جريدة الجرائد

الأسلحة السرية لوكالة الاستخبارات المركزية الأميركية (3)

قراؤنا من مستخدمي تويتر
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على تويتر
إضغط هنا للإشتراك

الثلاثاء: 2006.10.24



أطراف الحرب الباردة يحولون الأسرى إلى حقل تجارب مرعبة


تأليف :غوردون توماس
عرض ومناقشة: محمد مخلوف ـ البيان




يجد القارئ نفسه هنا على موعد مع مسلسل مرعب من الحقائق والأسرار، حيث تكشف الوثائق أن أطراف الحرب الباردة قد قطعوا الشوط كاملاً في تجهيز ترسانات هائلة من الأسلحة الكيميائية والبيولوجية على الرغم من إدراكهم للتأثير الوحشي لهذه الأسلحة التي استخدمتها اليابان ضد المدنيين في الصين واستخدمتها الولايات المتحدة في محاولة تقصير أمد الحرب الكورية، لكن المسلسل لا يتوقف عند هذا الحد، وإنما سيكتشف القارئ كيف تحول أسرى الحرب إلى حقل لتجارب واختبارات مخيفة بلا حدود.

في 17 سبتمبر 1996، تقدم رجل متوسط العمر للمثول أمام لجنة من ممثلي الأمن القومي الأميركي كي يدلي أمامهم بأغرب شهادة عن التجارب القاتلة التي أجريت على أسرى الحرب الأميركيين أثناء الحرب الكورية. اسم ذلك الرجل هو جان سينجا وقد كان الأمين العام السابق للحزب الشيوعي التشيكوسلوفاكي، والذي كان أيضاً مديراً للموظفين في وزارة الدفاع ببلاده، وكان قد ترك هذه السلطات الأميركية تنتظره ثلاث عشرة سنة كي تستمع إليه، أي إلى أن قرر الهرب إلى الغرب بعد أن أحس بأن اعتقاله قد اقترب بتهمة ارتكابه جرائم سياسية ضد الدولة. وبعد يومين فقط من هروبه وصل إلى الولايات المتحدة ليحصل فوراً على الجنسية الأميركية وعلى وظيفة في أجهزة الاستخبارات. لقد تحدث لمدة نصف ساعة أمام اللجنة الأمنية، وبلغة إنجليزية ذات لكنة أجنبية واضحة، وكان ما قاله يشكل على غرار طرق الاغتيال التي مارسها الدكتور ستانلي غوتليب، مسؤول قسم البحث العلمي بإدارة الحرب الكيميائية والجرثومية والنفسية في جهاز الاستخبارات المركزية الأميركية لسنوات طويلة، أحد أكثر الوثائق إثارة للذهول حول الحرب الباردة.. وهذه الأقوال يتم نشرها للمرة الأولى، كما يؤكد مؤلف هذا الكتاب.

عندما ينكشف النقاب

كان مما قاله: "كنت تحت أمرة الروس عندما سمعت للمرة الأولى عن أسرى الحرب الأميركيين والكوريين الجنوبيين الذين كان الأطباء السوفييت والروس يستخدمونهم.

ولن أزعم أنني أعرف مصير جميع سجناء الحرب المفقودين، لكنني أعرف ما حصل لعدد كبير منهم. اختصاراً أقول إن المئات منهم جرى استخدامهم لإجراء تجارب عليهم في كوريا وفيتنام. وفي بداية الحرب الكورية تلقينا من موسكو تعليمات ببناء مستشفى عسكري في كوريا الشمالية. كان هدفه الرسمي هو معالجة جرحى الحرب، لكن ذلك لم يكن في الواقع سوى غطاء أو واجهة، حيث إن الهدف السري للغاية من بناء ذلك المستشفى كان إجراء تجارب على أسرى الحرب الأميركيين والكوريين الجنوبيين. وكان الأطباء العسكريون يتدربون عليهم في ميدان معالجة الجروح الخطيرة أو بتر الأعضاء.

وكان يتم استخدامهم أيضاً من أجل تجريب آثار العناصر الكيميائية أو البيولوجية أو تقدير آثار الإشعاعات الذرية.

وكان السوفييت يستخدمون الأسرى الأميركيين أيضاً من أجل معرفة مدى قدرتهم على التحمل جسدياً ونفسياً، وكذلك لتجريب عدة أنواع من المخدرات التي تساعد على السيطرة الذهنية على الآخر، وكان على تشيكوسلوفاكيا أن تبني أيضاً محرقة في كوريا الشمالية من أجل التخلص من الجثث بعد إجراء التجارب على أصحابها في حياتهم.

ولم يستخدم الأميركيون والكوريون الجنوبيون وحدهم كحقل تجارب بشرية. بل جرى أيضاً استخدام الألوف من الأسرى السوفييت والتشيكوسلوفاكيين للغرض نفسه.

وكان الأميركيون والكوريون الجنوبيون مهمين جداً للمشروع السوفييتي ذلك انه كان من المهم فهم تأثير مختلف أنواع المخدرات والعناصر الكيميائية والبيولوجية والإشعاعات الذرية على عروق أخرى وعلى بشر جرت تربيتهم بصورة مختلفة. وكان السوفييت يريدون أيضاً معرفة ما إذا كان هناك فرق حسب البلد الأصلي، في قدرة الجنود على تحمل وطأة حرب نووية ومتابعة القتال.

كان السوفييت يفكرون جدياً بضرورة التحضير للحرب النووية ولتطوير المخدرات والمنتجات الكيميائية وكان ذلك يتطلب القيام بتجارب على بشر من جنسيات معادية مختلفة.. ربما أن الولايات المتحدة كانت العدو الرئيسي، فإن أسرى الحرب الأميركيين كانوا أكثر المطلوبين لإجراء التجارب عليهم.

عند نهاية الحرب الكورية كان هناك مئة فقط من سجناء الحرب لا يزالون بمثابة عناصر قابلة للاستخدام من أجل إجراء اختبارات أعتقد أن الآخرين ماتوا أثناء التجارب، إذ لا أتذكر أبداً أنني قرأت أي تقرير يدل على أنه كان لا يزال هناك أسرى مرضى لا يزالون أحياء بالمستشفى، هذا باستثناء المئة الذين كانوا لا يزالون على قيد الحياة عند نهاية الحرب، هؤلاء الباقون جرى تحويلهم على أربع دفعات إلى تشيكوسلوفاكيا أولاً لإجراء فحوص طبية لهم ثم إرسالهم إلى الاتحاد السوفييتي.

رغم أنني لم أتحدث سوى عما جرى في كوريا فإنني حريص على أن أشير بوقوع الأمر نفسه في فيتنام ولاوس أثناء الحرب الفيتنامية. الفرق الوحيد هو أن تلك العمليات كانت أفضل تنظيماً وبالتالي أجريت التجارب على عدد أكبر من الأسرى الأميركيين في فيتنام أو لاوس أو الاتحاد السوفييتي. وكان مكتبي مسؤولاً عن تنظيم عملية استلام أسرى الحرب عند استقدامهم وتأمين أمكنة لهم قبل تحويلهم إلى الاتحاد السوفييتي. وقد كنت شخصياً موجوداً عند هبوط السجناء من الطائرات.

حيث جرى نقلهم فيما بعد في حافلات طليت نوافذها الزجاجية باللون الأسود، واقتيدوا إلى براغ حيث حلوا في ثكنات عسكرية أو مراكز أمنية أخرى بانتظار ترحيلهم إلى الاتحاد السوفييتي. وما بين عام 1961 وعام 1968 أي حين تركت تشيكوسلوفاكيا، جرى نقل ما لا يقل عن 200 أسير حرب أميركي عبر براغ إلى موسكو.

أشير إلى أن تلك العملية جرت في إطار السرية الكاملة وكانت المعلومات الخاصة بها مصنفة على أنها أسرار دولة أي أكثر من سرية للغاية. وأعتقد أنه لم يكن في تشيكوسلوفاكيا كلها أكثر من 15 شخصاً يعرفون بنقل أسرى حرب أميركيين إلى الاتحاد السوفييتي.

سياسة ورقة التوت

بعد شهادة جان سينجا الأمين العام السابق للحزب الشيوعي التشيكوسلوفاكي جاء دور الكولونيل الأميركي المتقاعد فيليب كورسو الذي كان مديراً لأجهزة الاستخبارات أثناء الحرب الكورية في القيادة الشرقية، حيث عمل تحت إمرة الجنرال دوغلاس مكارثر ثم الجنرال ماتيو ريدغواي وأخيراً الجنرال مارك كلارك، وشهادته هذه يتم أيضاً نشرها للمرة الأولى.

وبعد تأكيده على أنه كان يعرف بوجود عدة قوافل من أسرى الحرب الأميركيين في الحرب الكورية الذين جرى تحويلهم إلى الاتحاد السوفييتي، حيث مورست عليهم عمليات غسل دماغ وأشنع الفظاعات.

أضاف عند عودتي إلى الولايات المتحدة جرى تعييني في مجلس تنسيق عمليات البيت الأبيض وفي مجلس الأمن القومي حيث اهتممت بجميع المشروعات الخاصة بأسرى الحرب الأميركيين وقد اكتشفت عندها أن السياسة الأميركية منعت الانتصار في كوريا. كانت تلك السياسة معادلة لحالة شك حقيقية، وقد صرفت جهودنا من أجل استعادة أسرانا من العدو، بما في ذلك الاتحاد السوفييتي.

بعد سنوات تحدثت عن ذلك الوضع مع وزير العدل روبرت كيندي في مكتبه وقد شاطرني الرأي. وقد أسمينا تلك السياسة بسياسة ورقة التوت وفي عام 1953 كان هناك 500 أسير أميركي بين مريض وجريح على بعد 15 كيلومتراً من نقطة مبادلة السجناء في بانمونجوم، لكنهم لم تتم مبادلتهم أبداً.

وعندما كنت في الخدمة في القيادة الشرقية، تلقيت العديد من التقارير التي أكدت أنه جرى تحويل أسرى الحرب الأميركيين إلى الاتحاد السوفييتي، وقد تنوعت مصادر تلك التقارير من أسرى حرب صينيين أو كوريين شماليين وتقارير عملاء لنا ومحاضر لوطنيين صينيين ومن الهاربين والأسرى الأميركيين الذين عادوا.

هاتان الشهادتان يسوقهما مؤلف هذا الكتاب عن الممارسات السوفييتية أثناء الحربين الكورية والفيتنامية قبل أن يعود إلى صديقه بيل بوكلي المنهمك بحكم وظيفته بقراءة التقارير الهائلة التي أعدتها وكالة الاستخبارات المركزية الأميركية، حول المخزون الهائل الذي كان يمتلكه الاتحاد السوفييتي في نهاية الحرب العالمية الثانية من الأسلحة الكيميائية والبيولوجية، وخاصة في أوكرانيا ومنطقة الأورال والجمهوريات الإسلامية آنذاك. وقد أكدت تلك التقارير أن السوفييت كانوا قد كدسوها هناك تحسباً لاحتمال نشوب نزاع مع الصين.

وقد وجد بوكلي بين ملفاته وثائق عديدة تعود لأجهزة الاستخبارات الألمانية أثناء الحرب العالمية الثانية وكانت تتحدث بالتفصيل عن القدرات السوفييتية في مجال التسليح البيولوجي وكانت أهم المختبرات السوفييتية موجودة على ضفاف نهر الفولغا. ويتحدث أحد تلك التقارير عن أنه كان يتم حقن الفئران بجراثيم الطاعون ثم يتم قذفها بصناديق تتحطم عند ملامستها الأرض وبذلك تتحرر الفئران لتشيع المرض على نطاق واسع.

ويتم التأكيد في هذا السياق أيضاً على أن الصين كانت قد كدست أيضاً كميات كبيرة من الأسلحة البيولوجية وقد أطلقت برامجها في هذا الميدان منذ عام 1940 بعد أن كانت طائرة يابانية قد ألقت كميات كبيرة من الأرز والقمح المحشوة بمادة الانتراكس السامة على مدينة شنسن الصينية في مقاطعة شيكانغ. وبعد عام فقط كانت مدينة صينية أخرى هي شانغ تيه في مقاطعة هوفان قد عرفت المصير نفسه ولكن تلك المرة بحبوب أرز وقمح مضمنة بجراثيم الطاعون. وكانت أعداد الضحايا كبيرة جداً في الحالتين.

أثناء الحرب العالمية الثانية لقي الألوف من الجنود الصينيين حتفهم بسبب جراثيم متنوعة ألقتها الطائرات المعادية، لكن لم ترد الصين على ذلك بالمثل أبداً، إنما كانت خشية واشنطن كبيرة عندما اندلعت الحرب الكورية بعد ذلك من أن تستخدم الصين الأسلحة البيولوجية تلك المرة مع التأكيد على أنه كان قد جرى اختيار جراثيم تؤدي للإصابة بأربعة أمراض من أجل استخدامها ضد كوريا الشمالية من قبل الأميركيين وهي أمراض الجمرة الخبيثة (الانتراكس) والحمى المالطية "المتموجة" والحمى التلرية (نسبة إلى منطقة تلار وفي كاليفورنيا حيث ظهر المرض للمرة الأولى)، وداء الببغاء (الذي يمكن أن يصيب الانسان أيضاً).

وكان العالم الأميركي فرانك اولسون يعمل على هذه الجراثيم الأمر الذي دعا بيل بوكلي إلى الاستنتاج أنه كان قد رافق الدكتور ستانلي غوتليب إلى كوريا الجنوبية عام 1952، وكان غوتليب هو المسؤول عن مثل تلك النشاطات لدى وكالة الاستخبارات المركزية الأميركية.

وكان تقرير قد صدر عن اللجنة العلمية الدولية للتحقيق في الوقائع الخاصة بالأسلحة الجرثومية في كوريا والصين، وهو تقرير منشور عام 1952 ويتألف من سبعمئة صفحة، قد وصل إلى نتيجة مفادها أن "السكان الصينيين والكوريين جرى استهدافهم بالفعل بأسلحة جرثومية.. كما أن ذلك التقرير تضمن قائمة بالأسلحة التي جرى استخدامها ضد كوريا الشمالية.. وكان من أكثر الأسلحة استخداماً أقلاماً تحتوي على حبر ملوث بالجراثيم المسببة للأمراض، وأيضاً ريش مغطى بالانتراكس جرثومة الجمرة الخبيثة. وبراغيث وقمل وذباب تحمل كلها جراثيم الطاعون والحمى الصفراء.

لندن على الخط

كان فرانك ولسون قد قام بعدة أسفار أيضاً إلى بريطانيا كي يدرس النشاطات الخاصة بالتسلح البيولوجي مع الدكتور وليام سارغان المسؤول البريطاني عن ذلك القطاع في إطار جهاز الاستخبارات الانجليزي "إم أي 6" وفي أحد أسفاره بتاريخ 9مايو 1950 ذهب إلى قاعدة بوفنغتون التابعة للقوات الجوية الانجليزية والتي كان يستخدمها آنذاك عملاء وكالة الاستخبارات المركزية الأميركية وجهاز الاستخبارات البريطاني للانطلاق إلى أوروبا.

ويروي أحد التقارير أن أحد الباحثين البريطانيين قد شرح لولسون أنه كان يحاول الحصول على سم زعاف من مرارة تمساح.. وإنه كان ينبغي للحيوان أن يكون حياً كي يكون السم فعالاً.. لذلك فكر ذلك الباحث أن يسأل مخازن "هارودز" الشهيرة في لندن، والتي رفعت شعار نبيع كل شيء، عما إذا كان بإمكانها أن تستورد تمساحاً له من افريقيا.

لم يتم تنفيذ تلك الفكرة إذ رفضها رؤساؤه بسبب ما تحمله من مخاطرة.واقترح باحث آخر في مجال الكيمياء مشروع خلط نوع من الأسمنت كان شائع الاستخدام كثيراً في البناء بالاتحاد السوفييتي بمادة تجعله يتفسخ فيما بعد واطلع ولسون في بريطانيا على العديد من السموم المستخدمة من القواقع البحرية وغيرها.

ويؤكد مؤلف الكتاب على أن الأشهر الأخيرة من حياة فرانك ولسون كانت حاسمة في اتخاذ قرار نهايته يوم 23 نوفمبر 1953 وأن الدكتور وليام سارغان الطبيب النفساني والمسؤول الكبير في جهاز الاستخبارات البريطاني له دور كبير في المصير الذي عرفه وكان ولسون قد وصل إلى انجلترا مايو 1953 حيث حصل على ترخيص يسمح له بزيارة المناطق البريطانية والفرنسية والأميركية في برلين الغربية التي كان يهم بالذهاب إليها.

وقبل سفره إلى هناك التقى به الدكتور سارغان على مأدبة عشاء.

ويروي مؤلف هذا الكتاب أن الطبيب البريطاني نفسه قال له: "بالقياس إلى الهدوء الذي أظهره خلال لقاءاتنا السابقة بدا عليه التوتر، بل ربما القلق. وقد أعلن لي أنه رأى هناك ـ في برلين ـ للمرة الأولى استخدام أحد اكتشافاته على المدانين بأن يكونوا حقولاً للتجريب. وقد فهمت أنه لم يكن قد حضر أبداً ما يسمى بالتجارب النهائية. أدهشني ذلك جداً نظراً للسنوات الطويلة التي عمل فيها بهذا النوع من الأبحاث".

وكان هناك لقاء آخر بين الرجلين بعد عودة ولسون من برلين.. "وكان ذلك هو اللقاء الذي حدد مصير فرانك ولسون"، كما يقول مؤلف هذا الكتاب الذي ينقل عن الدكتور سارغان قوله له فيما بعد:

"كان قد واجه للمرة الأولى حقيقة ما كان يفعله. ولم يخفِ أنه حضر عملية قتل المدانين بالتجارب التي كانت وكالة الاستخبارات المركزية الأميركية تستخدمهم لتجاربها في ألمانيا. كان يطرح على نفسه الكثير من الأسئلة وكان بحاجة إلى من يطمئنه حيال رغبته للحديث مع رؤسائه المباشرين عما رآه. كان ولسون هو النموذج الكلاسيكي لعالم المخبر الذي يرى للتو النتيجة النهائية لعمله".

بعد إقلاع ولسون مباشرة إلى الولايات المتحدة من إحدى القواعد التابعة للقوات الجوية الملكية البريطانية بالقرب من لندن.. عمل الدكتور "سارغان" ما اعتبره واجبه ونصح رؤساءه في الأجهزة السرية البريطانية عدم السماح بعد ذلك لولسون بالوصول إلى الأبحاث التي كانت تجري في مختلف المؤسسات السرية التي زارها سابقاً في بريطانيا.

واعتبر سارغان أن ولسون قد أصبح "شخصاً مؤهلاً للذهاب إلى وسائل الإعلام كي يكشف لها ما يجري. وانه كان يعتبر ذلك واجباً وطنياً. ولم يكن يفهم أن الوطنية الحقيقية كانت تتطلب قبول ما رأى".

كان سارغان على دراية كاملة بأن التقرير الذي سوف يكتبه عن فرانك ولسون سوف يتم تحويله إلى رؤسائه في وكالة الاستخبارات المركزية الأميركية، ولكن: "لم يكن هناك مجال كي لا أفعل ذلك، فالأميركيون ونحن كنا دائماً على درجة عالية من التلاحم حيال مثل هذا النوع من المشكلات، ثم أنه لنا مصالح مشتركة علينا أن نحميها".

وكان مما كتبه في ذلك التقرير، كما روى بيل بوكلي فيما بعد، قوله إن ولسون كان "مشوشاً بعمق مما رآه في أقبية وكالة الاستخبارات المركزية الأميركية في ألمانيا، وهناك عناصر مختلفة تدل على انه لم يكن ينوي الاحتفاظ بسر ما كان قد رآه".

نهاية ولسون

قبل عدة أسابيع فقط من موت فرانك ولسون في 23 نوفمبر 1953 كان الدكتور ستانلي غوتليب يركز أبحاث قسمه كلها حول مادة واحدة هي "ال. اس. دي".. وكان قد اكتشف أن جريمة صغيرة جداً من ذلك المخدر يمكن أن تعطي نتائج باهرة. إذ إن الذين يأخذونه "يفقدون مفهوم الزمن والمكان الذي هم فيه ويفقدون التمييز بين الخير والشر.

إنهم يفقدون كوابحهم ويكثرون من مزاعمهم ويقولون بصوت عالٍ ما يجول في رؤوسهم. إن رجالاً أصحاء الجسد والعقل يصبحون مجانين مؤقتاً، وكان هناك رجل جرى خلط ما يشربه بقليل من الـ .اس. دي تبدى له أنه يرى قوس قزح يخرج من الأرض ووحوشاً تنبثق من الجدران ثم سقط على الأرض وهو يصرخ أنه مستعد للاعتراف بأي شيء كي يتوقف ذلك".

هذه النتائج دفعت الدكتور غوتليب للتفكير بأنه قد ينبغي استخدام الـ "ال. اس دي" وفي حالة ولسون اي اعتباره "حقل تجريب" اذ قد يمكن بذلك التعرف بسهولة أكبر على استعداداته. ويشير المؤلف الى ان بيل بوكلي قد وجد البرهان القاطع على ذلك وسرده في وثيقة كتبها يعدد تاريخها ليوم 29 اكتوبر 1984.

وقد جاء فيما كتبه انه في مطلع نوفمبر 1953 أخبروا ولسون أنه عليه حضور "ندوة" مدتها ثلاثة أيام حيث سيتم نقاش آخر التطورات التي وصل اليها مشروع "ام. كا الثرا للأسلحة السرية".

وفي يوم 18 من ذلك الشهر توجه الى حيث سيتم عقد الندوة كان عدد الحضور حوالي اثني عشر شخصاً من المعنيين بالموضوع من بينهم الدكتور غوتليب وريشارد هلمز وجورج هنتروايت.. وكان الجميع ومهما اختلفت الطرق خبراء بالاغتيال، خاصة وايت الذي لم يكن يمتلك على أية معرفة علمية باستثناء معرفة أنواع المخدرات، كما يتم تحديد القول.

في نهاية اليوم الأول وعند العشاء أصر غوتليب على ان يجلس ولسون بجانبه وكان شديد اللطف عليه، ثم عندما فرغوا من الطعام دعاهم جميعاً لشرب كأس قبل الذهاب الى النوم، وأخذ وايت دور من يقدم الشراب.

وهكذا عرف النوع الذي يفضله ولسون ليعطيه في مساء اليوم التالي كأساً منه ممزوجاً بمادة "ال. سي. دي" تنفيذاً لتعليمات غوتليب وبعد عشرين دقيقة أخذ ولسون يردد للجميع: انتم لستم سوى عصابة من الجواسيس، وينبغي عليّ ان لا أوجه كلاما لكم. ثم خرج وهو تحت تأثير المخدر وذهب الى منزله، ولم يقل لزوجته عند وصوله سوى جملة واحدة، هي "لقد كنت في عالم مختلف وكنت مشوشاً جداً".

في اليوم التالي، وكان يوم أحد، أبدى مزاجاً أفضل ودعته زوجته أليس لحضور فيلم سينمائي، وكان عن "لوثر" وقصة رجل يناضل وحده ضد منظمة قوية، لم يتفوه ولسون بكلمة واحدة عند العودة الى المنزل، وذهب للنوم مباشرة، لينهض في صباح اليوم التالي مبكراً" ويغادر المنزل وهو يقول لزوجته إن عليه الاهتمام بقرار حاسم، وعندما وصل الى المكتب بادر رئيسه المباشر الكولونيل رويث بالقول: "إما ان تطردونني أو استقيل!" وكان يدور "مثل حيوان في قفص".

قرروا في وكالة الاستخبارات عرض ولسون على طبيب في نيويورك اسمه هارولد ابرامسون وكان غوتليب قد اختاره لانه كان يعمل منذ أشهر على عقار الـ "ال. اس. دي" ويقوم بتجارب لحساب مشروع "إم كي الترا" على بعض المرضى المختارين بعناية.

وفي نيويورك كان جورج وايت هو المكلف بعمليات الحجز في فندق "ستاتلر لولسون الذي رافقه رئيسه رويث ـ شخص آخر اسمه "لاشيروك" كان يعمل معه في الميدان نفسه وفي ذلك الفندق انتهت حياة فرانك ولسون ليلة 23 نوفمبر 1953، وطويت القضية يومها على اساس انه انتحر اذ القى بنفسه من الطابق العاشر للفندق.

دليل طرق الاغتيال

لقد طويت القضية مؤقتاً اذ على الرغم من الحرص الذي أبدته وكالة الاستخبارات المركزية الأميركية على طمسها تماما، فإن صحيفة "الواشنطن بوست" نشرت في صدر صفحتها الأولى تقريراً حول ظروف وفاة فرانك ولسون بعد 23 سنة من الحادث.

وبتاريخ 28 نوفمبر 1994 أكدت لجنة للطب الشرعي كانت قد فحصت الجثة برئاسة جيمس ستار استاذ القانون والطب الشرعي في جامعة جورج واشنطن بأن موته يدعو لـ (التفكير بشكل حاسم ان الأمر يتعلق بعملية قتل) هذا، ما دل عليه تحطم الجمجمة في مساحة تعادل قبضة اليد، وكان جورج وايت شهيراً ب"توجيه مثل تلك الضربات التي استخدمها غالباً كما يقول المؤلف ثم ينقل عن اريك ولسون ابن القتيل، ما كتبه وجاء فيه:

"ان افضل طريقة لتمويه عملية قتل على انها حادث هي ضرب الضحية على الرأس، وفي المكان المحدد الذي اكتشف فيه ستار تهشم جمجمة أبي ثم رميها من نافذة بناء عال. عملية القتل هذه تحمل توقيع وايت.

ما قرأناه ليس رواية بوليسية ابطالها من اختراع المخيلة وانما أحداث حقيقية وأساليب مارستها وكالة الاستخبارات المركزية الأميركية، وطبقت فيها إرشادات دليل "طرق الاغتيال" الذي أعدته وينشر منه مؤلف هذا الكتاب العديد من الصفحات.

أما الشخصيات الرئيسية في قضية "فرانك ولسون" فهي شخصيات كانت على قمة جهاز الاستخبارات الأميركي، وقد حاولت طمسها بعد وقوعها، بل وهناك شخصيات بينها لايزال لها دورها الفاعل في الحياة السياسية الأميركية، فلنقرأ ما كتبه مؤلف هذا الكتاب:

لم تتكشف كل الحقيقة حول موضوع فرانك ولسون سوى في يوليو 2002، اذ ان وثائق استطعت الحصول عليها تثبت ان نائب الرئيس الأميركي ديك تشيني ووزير الدفاع دونالد رامسفيلد ساهما في خنق القضية وتدل الكتابات المعنية والمحفوظة في مكتبة جيرالد فورد، والتي كتبها تشيني ورامسفيلد على ان اريك ولسون كان على حق عندما أكد ان هذين الرجلين كانت لهما صلة بالقضية.

كانت مهمة تشيني ورامسفيلد هي اخفاء ظروف موت فرانك ولسون. وكان رامسفيلد يومها رئيساً للموظفين في البيت الأبيض في إدارة جيرالد فورد.. وكان تشيني يعمل فيها أيضاً كمستشار رفيع المستوى.. وجاء في إحدى تلك الوثائق المكتوبة: كانت نشاطات الدكتور ولسون حساسة الى درجة انه كان من المحتمل قليلاً معها ان تعطي المعلومات الحقيقية.

وكتب تشيني في وثيقة أخرى. أن محامي أسرة الضحية سيحاولون معرفة التفاصيل عن النشاطات المهنية للدكتور ولسون وعن ظروف موته. وفي أية قضية قد يصبح واضحاً أننا نخفي مؤشرات لأسباب تتعلق بالأمن القومي، واعتباراً منذئذ سيتم النظر الى كل تعويض أو حكم بمثابة محاولة للمحافظة على أسرار نشاطات وكالة الاستخبارات المركزية الأميركية بواسطة دفع الأموال".ويضيف المؤلف: في عام 2006 لايزال مكتبا رامسفيلد وتشيني يرفضان كليهما تقديم أي تعليق حول دور الرجلين في قضية فرانك ولسون.

التعليقات

جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف