«توتال» وتداعيات السياسات الدولية في العراق
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على إنستجرام
إضغط هنا للإشتراك
بيروت - وليد خدوري
لفتني الأسبوع الماضي احتجاز رئيس الاستكشاف والإنتاج في مجموعة "توتال" الفرنسية كريستوف دي مارجوري، المرشح لرئاسة المجموعة، في مطار باريس مدة 48 ساعة من قبل القاضي كوروا للاشتباه بعلاقة الشركة النفطية الفرنسية ببرنامج النفط مقابل الغذاء الذي أقره مجلس الأمن عام 1996 للسيطرة على صادرات النفط العراقي.
وتزامن هذا الحدث مع تدهور الأوضاع في العراق حيث أخفقت الفئة الحاكمة منذ ربيع عام 2003 في تأسيس جمهورية جديدة، تحوز رضى غالبية العراقيين وموافقتهم، ناهيك عن عدم تمكنها من إحلال السلام والأمان والاستقرار في البلاد، وعجزها عن بناء مؤسسات فاعلة تستطيع أن تدير الدولة.
ونتج من هذا الإخفاق التاريخي، على رغم الدعم السياسي والاقتصادي واللوجستي الأميركي، قتل وجرح وتشريد مئات آلاف العراقيين من جهة، وولوج البلاد في نفق مظلم لا تعرف نهايته في الوقت الحاضر، وترك المجال مفتوحاً على احتمالات عدة، منها التقسيم والتشرذم، وحال من الفوضى الطويلة المدى في أحسن الأحوال. ويتوقع أن تستمر هذه الأوضاع المزرية لسنوات إلى أن يُعرف مصير البلاد والمستقبل السياسي المنتظر.
هناك أسباب عدة وراء الوضع السيئ الذي يعم العراق، ولسنا هنا في مجال تحليلها ومناقشتها. لكن من الواجب التذكير بأن أحد الأسباب الرئيسة وراء انهيار الدولة العراقية وضعضعة أركان المجتمع هو الحصار الاقتصادي طيلة 13 سنة تقريباً، الذي فُرض على البلاد بعد احتلال الكويت، وتم تلطيفه قليلاً من خلال برنامج النفط في مقابل الغذاء.
لقد كان الهدف من الحصار ضعضعة النظام وأركانه والمجموعات الملتفة حوله. لكن ما حدث فعلاً، هو أن هذه الفئات تحديداً استطاعت قبل غيرها أن تستفيد من الحصار ومن برنامج النفط في مقابل الغذاء على حساب بقية أفراد الشعب العراقي. كما كان الهدف من البرنامج تسهيل مراقبة الأمم المتحدة وتحديداً مجلس الأمن مبيعات النفط العراقي، وخصوصاً الدول الخمس الكبرى وأهمها طبعاً الولايات المتحدة.
لكن ما حصل فعلاً، أن مجلس الأمن فوَّض الى النظام العراقي اختيار الشركات الدولية التي يريد التعامل معها وتوقيع العقود معها، مع الاحتفاظ بحق إلغاء أي عقد يشتبه به، وذلك قبل أن يعطي موافقته النهائية على العقود قبل تنفيذها. وهذا يعني أن أعضاء مجلس الأمن، ومن ضمنهم طبعاً الأعضاء الخمسة الدائمون، كانوا يراجعون الأوراق الثبوتية لكل عقد على حدة قبل العمل به.
ولم يُرفض خلال فترة البرنامج الممتد من كانون الثاني (يناير) 1996 وحتى آذار (مارس) 2003، أي عقد إلا واحداً فقط لشركة من أوكرانيا اشتبه ببيعها السلاح الى العراق.
أما في ما يتعلق بشركة "توتال"، فهي تستثمر في كل الدول العربية النفطية، من دون استثناء. ولعب السيد دي مارجوري تحديداً وطيلة ربع القرن الماضي دوراً أساسياً ورائداً في سياسة توسيع استثمارات الشركة في المنطقة العربية، على رغم التحديات الكبرى. وكانت فلسفته، أنه سيتعامل مع الدول العربية بحدود القوانين التي تسمح له بها دولته والاتحاد الأوروبي ومجلس الأمن. بمعنى آخر، رفض دي مارجوري الانصياع الى قوانين المقاطعة والحصار التي كانت تفرضها الولايات المتحدة من جانب أحادي ضد هذا البلد او ذاك في الشرق الأوسط لسبب بسيط، أن شركته فرنسية وليست أميركية.
وبالفعل، أخذ دي مارجوري المبادرة بعدما انسحبت شركة "كونوكو" من الاستثمار في حقل سري البحري في الخليج بسبب الضغوط التي مارستها واشنطن، ودفع بتوقيع "توتال" مع السلطات الإيرانية على الإنتاج من هذا الحقل، وحصل الأمر نفسه مع ليبيا. وبذلك تحدى قانون "دى ماتو" الذي كان يهدد الشركات العالمية بالاستثمار في حقول إيران وليبيا.
أما في العراق، وعلى رغم اتفاق الشركات الروسية والصينية مع النظام السابق على تطوير حقول نفطية، رفض دي مارجوري توقيع عقود مشابهة، على رغم الإغراءات الكبيرة التي كانت تمنحها هذه الاتفاقات، لأن بغداد أصرّت في حينه (خريف 1997) على أن تقوم الشركة الفرنسية بأعمال الاستكشاف والتنقيب قبل رفع الحصار. كما أن الشركة الفرنسية رفضت، وهذا الأمر منشور في النشرات النفطية المتخصصة، أن تشتري برميلاً واحداً من النفط العراقي عندما فرض النظام السابق ضرائب إضافية على السعر تُدفع له في مصارف أجنبية، مخالفاً بذلك قرارات مجلس الأمن. واتخذت "توتال" قرارها في الوقت الذي وافقت شركات عدة من دول أعضاء في مجلس الأمن وخارجه على التعامل مع بغداد، نظراً الى الربح الذي حققته من هذه العمليات.
طبعاً مجموعة "توتال" مسؤولة أمام القضاء الفرنسي وتستطيع ان تشرح موقفها. أما بالنسبة للعراق، حيث ضاعت بلايين الدولارات نتيجة الحصار، وبلايين أخرى صرفت من دون مستندات وشفافية في عهد بريمر، وبلايين إضافية تسرق سنوياً بحسب مفوض النزاهة، فلا توجد هناك محاسبة. كما لا يوجد من يقف امام القوات الأميركية التي هرّبت قبل أيام وزير سابق يحمل الجنسية الأميركية من محكمة عراقية الى المنطقة الخضراء بعد أن اتهم بالفساد من قبل قاض عراقي.
ما هو مغزى هذا الكلام؟
تبنت الولايات المتحدة سياسات خاطئة تجاه النظام الديكتاتوري في العراق أدت في ما أدت إليه، الى حال الفوضى التي تعم البلاد هذه الأيام. ونبع عدد كبير من هذه السياسات من قصر النظر والجهل والفلسفة المتكبرة، من دون أخذ رأي الشعب العراقي في الاعتبار، ولا مصالحه الاقتصادية ولا مصالح دول أخرى ولا حتى القوانين والأعراف الدولية.
إن قراءة معمّقة لكتاب الصحافي الأميركي المشهور بوب ودوارد "حالة نكران"، تدل بوضوح على أن آخر ما كان في ذهن المحافظين الجدد الذين هيمنوا على البنتاغون ومن ثم السياسة الأميركية في العراق طيلة الفترة الماضية هو مصلحة الشعب العراقي. وهمهم الأساسي، وهذا ما دل عليه تخبطهم في سياسة "إعادة التعمير" خلال السنوات الثلاث، والتي أدت الى صرف بلايين الدولارات من دون أي مقابل يُذكر لها، هو دعم الشركات الانشائية والأمنية الأميركية العملاقة من دون الأخذ في الاعتبار مصلحة العراق وحاجاته في هذه المرحلة.
وما الخراب في العراق اليوم، والفوضى التي ستسود إلا نتيجة حتمية لهذه السياسات العقائدية الخاطئة.