جريدة الجرائد

إبدال عراق المنابر بعراق المقابر

قراؤنا من مستخدمي إنستجرام
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على إنستجرام
إضغط هنا للإشتراك



محمد الرميحي


في شهر ايلول (سبتمبر) 2004 قدم كاتب هذه السطور دراسة مطولة بطلب من مركز الدراسات الاستراتيجية والمستقبلية في جامعة الكويت، كان موضوعها "قراءة في مستقبل العلاقات الكويتية - العراقية" ونُشرت بعد ذلك في كتيب صغير صدر عن المركز ذاته. زبدة الحديث أن الدراسة انتهت إلى عدد من السيناريوهات المتوقعة للعراق، منها وأنقل بالحرف خيار برز واضحا هو خيار تقسيم مقنن للعراق وبرعاية دولية". ولم أكن احتاج وقتها إلى بلورة سحرية لقراءة نتائج الصراع الدائر في العراق بعد عام من "التحرير" أو "الاحتلال"، كل كما تحلو له التسمية، كما لم أكن بحاجة إلى أن انتظر حتى يُقتل من العراقيين 600 ألف شخص كي أصل إلى ذلك الحكم شبه القطعي. فقط كان علي أن أقرأ تاريخ العراق الحديث وتكويناته الاجتماعية وتاريخ صراعه السياسي الداخلي المليء بالدم والدكتاتورية، مسقطا كل ذلك على الوضع الإقليمي والاقتصادي والسياسي القائم، وعلى الساحة العالمية كي أصل إلى ذلك التصور.

اليوم بعد محاولة اشاعة شيء من الهدوء الحذر في العراق بعد دعوة مؤتمر مكة الى الوفاق بين الأطراف المتناحرة، يبدو الأمر أكثر تعقيدا مما كان، فوثيقة مكة هي فقط الحد الأدنى وتعكس رغبة دول الجوار لتسكين العراق على شيء من التوافق، إلا أنها رغبة أكثر منها فعل. فالبيوت التي اصطلح على تسميتها بالبيوت الثلاثة في العراق، السني والشيعي والكردي بتكويناتها الفرعية المختلفة والمتصارعة، هي أكثر ما تكون من البعد عن التوافق الوطني أو الوصول إلى مرافئ آمنة للعراق، تنتج دولة موحدة. إنها في طريق الفرقة مهما صفت النيات.

حقيقة الأمر أن العراق الذي نشأ كما عرفه العالم منذ الحرب العالمية الأولى بحدوده وبمواطنيه، لن يعود كما كان. تلك حقيقة كلما تعايشنا معها كلما كان ذلك أفضل راحة للدول المجاورة وللمكونات العراقية المختلفة لتتبين المستقبل. فهناك في نهاية المطاف كيان عراقي جنوبي ذو نكهة ثقيلة من النفس الإيراني السياسي، وهناك شمال عراقي كردي لا يخلو من نكهة تركية، وهناك عراق سني في غرب الوسط العراقي لن يخلو من نكهة عصبية قبلية دينية. تلك هي الخريطة المستقبلية وربما النهائية للصراع على العراق.

المهم هنا هو الثمن الذي سيدفعه بعض اللاعبين على الساحة العراقية أو في جوارها.

لم يعد سرا اليوم أن هناك بعض التسليم في بعض الدوائر الأميركية أن الحملة على العراق قد فشلت أو هي قريبة من الفشل، وليس من الضروري الآن البحث عن "كبش فداء لهذا الفشل" فقد يكون هناك أكثر من كبش واحد. النتيجة انه لم يعد من غير العقلاني أن تقارن الحملة على العراق بالحملة على فيتنام، ونحن نعرف ما حل هناك، ويستطيع الذكي أن يعرف اليوم ما سوف يحل بالعراق خلال عامين أو أكثر على وجه التقريب. فشل أميركا في الحملة على العراق يعني فشل مشروعها الشرق أوسطي، وفشل حلفائها أيضا وعلى رأسهم الإدارة البريطانية الحالية، وليس بعيدا عن الواقع أن جزءا كبيرا من ضعف توني بلير رئيس الوزراء البريطاني الملحوظ سياسيا، الذي اجبره على الإعلان عن التخلي عن المنصب الأول، هو نتاج الحملة الفاشلة على العراق، ولقد بدأ حتى بعض المتحفظين تقليديا من الجيش البريطاني ينوهون بهذا الإخفاق، وهو أمر غير مسبوق في تاريخ العسكرية البريطانية التقليدية والمحافظة.

إلا أن الوضع الإقليمي هو الهام، ففشل الولايات المتحدة يعني استفادة المشروعات المضادة تلقائيا. والمستفيد الأول من الإخفاق في العراق لا شك سيكون طهران، لعدد من الأسباب أولها "نموذج" طهران في الحكم الذي سوف يُصدَر بطبعة منقحة إلى العراق، وعلى الأقل الى جنوب العراق،على أمل أن يصدر أيضا ابعد من العراق، وفي حالة وجود "جنوب عراقي" شبه مستقل سيكون اعتماده في الاقتصاد كما في السياسة على الجار الإيراني القوي، إلا أن النفوذ الإيراني لن ينتهي هنا، فهناك "مطالب إيرانية" في المنطقة أولها النفوذ السياسي وبعده الاقتصادي، وهو نفوذ يتعدى جنوب العراق كي يمتد إلى الخليج لأسباب استراتيجية وديموغرافية ليست وليدة الثورة الإيرانية ولكنها طموح قديم لأي حاكم في طهران. الى جانب الفراغ الذي يمكن الذي يحدثه سياسيا فشل مشروع أريد له أن يكون "ديموقراطيا" وتترتب عليه استحقاقات كبرى في منطقة النفط العربية والحيوية.

في الشمال العراقي، ورغم الموقف التاريخي لتركيا المعارض لوجود "كيان مستقل كردي" على حافة حدودها الجنوبية، خوفاً من إثارة نعرة التحرر لدى أكرادها الكثيرين، الذين خاضوا ولا يزالون حروبا سياسية وبالسلاح من اجل كيان ما لهم في الجنوب التركي، رغم ذلك فان واقع الأمر يفرض شيئا من القبول التركي بكيان كردي في شمال العراق تحت شروط معينة لن يتأخر أكراد العراق في تقديمها لأنقرة، حيث المعادلة عند أكراد العراق لا تخرج عن أن المخاطرة كبيرة في المجاهرة بالعداء لأنقرة، والجائزة اكبر في التوصل إلى وفاق كردي معها. من المحتمل أن تتنازل القومية الكردية عن أية طموحات في كل من إيران وتركيا في سبيل كيان كردي "باليد" في شمال العراق، خاصة انه غني اقتصاديا بما فيه الكفاية لإقامة دولة، قد تكون في وقت قادم قاعدة إقليمية لأي طموح كردي اكبر.

اليتامى في غرب العراق ووسطه من السنة بعضهم يتامى صدام حسين وكثيرون منهم لا يخفون ذلك، وبعضهم يتامى عصر عراقي مضى، وتشبثهم بالعراق القديم هو تشبث الغريق بقشة عائمة. فالعراق القديم بسبب نزق النظام الصدامي وما قبله لم يعد قابلا للإحياء تحت حسابات الواقع الاستراتيجي الجديد. قد يلجأون في نهاية المطاف إلى بلدان عربية قريبة لإقامة نوع من أنواع التعاون الهش وغير الفعال.

مسلسل أحداث العراق في السنوات الثلاث الأخيرة يقود إلى النتيجة القائلة إن الفشل في إقامة دولة حديثة قادرة على العيش والتطور هو فشل مركب، أول اسبابه قراءة خاطئة للتطور العالمي وثانيه أنانية مفرطة من قبل اللاعبين المحليين.

آخر الأدوية التي يفكر فيها البعض في العراق هو حل "اللاحل"، وهو انقلاب عسكري، سياسي من نوع ما، إلا أن هذا الحل سيفاقم الجرح النازف في بلاد الرافدين بدلا من أن يقدم العلاج الناجع.

لقد ذهبت أيام الآنسة بل ( الخاتون) التي حكمت العراق عند بزوغه الحديث بعد الحرب العالمية الأولى، وذهب حديثها الذي دونته في مذكراتها والقائل "ان الساسة العراقيين يريدون أن يعرفوا مقدار إجادتهم تنفيذ سياستنا" كي نرضى عنهم، ذلك القول الطافح باليقين ذهب إلى ملفات التاريخ، وجاء زمن آخر قال عنه بول بريمر، حاكم العراق بعد التحرير/ الاحتلال، في مذكراته المنشورة حول تجربته كحاكم مطلق في العراق: "جنودنا قدموا إلى العراق لا لشيء إلا لاعادة بناء البلاد، وإعادة النظام، وعندما يخرجون لن يأخذوا معهم شيئا سوى موتاهم"، إلا أن عدد الموتى تضخم في الجانبين العراقي والأميركي، ولم تُبنَ البلاد ولم يعد النظام! عليكم قراءة التاريخ من جديد لعل وعسى!

التعليقات

جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف