الحصار المفروض على غزة، فإن لدى العديد من الفلسطينيين القليل من الذكريات الطيبة عن الاسرائيليين. وإليك الأمثلة: هناك فهمي، الصبي الفلسطيني البالغ من العمر احد عشر عاما ويعاني من سرطان الدم، والذي كان قد ادخل الى المستشفى في القدس مرتين، وهو لا يزال يتلقى مكالمات من طبيبه الاسرائيلي لمتابعة حالته. وثمة مزارع قصفت بياراته من البرتقال اثنتي عشرة مرة على أيدي الاسرائيليين في اعقاب اطلاق صاروخ فلسطيني من حقل مجاور لها، لكنه لا يزال يتحدث باعجاب عن اصدقاء اسرائيليين. ومع انه يعارض الميلشيات الفلسطينية وحجم الدمار الذي تتسبب به عند رد الجانب الاسرائيلي، فإنه يقول "اذا بدأت بالشكوى من اقدام هذه الميليشيات على اطلاق الصواريخ، فإنهم سيقتلونني".

إن الاسرائيليين إذا ما اعتقدوا بأن حصارهم لغزة قد يفضي الى تقويض الدعم الفلسطيني لحركة حماس، فإنهم مخطئون بلا ريب، حيث أفضى الحصار فقط الى جعل الفلسطينيين يشعرون بغضب اكبر، ووضعهم في حالة بؤس اكبر. وكما يقول المواطن الغزي عمر شعباني، وهو رجل اقتصاد "يسألني اطفالي لماذا يفعل الاسرائيليون ذلك بنا، ولا استطيع اجابتهم. فأنا لا اريد ان ازيد من درجة كراهيتهم لاسرائيل، لكن الحقيقة هي ان الاسرائيليين يفعلون كل شيء ممكن من اجل ان يجعلونا نكرههم".

التعليقات

جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف