جريدة الجرائد

منظّر الأفغان العرب: نكسة 1967 كانت «نعمة عظمى»

قراؤنا من مستخدمي تويتر
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على تويتر
إضغط هنا للإشتراك

ثرثرة فوق سقف العالم - منظر الأفغان العرب: حرب 1967 كانت ثغرة عاد منها شباب إلى الإسلام

أبو الوليد قال في كتابه الجديد: فارق كبير بين العمل في جبهة فلسطين والجهاد الأفغاني


لندن ـمحمد الشافعي

في كتابه "ثرثرة فوق سقف العالم" لمؤلفه أبو الوليد المصري منظر "الأفغان العرب" وصهر سيف العدل القائد العسكري لـ"القاعدة"، يركز على نكسة عام 1967 التي اعتبرها أقسى الصدمات في حياة جيله. الا انه اعتبرها أيضا "نعمة عظمى" على المنطقة العربية لأنها كانت الثغرة التي عادت منها الشعوب ـ خاصة الشباب ـ الى الاسلام من جديد. وقال: "ما زالت تداعيات تلك الهزيمة تؤثر في حياتنا وفكرنا كأفراد وكأمة، وستظل كذلك الى نهاية الصراع وتسوية الحسابات النهائية بين المسلمين واليهود. لقد زلزلت الكارثة كل المفاهيم السائدة في المنطقة، وبدأت الأجيال المعاصرة في البحث من جديد عن هويتها الحقيقية. واضاف :"أخذتني هزيمة 1967 الى شاطئ الاسلام من جديد وكان ذلك في عام 1975، كانت رحلة شاقة، ولكن فرحة العودة كانت رائعة، وبدأت محاولة البحث عن المكونات الاسلامية القديمة. فالاسلام يعني الاخوان، والاخوان تعني الله والرسول والقرآن والجهاد والشهادة". لقد تركتهم على هذا الشكل في تلك الايام القديمة في الخمسينات. كنت أعمل في "أبو ظبي" وكانت مساجدها نشطة وعامرة بالنشاط الثقافي والمحاضرات والضيوف من بلاد عديدة يلقون المحاضرات الاسلامية، وكان ذلك ممتعا لي في ذلك الوقت. ولكنه لم يكن كافيا، فما أبحث عنه غير موجود.
حاولت ان أسأل من حولي عن الاخوان والجهاد وفلسطين وكانت الاجابات لا تشفي الغليل، وبدت لي مساحة العمل الاسلامي خاوية رغم النشاط المسجدي الذي أراه من حولي، ورغم الاخبار من مصر عن صحوة فوارة بين الشباب، وتيارات جديدة تنبت في الجامعات، لا ادري علاقتها بالاخوان ولكني لم اتصور، الا كونها احدى نتاج نشاطهم الجديد في مصر.

يقول أبو الوليد "كانت فرحة العودة والشباب ورغد العيش تدفعني الى الاجتهاد، فأطيل المكوث في المساجد وأحضر المحاضرات ما استطعت وذهبت الى الحج مرتين. ولكني ما زلت أشعر بالفراغ وبأن هذا النوع من "اسلام المترفين"، كما سميته لا يصلح لي بحكم ما تعلمته في طفولتي المبكرة. فأين الجهاد في سبيل الله؟ وهل يجاهد الاخوان ضد اليهود في فلسطين انطلاقا من الاردن أو لبنان؟ وهل يعملون منفردين أو تحت غطاء منظمة أخرى؟ وكيف يمكن ان أعثر عليهم وأعمل معهم؟ كنت متأكدا أنهم يعملون ضد اليهود في فلسطين وأنني سأعثر عليهم في مكان ما بطريقة ما وأعمل معهم في الجهاد. وحدثت معي عدة مواقف فهمت بعدها أنني مثل أهل الكهف الذين ناموا في كهفهم مئات السنين، كانت الدنيا من حولهم قد تبدلت وهم لا يشعرون. بعد تلك المواقف ادركت أن خريطة العمل الاسلامي اصبحت معقدة ولم تعد بسيطة ومباشرة كما كنت أتخيلها. كان في ذهني ثلاثة عناصر فقط: (الاسلام ـ اخوان ـ جهاد). ولكن الاحداث أثبتت سذاجة هذا التصور.

الموقف الأول: قامت جماعة التبليغ بزيارة المسجد القريب من بيتي وألقى متحدثوهم مواعظ رقيقة وبسيطة ومؤثرة ثم قام اميرهم بدعوة الحضور بالخروج معهم في سبيل الله ونشر الدعوة. هزتني الكلمة وكأنها صدمة كهرباء. اخيرا. ما أعياني البحث عنه يأتي الى عندي هكذا ببساطة. لم اصدق نفسي ولم أنم لعدة ليال. كنت أفكر في ترتيب أوضاعي تمهيدا للسفر مع الجماعة للجهاد في سبيل الله. وفي الاسبوع التالي عادت الجماعة الى المسجد ودعوت الامير وعددا منهم الى بيتي كي أفهم منه تفاصيل ذلك الخروج في سبيل الله. واكتشفت أخيرا انه سياحة واسعة في البلاد لدعوة الناس الى الاسلام. ورغم عظمة العمل الا انني شعرت بالاحباط. فليس هذا ما أبحث عنه. وشعرت ان الاسم اكبر من حجم العمل ـ على أهميته ـ وأحزنني ان يطلق اسم الخروج في سبيل الله على شيء آخر غير القتال في سبيل الله، وتذكرت قوله تعالى: "وتودون أن غير ذات الشوكة تكون لكم". وعدت الى البحث من جديد.

الموقف الثاني: كان عبد الرحيم زميلا لي في الدراسة الثانوية وقابلته بعد انقطاع سنوات طويلة وهو يعمل مهندسا طيارا في دولة خليجية. وكان قد اهتدى الى الاسلام في وقت مبكر من شبابه ـ سابقا اياي بعدة سنوات ـ كما انه اجتهد في تحصيل العلوم الشرعية، فاعتبرته لذلك مرجعية دينية بالنسبة لي. زرته يوما في بيته مهموما اسألة عن الجهاد وكيف السبيل الى فلسطين ـ أو لبنان (كانت الحرب الاهلية هناك قد بدأت وذبح الكثير من المسلمين) ـ أو اريتريا وكانت أخبار تأتي من هناك عن مسلمين وجهاد.

كان رأيه أن المنظمات الفلسطينية تعتنق الشيوعية فلا يجوز القتال معها، ثم ان اصلاح حال المسلمين يبدأ بإصلاح الفرد المسلم والاسرة المسلمة وبالتالي سوف ينصلح المجتمع ويسود فيه قانون الاسلام ـ ويومها نستطيع ان نجاهد اليهود وغيرهم ـ ولما كان الجهاد هو ذروة سنام الاسلام، فإن المجاهد لا بد ان يبلغ ذروة الكمال في تطبيق الاسلام من فرائض وسنن، وان يطاع الله تمام الطاعة وتجتنب نواهيه تمام الاجتناب. والا فإن اي معصية سوف تؤدي الى هزيمة، وأي زيغ في النية سوف يهوي بصاحبها في قاع جهنم رغما عما تكبده من مشقة حيث ان عمله قد احبط. جادلته بما أملك من حجة: اذا كان هؤلاء راياتهم شيوعية، فلماذا لا نتحرك ونضع لأنفسنا راية اسلامية؟. واذا كان تحويل المجتمعات يتم بطريقة ميكانيكية من الفرد الى الاسرة الى المجتمع الى النظام الاسلامي. فلماذا لم يكن الامر كذلك مع رسولنا ـ صلى الله عليه وسلم ـ ولماذا تكبد وأصحابه كل تلك المشاق والمعارك والدماء؟ اذن المسألة ليست تحويلا ميكانيكيا للمجتمع، بل مسألة صراع بالكلمة والسيف حتى يتم التغيير المنشود.

اما عن المجاهد وكونه قمة شامخة في دنيا الاسلام، فهذا يستحيل تقريبا على كل أو معظم المسلمين. وهذا يعني عمليا ايقاف الجهاد، لأن الناس ليسوا في المستوى اللائق وعليهم قضاء فترات أطول ـ قد لا تتسع لها أعمارهم المحدودة ـ للوصول الى تلك المستويات السامقة التي قد لا يبلغها غير الانبياء والصديقين. وهذا يعني في واقع الأمر ايقاف الجهاد او الغاءه، وترك الأمة فريسة لأعدائها. أجاب صديقي اجابة شافية وافية لم تدع مجالا لمزيد من النقاش فقال: "انت تتكلم بالرأي وليس بالدليل الشرعي"، ومعنى ذلك ان كل حججي التي اجتهدت في حشدها له تعتبر لاغية وكأنها لم تكن. وهكذا توقف الحوار. وشعرت بمزيد من العزلة. وقد صادفتني بعد ذلك بسنوات ـ على أرض أفغانستان ـ ومع الشباب العرب تلك المواجهة الغريبة والقاطعة بين "الرأي" و"الدليل الشرعي". وكان اعجبها في معركة جلال اباد، كما سيأتي ذكرها لاحقا، عندما نصحت بعضهم ان المعركة غير صحيحة عسكريا، فأجاب انها واجبة شرعا واتهمني بأنني اتكلم بالرأي وليس بالدليل الشرعي. وكانت النتيجة اننا ـ كعرب ـ دفنا في جلال اباد اكبر عدد من الشهداء العرب في افغانستان. وما زلت حتى الآن أخسر معظم المعارك بين "الرأي" و"الدليل الشرعي" ولم أفهم حتى الآن حاجة الاجراء التكتيكي في ميدان المعركة او الخطة الاستراتيجية لدى القيادة، الى دليل شرعي يثبت صحتها، اذا كانت هي نفسها لم تخالف قاعدة شرعية اسلامية معروفة.

الموقف الثالث: في الخامس عشر من مارس (اذار) 1978 هاجمت اسرائيل جنوب لبنان ووقعت معارك شديدة بينهم وبين اهل الجنوب والمنظمات الفدائية الفلسطينية هناك. كالعادة كانت خسائر العرب شديدة، لكنهم هذه المرة اصابوا اليهود وعرقلوا تقدمهم بشكل لم يكن متوقعا أدى الى اطالة مدة القتال، وأتاح ذلك فرصة لاشتعال الحماس لدى الشعوب العربية ـ خاصة بعدما احدثته زيارة السادات للقدس وتراجعاته الحثيثة امام اليهود سياسيا.

فتحت مكاتب منظمة التحرير مكاتبها لقبول المتطوعين العرب. وكتب الشيخ أحمد بن عبد العزيز مبارك رئيس المحاكم الشرعية في أبوظبي فتوى شرعية يبين فيها ان الجهاد الى جانب الفلسطينيين وضد اليهود اصبح فرض عين على كل مسلم. كان هذا ما انتظره وعزمت على الرحيل الى لبنان للجهاد.

مرة اخرى صديقي عبد الرحيم طالبني بالتريث قائلا بأن ذلك الرأي ليس قطعيا ولا ملزما، ويجب ان استفتي المزيد من العلماء. وان ضيفا سيأتيه وهو من علماء وزارة الاوقاف وسوف نسأله. وفعلا جاء الرجل، لكنه طلب مهلة الى يوم الاثنين مساء، لأن المشايخ سوف يجتمعون في ذلك اليوم لمناقشة الفتوى واصدار حكمهم في الموضوع. لم أكد أذق طعم النوم ليومين حتى جاء الشيخ بالحكم في القضية.. فقال: لقد اجتمع المشايخ وقرروا ان رأي الشيخ أحمد صحيح وان الجهاد فرض عين في هذه الحالة. وعليه فمن أراد ان يذهب للجهاد فلا اثم عليه، لكن في نفس الوقت فإن الرايات المرفوعة هناك ليست اسلامية، وهي اما شيوعية او قومية وعلى هذا فلا يجوز القتال تحت هذه الرايات، لذلك فمن أراد القعود فلا اثم عليه.

كانت صدمة جديدة، وحيرة أشد، كيف يفتينا الشيخ بشيئين متناقضين ومتعارضين في وقت واحد وفي نفس القضية؟ كيف يكون الجهاد فرض عين ثم يترك الخيار لكل شخص، فمن ذهب فلا اثم عليه ومن قعد فلا اثم عليه؟ لقد وضعوني على مفرق الطريق وطالبوني ان اتصرف كما أرى. فأين الفتوى؟ وصديقي عبد الرحيم زاد موقفي سوءا برأي جديد اضافه، فقال: طبقا لمهنتي كمهندس طيار فإنني اعلم ان الطيران الاسرائيلي لديه القدرة ان يصيب بالصواريخ منتصف الخط الابيض الذي يقسم مدرج الطائرات.

ونحن مأمورون شرعا بالاعداد لقتال العدو فأين هو الاعداد؟ واذا كانت الجيوش العربية جميعها لا تستطيع مواجهة اسرائيل، فماذا يملك الفدائيون؟ ان اسرائيل تمتلك الى جانب الطائرات المتفوقة، القنابل الذرية ايضا. والنتيجة ان علينا شرعا واجب الاعداد حتى نتساوى معهم او قريبا منهم.

وكانت ليلة عصيبة مرهقة بسبب صديقي ومشايخ الاوقاف. واخيرا جاء الفرج على يد الشيخ حسن البنا، اقصد الشيخ عبد البديع صقر، الذي عمل سكرتيرا خاصا للشيخ البنا لمدة عشر سنوات. وكان شخصية محترمة من الجميع، لا يجامل، ذو طابع عملي دؤوب، خرج من مصر عام 1954، فارا من اعتقالات عبد الناصر للاخوان، لهذا رغم اننا ننتمي الى محافظة واحدة في مصر، الا انني لم اتعرف عليه الا عام 1973 في دبي.

وكنت اكن له احتراما كبيرا. تصادف وجوده في الخليج وقت أزمتي تلك فاستشرته فيها، فأشار عليّ بالذهاب للجهاد بلا تردد وقال: اذهب يا بني فالجهاد فرض عين، وقاتل مع فتح فربما وجدت بها اسلاميين واذا قتلت فسوف تبعث على نيتك. ولا تخش بأسا على اولادك، فقد رأينا بالتجربة ان ابناء الشهداء يكونون اغنى واسعد الابناء.

اخذت نفسا عميقا وكأن صخرة ثقيلة قد انزاحت من فوق صدري. وانفتح أمامي طريق مبارك رائع ما زلت أسير فيه منذ سمعت تلك الكلمات المخلصة من الشيخ الحبيب.

مع صديقي اسماعيل بدأنا الرحلة من أبوظبي صوب جنوب لبنان. قررنا السفر الى بيروت منفردين عن غير طريق منظمة التحرير، لذلك لم نسجل اسماءنا في مكتبهم في ابوظبي. ظننا ان ذلك سيكون اكثر أمنا، كما اننا توقعنا ان يتصرفوا فينا كما يشاؤون وقد يرسلوننا الى منظمة شيوعية فتكون مشكلة، وكان كلانا ملتحيا بشكل انيق وعصري. وأخذ كل منا مبلغا من المال لنشتري سلاحا من بيروت (هكذا قدرنا!) فالعاصمة اللبنانية جميع من فيها مسلح ويمكن في تقديرنا شراء سلاح بسهولة. أما التوجه الى الجنوب فليس من الصعب تدبيره. وهناك سوف نلتحق مباشرة بمراكز الفدائيين.

كانت تصورات ساذجة، لكن هكذا كنا نفكر، فالتجربة نخوضها لأول مرة على أرض بلد لم نره قبلا مع أناس لا نعلم عنهم شيئا تقريبا. (وقد تكررت معنا التصورات الساذجة مرات عديدة في السنوات التالية، كما رأينا غيرنا يسقط فيها وربما يفيد ان نورد بعضها في هذا الكتاب. وربما يفيد ذلك الاجيال التالية في عملها او في تقييم عمل جيلنا في هذا الزمان).

كنا نحترس من ان تعلم السلطات المصرية بأمرنا ـ فالحكومة هناك بدأت مسيرة السلام، وأصبحت اسرائيل بالنسبة لهم دولة صديقة ـ هذا اضافة الى الحساسية التقليدية من العمل الجهادي ـ خاصة اذا كان ضد اليهود.

وكنا نقدر ايضا ان منظمة التحرير انما هي العوبة للانظمة العربية وانها مخترقة بكافة انظمة الاستخبارات في المنطقة ـ حتى اليهودية منها ـ وكانت الاغتيالات التي حدثت لقادة المقاومة في بيروت وعمليات الكوماندوز الاسرائيلي ضد قواعد الفدائيين في جنوب لبنان شواهد لا تحتاج الى توضيح على مدى عمق الاختراقات الامنية للمنظمة.

لهذا تفادينا الاتصال بمكاتب المنظمة واردنا الوصول الى الخط الاول مباشرة. كانت المفاجأة الاولى ان الطائرة التي ركبناها كان معظم ركابها من الشباب المتطوعين من الفلسطينيين المقيمين في دولة الامارات وكثير منهم يعرف اسماعيل ـ وهو شاب رياضي وكابتن فريق للكرة الطائرة وذو علاقات اجتماعية واسعة ـ وبعضهم عرفني، وهكذا وبصفتنا المصريين الوحيدين على الطائرة وايضا من كل المتطوعين في هذه الازمة على حد علمنا، فقد كنا موضع حفاوة واهتمام من الجميع وبدلا من التخفي وجدنا انفسنا فجأة تحت الاضواء.

مرة اخرى على الحدود السورية ـ اللبنانية في منطقة المصنع احتجزت المخابرات السورية جميع المتطوعين ـ ونحن معهم ـ واصطحبت الجميع الى مبنى ضخم لمدة ساعات تم فيها تصوير كل شخص على حدة، وتحويل الجوازات الى غرفة خاصة لفحصها وتصويرها. اثار هذا تذمر الشباب، ونمنا الليلة داخل الحافلة ونحن جلوس على المقاعد في جو درجة حرارته تحت الصفر، وسط الثلوج. ولم تكن معنا ملابس مناسبة ونحن قادمون مناطق حارة لا تعرف الشتاء تقريبا.

وهمست في اذن اسماعيل بأننا قد اصبحنا في سجلات المخابرات السورية وهذا لا يبشر بخير، ومن الافضل الا نفكر في زيارة سورية مرة اخرى. وبالفعل فقد اكتشف اسماعيل بعد عشر سنوات تقريبا بأن اسمينا قد كتبا متتابعين على قائمة واحدة سوداء، وقد اخبره بذلك اقارب زوجته السورية التي تزوجها في وقت لاحق. كان صعبا ان يصدق اسماعيل ذلك في وقتها ومكاتب المنظمة تعمل بحرية في دمشق. والاذاعة السورية لا تمل في الحديث عن الكفاح المسلح ضد العدو الصهيوني. وقد وصلنا دمشق وزرنا مكاتب المنظمة بدون اعتراض من احد او حتى تسجيل اسماء او التقاط صور.

والى هذا الوقت لا ادري لماذا وضعت المخابرات السورية اسمينا في القائمة السوداء. وبعد اربعة عشر عاما من هذه الواقعة وجدت اسمي ايضا في قائمة سوداء لدى السلطات الباكستانية في اعقاب انتهاء الجهاد في افغانستان عام 1992. وما زلت لا ادري بالضبط الدافع وراء هذا العمل. فلم ارتكب اية جرائم ضد كلا البلدين سوى العبور من اراضيهما بطريقة رسمية تماما للجهاد في الدولة المجاورة ضد اليهود تارة وضد السوفيات والشيوعيين تارة اخرى.

ان حكوماتنا لن تتسامح على الاطلاق مع التحرك الجهادي حتى وان التقت مصالحها معه بشكل مؤقت.

ان هذه الحقيقة على بساطتها تبدو احيانا مستعصية على افهام معظم المسلمين ونشاهد الآن كيف ان مجاهدي كشمير وقطاعا من مجاهدي باكستان الذين شاركوا في جهاد افغانستان ما زالوا يعملون بتنسيق كامل مع المخابرات الباكستانية في قضية كشمير، رغم علمهم بمعاداة الحكومة آنذاك للاسلام بشكل واضح وتصفيتها للتواجد العربي الجهادي في بيشاور وتحطيمها لأفغانستان وشعبها بدعمها للحرب الأهلية في كابل مع اضطهاد المهاجرين والتضييق عليهم على الحدود وفي داخل البلاد. ولفت نظري في بيروت اتساع العمل الاداري للمنظمة ودقته، فقد سلمنا وثائق السفر (الجوازات) في احد المكاتب التي يعمل بها عدد كبير من الموظفين، كأي هيئة جوازات في دولة وعندما انتقلنا الى الجنوب في وقت لاحق اكتشفنا ان وثائقنا قد انتقلت الى مقر القيادة في صيدا.

كان من الواضح ان لدى المنظمة وفتح وفرة في الكوادر المؤهلة في الادارة كما في العمل العسكري او الثقافي.

كانت المعركة في الجنوب قد هدأت ـ ولكن لم تتوقف ـ ولم يستطع اليهود تجاوز جنوب مدينة صور حيث اوقفتهم المقاومة الفلسطينية. كان الحماس في الذروة. ورغم الحماس والتأهيل العالي والانضباط الواضح في القطاعات التي تعاملنا معها، الا اني شعرت ان العمل كان خاويا لم اشعر بحرارة الايمان ولا يكاد يظهر للاسلام اثر في كل هذا الخضم من النشاط والحركة. نادرا ما وجدت مصليا وكان ذلك نادرا ومثار دهشة من الآخرين. لقد حاولوا تعويض هذا النقص بزيادة الصراخ والاناشيد الحماسية.

اما احتياطاتهم الامنية فكانت ملموسة ولعدة مرات تم تصويرنا بحجة استخراج هويات ـ وهو ما لم يحدث بالمرة ـ واكتشفوا بالفعل عددا من العملاء في دفعتنا واثناء التدريب تم اطلاق النار عليهم في الأرجل وخرجوا من بيننا. وقد اخبرنا مدربونا بذلك فيما بعد.

وقد قارنت تلك الصورة التي انطبعت في ذهني في اول تجربة عملية للجهاد عندما انتقلت الى المحطة التالية ـ افغانستان ـ في العام التالي مباشرة. وكان التناقض بين الصورتين واضحا. في افغانستان لمست الايمان كما لم اعهده قبلا او تخيلته ـ خاصة في سنواته الثلاث الاولى ـ اما سوى ذلك فليس هناك شيء. لا كوادر مؤهلة ولا نظام ولا أمنيات وظل الجهاد في افغانستان يعاني من ذلك النقص حتى آخر ايامه.

وفي بيروت ثم في جنوب لبنان وداخل منظمة فتح بحثت عن الاخوان فلم اجد لهم اثرا. وكان بعض الهمس يدور حول اشخاص معدودين كانت لهم ارتباطات اخوانية قديمة. واكثرهم قد تنازل عنها وانجرف في تيار اليسارية التقدمية وقالوا ان مؤسسي فتح بمن فيهم ابو عمار كانوا اخوانا. ولكنهم محسوبون كأنهم تيار اسلامي داخل فتح التي بدورها اتخذت اطارا فكريا فضفاضا يحتوي الجميع ما داموا قد اتخذوا الكفاح المسلح شعارا ومنهجا. لهذا قابلنا الشيوعيين بأنواعهم وكذلك القوميين ومسلمين سنة وشيعة ودروزا ايضا على القائمة الاسلامية.. وهكذا حتى الجنسيات المتعددة كانت موجودة من دول اسلامية واوروبية وحتى أميركية.

كنت اتخيل انني سأجد في لبنان تواجدا اسلاميا قويا، فطبيعة المعركة تحتم ذلك فاليهود يزحفون بجيشهم ويدمرون الجنوب. ومع ذلك لم نيأس حتى جاء يوم الجمعة ونحن في معسكر التدريب في قرية الدامور، فذهبنا للصلاة في بيت صغير على الشارع العام المواجه لشاطئ البحر. كان قد حوّل الى مسجد وكانت القرية كلها للموارنة سابقا قبل ان يطردوا منها في الحرب الشعواء الدائرة والمنعدمة الهوية.

كان خطيب الجمعة شابا لبنانيا بليغ الخطاب ممتلئا حماسا وقوة. نظرت واسماعيل كل منا الى الآخر واعيننا تنطق بالفرح ان قد وجدنا ضالتنا اخيرا. بعد الصلاة اسرعنا الى خارج المسجد وانتظرنا حتى انتهى من الاحاديث الفرعية والاسئلة من جمهور المصلين. وما ان فرغ حتى احطنا به وجذبناه برفق بعيدا عن الحاضرين وامطرناه بوابل من الاسئلة المتلاحقة: اين المسلمون اين الجهاد؟ اين المعسكرات؟ كيف نجدكم؟ هل يمكن ان نجاهد معكم واين وكيف؟

لقد انتعشت آمالنا في المستقبل عندما شاهدنا الاقبال على الصلاة في معسكر الدامور. وتزايد العدد بالتدريج حتى بلغ ربع عدد المتدربين. واثر في نفوسنا كثيرا قصتنا مع ذلك الفتى الذي كان يجلس يراقبنا اثناء الصلاة لعدة ايام، ثم جاء على استحياء كي يقول: اريد ان اصلي معكم، ولكني لا اعلم ماذا تقولون في الصلاة ورغم كونه في حوالي العشرين، الا انه لم يكن يحفظ اي شيء من القرآن. لقد احزننا هذا كثيرا.. كيف يمكن ان يصل شاب مسلم الى هذه السن ولا يحفظ حتى فاتحة الكتاب.

بدأ الشاب يتعلم وانضم الى صفوف المصلين وغمره فرح طفولي وحماس فطري غريب.

فترة الدامور أقنعتني وصديقي بأنه يمكن عمل الكثير في لبنان وحتى في صفوف المقاومة الفلسطينية وان غياب العمل الجهادي والدعوي عن هذه الساحة كان كارثة يتحمل الاسلاميون جزءا منها ولاحظنا ان كثيرا من شباب المقاومة يزداد شغفهم بالاسلام كلما اقتربت اجواء المعركة مع اليهود وافتقاد الدعاة المقاتلين في تلك المواضع انما هو جريمة يتحملون وزرها وخسارة فادحة للاسلام واهله.

قارنت تلك الصورة بما وجدته في افغانستان فكنت اشعر بالألم وكيف ان المجاهدين الافغان لم يكن احد منهم يهجر الصلاة من الطفل الصغير الى الشيخ الطاعن في السن. وكيف ان الاسلام وشعائره قدسية هائلة في النفوس ـ رغم جهلهم بالعربية، وبالتالي جهلهم بكثير من احكام الاسلام. حتى ان الشيوعيين الافغان ما كانوا يجرؤون على الجهر بآرائهم في الدين على الملا، إلا في حالات نادرة ادت الى كوارث بالنسبة لهم. وأدركت الى أي مدى اصبح الاسلام غريبا في بلاد العرب.

كنت انوي الاستقرار في لبنان والعمل مع منظمة فتح واحضار اسرتي الى الجنوب. لولا حادث لم يكن في الحسبان ادى الى الغاء المشروع والانسحاب نهائيا من المنطقة. في صباح احد الايام وعلى طعام الافطار تجمع شباب مجموعتنا على الطعام. وكنا في مكان لا يبعد كثيرا عن مواقع اليهود في مدينة صور. وفجأة حدثت مشادة بين زميلين فبادر احدهما بسب الآخر وسب "الرب".

وجدت نفسي اتصدر أزمة خطيرة وشعرت ان من واجبي ان اقتل هذا الشخص فورا. وبصعوبة توقفت الأزمة تحت مستوى اطلاق النار، واعتذر قائد الموقع وكذلك اعتذر "المذنب". ولكن المشكلة عندي كانت اعمق بكثير من ان ينهيها اعتذار. فما زال كل شيء على حاله وكما انني حر في أن اصلي وقت ما اشاء ومعي عدد من الاخوة في الموقع فإن هذا الشخص لديه الحرية ايضا ان يسب الرب وقت ما شاء. ولكنني ليس امامي، لأنه متأكد بأنني سوف اقتله في المرة القادمة".

التعليقات

جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف