جريدة الجرائد

محبوب الطوبجي يتحدث عن «الفساد» في الجيش المغربي... ويكشف أسرار اغتيال الدليمي

قراؤنا من مستخدمي إنستجرام
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على إنستجرام
إضغط هنا للإشتراك

الجمعة: 2006.10.27

الرباط -رضا الأعرجي

في مساء يوم الثالث والعشرين من يناير العام 1983، أذاع التلفزيون المغربي بيانا مقتضبا جاء فيه أن الجنرال أحمد الدليمي، مدير الضباط المرافقين للعاهل المغربي الملك الحسن الثاني، لقي مصرعه في حي النخيل في مدينة مراكش "بعد أن دهست شاحنة مسرعة سيارته".
وفي الخامس والعشرين من الشهر نفسه، وبعدما رافق الرئيس الفرنسي فرنسوا ميتران، الذي كان يقوم بأول زيارة رسمية للمغرب، الى قصر الضيوف، عرض التلفزيون صورا لحضور الملك الراحل الى منزل الدليمي لتقديم العزاء لأسرته، وكانت تلك المرة الأولى في تاريخ المغرب يحضر فيها ملك من ملوك العلويين شخصيا لتقديم العزاء لأسرة مغربية. وقال الحسن الثاني لزهرة أرملة الدليمي، انه سيتولى حماية أسرتها، وبالفعل، أوفى بوعده، على عكس ما حصل مع أسرة الجنرال محمد أوفقير، اذ لم يتم التعرض لها، أو المساس بممتلكاتها، فقد كان من الضروري، وقبل كل شيء، تأكيد أطروحة حادث السير.
وكما هي الحال في قضية موت أوفقير الذي كان تولى وزارتي الداخلية والدفاع قبل أن يتهم بالوقوف وراء محاولة الانقلاب الفاشلة على النظام عام 1972، فان موت الدليمي الذي شغل مناصب أمنية وعسكرية رفيعة المستوى، بينها مدير الأمن العام، وقائد المنطقة العسكرية الجنوبية، ورئيس جهاز المخابرات الخارجية، ألقى أيضا بظلال من الريبة حول حكاية "الشاحنة والسيارة"، خصوصا أنها جاءت على خلفية اشاعات عن محاولة كان يخطط لها لقلب النظام الملكي بالقوة، ليدفن وتدفن معه كل الأسرار التي كانت في جعبته.
بعد نحو 23 عاما على حادث الوفاة المثير، يأتي كتاب "ضباط صاحب الجلالة" للرائد السابق محجوب الطوبجي، والذي كان قبل اعتقاله عام 1983، وفراره لاحقا الى فرنسا، اليد اليمنى للدليمي، ليبدد الغموض الذي أحاط بالوفاة، نافيا فرضية الانقلاب العسكري، حيث وضع الحادث في سياقه الخاص عندما تحدث عن الدسائس التي تمهد وتلي تعاقب المسؤولين على مراكز القرار في المغرب، وكيف يتم اختيارهم ومن يختارهم ولأي مهام، وكيف يتم وضع حد لمسارهم المهني، وحياة بعضهم أحيانا.
ويكشف الكتاب الكثير من الأسرار التي تكتنف المؤسسة العسكرية المغربية، ويعرض للأسباب التي جعلتها تتعثر في حرب الصحراء الغربية ضد "جبهة البوليساريو" التي تنازع المغرب السيادة على هذه المنطقة الغنية بالفوسفات، وربما بالنفط أيضا، نتيجة استغلال القادة العسكريين لهذه الحرب من أجل اكتساب الثروات، كما يشن هجوما شرسا على رؤوس عسكرية كبيرة، ابرزها قائد الدرك الملكي الجنرال حسني بنسليمان، وهو من الأسماء القديمة التي ورثها الملك محمد السادس عن حقبة والده الراحل الحسن الثاني، مميطا النقاب عن المعارك والحروب الشخصية، والمطامع المتقطعة لعدد من العسكريين الأحياء والأموات.


بطل رياضي وضابط جرئ
يعزو الطوبجي الانتظار كل هذا الوقت ليعلن شهادته للتاريخ، ويبوح بالأسرار التي ظل محتفظا بها حتى الآن، الى خشيته على عائلته وأبنائه الذين كانوا يواصلون دراساتهم في المغرب، ليصبحوا في مأمن من الانتقام، لأن كثيرين من الضباط الذين تناولهم في كتابه ما زالوا على قيد الحياة، بل أنهم يشغلون اليوم مناصب حساسة ومؤثرة في أهم مفاصل الادارات والمؤسسات المغربية. أما لماذا كشف هذه الأسرار والبوح بها، فيزعم أنها من أجل "خدمة وطنه الذي ينتظره الكثير من التحديات"، فهو، "كضابط مغربي قضى في جيش بلاده 41 عاما، لا يقبل أن تظل مؤسسة قوية ومهمة كالجيش تعمل في شكل رديء".
وأحدث كتاب الطوبجي فور صدوره ضجة كبيرة داخل الأوساط السياسية والعسكرية والاعلامية، وأعاد فتح ملفات العلاقات المغربية - الجزائرية الى الواجهة من جديد، وسط تكهنات بوقوف النظام الجزائري وراء اصداره، والترويج لأطروحة ضعف الجيش المغربي المرابط في الأقاليم الصحراوية جنوب البلاد.
وكما كان متوقعا، تلقفت الصحف الجزائرية الكتاب، ونشرت عنه تقارير تعريفية، ركزت في أغلبها على المعلومات التي تتصل بالعسكريين المغاربة الذين يحرسون الحدود في المنطقة العازلة بينهم وبين "البوليساريو"، رغم أن هذه الصحف رفضت رفضا قاطعا أن تكون نسقت مع جهات أمنية أو سياسية للضغط على المغرب، لكن هذا الرفض لم يمنع احدى الصحف المغربية من التعليق بأن "توظيف مقاطع من الكتاب يشير الى قضية الصحراء، يكشف أن ذلك الجرح الغائر الذي لم يندمل بعد أكثر من ثلاثة وأربعين سنة"، في اشارة الى "حرب الرمال" التي نشبت بين المغرب والجزائر عام 1963، وكانت أول حرب عربية - عربية، في تاريخ العرب المعاصر.
ويرى مراقبون أن الكتاب بمثابة "وثيقة تاريخية مهمة" لأنه يتضمن معلومات دقيقة عن أخطر مؤسسة وأكثرها سرية في دول العالم الثالث عامة والمغرب على وجه الخصوص، ولاسيما ان كاتبه ينتمي الى هذه المؤسسة، الا أن أوساطا مغربية تقلل من شأنه وتعده "مصدرا واحدا"، وبالتالي لا يمكن الركون الى ما ورد فيه من تفاصيل، واعتبارها "حقائق موثوق منها"، بل مجرد رواية من الروايات.
وفي كل الأحوال، لا يمكن اغفال البعد الذاتي للكتاب، والذي يحضر بقوة في هذا النوع من الاصدارات، فالرائد الطوبجي، ضابط عريق اعتقل لفترة ثم خرج ولم يتسلق سلم الترقي في الدرجات العسكرية فانتهى عمله بالتقاعد عام 2002 وهو في رتبة وسطى، ليتوجه الى فرنسا، ومنها يبدأ في توجيه انتقاداته، في محاولة قد تنطوي على رغبة ثأرية ممن قطعوا عليه طريق الوصول الى ما كان يطمح اليه في المؤسسة التي تملك بيدها أغلب مفاتيح المغرب، وقد ظل يشكو من الظلم لأن بعض الجنرالات اليوم كانوا بنفس رتبته أو أقل منه بكثير عند اعتقاله في أعقاب وفاة الدليمي، والحكم عليه بالسجن، لا لشئ الا لقربه من هذا الجنرال.
يقدم الطوبجي نفسه على أنه أحد العارفين القلائل بما كان يجري في ثكنات الجيش، باعتباره الابن الشرعي للمؤسسة العسكرية، فوالده كان عسكريا بلغ به تعلقه بالحياة العسكرية الى حد التخلي عن لقبه "الشرقاوي" الى "الطوبجي" الذي يعني المدفعي بلغة العسكريين، وأنه بدأ مساره المهني من مداخله العادية، بعد تخرجه في الأكاديمية الملكية العسكرية في مكناس عام 1961، وتعيينه في جهاز الحرس الملكي متنقلا بين القصور والاقامات الملكية، وقد شارك في حرب أكتوبر 1973 على جبهة الجولان السورية، قبل أن يلتحق بالصحراء ويعمل هناك طيلة الفترة الممتدة بين 1978 و1980. وخلال السنوات الثلاث التالية، عمل مساعدا للجنرال الدليمي، رجل المغرب القوي آنذاك، الأمر الذي أتاح له الوقوف على "كنز" من المعلومات ضمنها الكثير منها كتابه الصادر عن منشورات "فايار" الفرنسية.
والواقع، أن الطوبجي الذي اشتهر في بداياته كبطل المغرب في السباحة، عرف أيضا بعد تخرجه كضابط جريء، وقدر له أن يعبر عن قدراته في حرب الصحراء، حيث يروي الضباط الذين لازموه، أن "البوليساريو" لم تكن تخشى سوى وحدتين الأولى يقودها الطوبجي ويقود الثانية ضابط آخر يدعى محمد الغوجدامي، وحين استطاع الهرب على شاكلة الأفلام الهوليودية من سجن "سيدي بولعجول" الواقع في مدينة سلا المجاورة للرباط، قال الحسن الثاني "هذا ضابط بصح".


لصوص ومرتشون
يركز الطوبجي في الكتاب، الذي يتكون من 320 صفحة، على "الفساد المستشري" في الجيش الذي يبدأ مع تخرج التلميذ في الأكاديمية العسكرية، حيث عليه أن "يشتري" مكان عمله عن طريق الرشوة. ويكتب: "في وقت سابق، كان الملازم في الدرك الملكي يستفيد من سكن وسيارة صغيرة، وفي بداية السبعينات أصبح على الضابط التلميذ أن يشتري تعيينه ليس فقط عند تخرجه من المدرسة العسكرية، ولكن أيضا عند رغبته في ولوج السلك الحربي الذي يفضله. ويضيف: "لكي تصبح دركيا بسيطا، لابد وأن تقدم مبلغا لا يقل عن خمسة آلاف درهم، ولكي تصبح ضابطا في نفس السلك الحربي، لابد أن يتضاعف المبلغ ثلاث مرات".
ويفيد بأن الفساد مصدره جنرالات الجيش الكبار الذين يسيطرون على كل كبيرة وصغيرة في الجيش، ويسخرون كل امكاناتهم للغنى غير الشرعي على حساب الجنود البسطاء. وفي هذا الصدد، يروي الكتاب أن الجنرال عبد العزيز بناني، الذي كان قائدا للقوات في الصحراء "سخر كل طاقته لجمع الثروة الطائلة" عن طريق عقود لشراء اللحوم من الأرجنتين وأستراليا، وأن الغرامات التي تُفرض على السفن الأسبانية التي تصيد في الصحراء الغربية تحول الى حسابه الخاص".
ويضيف الكاتب، أن الجنود في الصحراء "يدفعون ثمنا باهظا بسبب المسؤولين العسكريين الذين لا همّ لهم سوى تحصيل الربح"، حيث وضع هؤلاء الضباط "كل عبقريتهم وكل معرفتهم" في سبيل جمع الثروة عن طريق تهريب كل شيء بالتعامل مع جزر الكناري واعادة بيع التموين المخصص للجيش، من دقيق وزيت وبنزين، للمدنيين. ويسرد الكتاب العديد من الأمثلة، منها العقيد بن ادريس الذي كان يستحم بالماء المعدني في الصحراء، بينما كان جنوده يموتون عطشا.
ومن بين هذه الأمثلة أيضا، اتجار الجنرالات الكبار بالجمال، ويكشف عن ذلك بالقول: "خلال الفترة التي كنت أعمل فيها بالمنطقة الجنوبية، كان سعر الجمل الواحد يبلغ في موريتانيا نحو 500 يورو، لكن ما ان يتم ادخاله الى الصحراء متجاوزا الجدار الشهير الفاصل بين القوات المغربية وقوات البوليساريو، فان هذا السعر يتضاعف ثلاث مرات، علما بأن أي شاحنة لم يكن بامكانها تجاوز هذا الجدار الا بموافقة الكولونيل المسؤول عن المنطقة. ويضيف: "حينما لا يتوصل الجنرال بناني، الذي بات يتولى حاليا منصب المفتش العام للقوات المسلحة الملكية، بمستحقاته، كان يتم ابعاد الكولونيل "المخل بواجبه" وربما اعفاؤه من مهامه أو اعادته الى مقر عمله الأصلي. لقد كانت تجارة الجمال تخضع للمراقبة المباشرة للقيادة العامة، وكان بناني هو الذي يتولى تسليم تأشيرات الاستيراد".
ويقول الطوبجي: "عاينا، مثلا، بعض رؤساء الوحدات، مثل الكولونيل أويا، يبيعون الاسفنج (حلوى مغربية شعبية رخيصة) لجنودهم، أو يضاعفون أسعار المشروبات الغازية ثلاث مرات"، وهناك من الضباط من كان يروج المخدرات بين الجنود.
ويفسر الطوبجي السبب الذي جعل "جبهة البوليساريو" سيدة الميدان، الى غاية وقف اطلاق النار بينها وبين المغرب في 1991، "حيث كانت تختار المكان والزمان الذي تهاجمنا فيه بكل بساطة وكنا نحن نكتفي بالرد على الهجوم"، الى هذه الحقائق الميدانية التي تثير الاستغراب، اضافة الى التمييز الحاصل بين الجنود بخصوص اجازاتهم الدورية. ويقول "انه رغم السلام السائد في الصحراء منذ وقف اطلاق النار، فان غالبية الجيش المغربي المكون من 300 ألف جندي الموجودة في الصحراء يزداد وضعها سوء يوما بعد يوم، حيث يزداد غنى المسؤولين العسكريين على حساب الجنود الذين لجأ البعض منهم الى المخدرات، وبالتالي فان هذا الجيش أصبح عاجزا عن تأدية مهمته الرئيسية وهي القتال من أجل الدفاع عن الوطن".
وفي هذا السياق، يشير الى أن "البوليساريو" تمكنت من أسر 2300 جندي مغربي، في حين لم يتجاوز عدد أسراهم لدى المغرب 20 عنصرا. ويمضي محذرا "ان الجيش، كغيره من مؤسسات المملكة، أصبح مخترقا من الاسلاميين، وأن "المغرب مقبل على انفجار اجتماعي وشيك سيقف فيه الجيش الى جانب الشعب، على حد زعمه".


وصية الحسن الثاني
ويؤكد الطوبجي أن الملك في المغرب ليس هو من يحكم، بل أن بضعة رجال من الجيش هم من يتحكم في مصير البلاد، عبر شراء الذمم ونشر الرشوة والزبونية. ويقول: "تعرفت على بعض الضباط الأكفاء، كما تعرفت على ضباط الصف الشجعان، لكنني رأيت أيضا العديد من الرفاق وهم يتحولون الى متاجرين في الأموال العامة، ووقفت على عدم كفاءة بعض الرؤساء في كل مؤسسات الجيش. لقد عشت أحداثا حزينة، تلك التي تتحدث عن جيش يتم تسييره من طرف مجموعة من اللصوص". وفيما يتمنى أن يساعد كتابه الملك محمد السادس من أجل "تنظيف الجيش"، يقر بأن "المهمة تتطلب جهودا مضنية، لكنها ضرورية اذا أردنا دمقرطة المملكة، والدخول الى عصر الحداثة".
ويتوقف الطوبجي مطولا عند ممارسات الحسن الثاني، ويصفه بـ "الملك الذي لا يولي أي اهتمام بالرعية"، بل ويذهب بعيدا حين يعتبره "مصابا بجنون العظمة". ويقول ان "الحسن الثاني اعتقد بعد فشل محاولتين انقلابيتين ضده أنه (ملك مقدس) تحميه بركة إلهية". ويتابع "ان مصاريف الملك الشخصية تجاوزت بكثير ميزانية القصر الملكي بسبب كثرة القصور وحفلات السمر التي لا تنتهي، بينما الشعب المغربي يرزح تحت وطأة الجوع والفقر".
ويتذكر الطوبجي كيف انه صدم حين كان ضابطا شابا بإحدى الحاميات العسكرية بالعاصمة الرباط، عندما سمع الملك الراحل يقول بحضور مجموعة من أطر الجيش: "اذا كنت أود أن أقدم لكم نصيحة، فهي أن تبتعدوا عن السياسة وأن تهتموا بجمع الأموال". ويعلق قائلا: "بعد مرور سنوات، تجسد ما قاله الملك الراحل في العديد من المسؤولين في الجيش وعلى رأسهم الجنرال الدليمي". ويستطرد: "حتى بداية السبعينات، كان الجيش شبه نزيه، مستقيما ومخلصا، لكنه تحول شيئا فشيئا الى مستودع يباع ويشترى فيه كل شيء بما في ذلك القيم والأرواح".
حادث سير أم جريمة اغتيال؟
يقدم الطوبجي روايته الخاصة عن موت الدليمي، وهي رواية تختلف كليا عن تلك التي اعتادت الصحافة الحديث عنها، أي وفاته على خلفية محاولة انقلابية كان ينوي القيام بها للاطاحة بالنظام، حيث يرى أنها تتصل بالحياة داخل القصر. ويقول "ان أطروحة أقدام الدليمي على انقلاب عسكري للتخلص من الحسن الثاني لا تقوم على أي سند جدي، فلا يمكن تصفية رئيس دولة من دون أخذ الاحتياطات اللازمة، مثل وضع القوات في حالة استنفار، ليس فقط في مراكش ولكن في كل مدن المملكة، في حين، لم يتم اتخاذ أي اجراء استثنائي، وبحكم كوني مساعده، فانني سأكون أول من يعرف من الناس ذلك".
غير أن الطوبجي لا يساوره أدنى شك في أن حادث السير الذي راح ضحيته رجل المغرب القوي ليس سوى مبرر واه للغاية، لا يمكن أن يخفي جريمة اغتيال حقيقية، ويسرد ما يعزز شكوكه، فيقول: "بعد وصولي الى مكان الحادث، في الساعة الثانية بعد منتصف الليل، اندهشت حينما وجدت رجال المطافئ ينظفونه بالمياه بإشراف محافظ مراكش شخصيا، كما تم نقل الجثة والسيارة، في حين جرت العادة في مثل هذه الظروف، أن يتم تحديد مكان الحادث بانتظار انبلاج الصباح لاجراء مزيد من التحقيقات".
ويضيف: "تم التعرف على الدليمي من يده التي انتزعت من جسده المسحوق تحت الشاحنة، بفضل سوار مصنوع من جلد فيل كان الدليمي يضعه في معصمه". ويضيف، ملقيا المزيد من الشكوك على الحادث، عندما يشير الى نقطتين هامتين، الأولى، أن المكان الذي وقع فيه الحادث عبارة عن طريق ضيقة للغاية لا تتجاوز السرعة فيها 60 كلم، وبالتالي لا يمكن أن تسير فيها شاحنة، وحتى اذا وقع الاصطدام فلن يسفر عن وفاة، والنقطة الثانية تتعلق بشخص يدعى أحمد الحريزي، يصفه بـ "المقرب" من القصر والدائم التواجد في جميع تنقلات الحسن الثاني سواء في الخارج أو الداخل رغم أنه لم يكن يقوم بأي وظيفة رسمية، فهذا الشخص كان موجودا في مكان قريب ساعة وقوع الحادث، غير أن الملك سارع الى ارساله الى الحج لجعله بمنأى عن الفضول والتساؤلات.
ويؤكد: "لدي القناعة الآن، أنه خلال غياب الدليمي عن المغرب (سافر الى فرنسا قبل أيام قليلة من زيارة ميتران)، تم الترخيص لفريق من المرتزقة الأجانب بالمجيء الى المغرب والاعداد لتصفية الجنرال"، كما يؤكد "أن الملك الراحل الحسن الثاني عمل على استغلال الزمن والظرف بشكل خارق للتخلص من الدليمي في مراكش قبل ساعات قليلة من وصول الرئيس ميتران الى المدينة نفسها"، ثم يتساءل: "أليست الطريقة الوحيدة للتغطية على حدث مهم هو خلق حدث أهم منه"؟
بيد أن الطوبجي يقدم أسبابا كثيرة قد تكون عجلت بتصفية الجنرال الدليمي، ويقول متحدثا عن طبيعة العلاقة التي كانت تربطه بالحسن الثاني: "كان يقبل يده أمام الملأ، وينتقده على انفراد. ففي أواخر حياته، كان الدليمي تجاوز حدوده واقترف أخطاء كثيرة بسبب الافراط في الثقة. وفي ديسمبر 1982، أي قبل وفاته بشهر، رفع صوته على الملك الراحل، عندما كانا في ملعب غولف، وأصبح يرفض الرد حينما يطلبه على الهاتف، وأعتقد أن الملك لم يغفر له هذا السلوك".


رجل المغرب القوي
يذكر الطوبجي كيف اضطر للعمل مساعدا للدليمي، ويقول: "كنت رفضت من قبل أحد عروضه، لكن لا يمكن مقاومة الدليمي الى ما لا نهاية. كنت أجده دائما في طريقي، وأعتقد أن الهدف من اختياره لي كان هو وضعي تحت مراقبته، بعدما أصبحت أشكل مصدر قلق في الصحراء، فقد كنت أمنح الأمل للجنود، وهو ما كان يتناقض مع مشروعه الهادف الى توظيف الحرب للهيمنة على مؤسسة الجيش. ويتابع "انني مقتنع بأن ذلك هو ما كان يخطط له الدليمي، الذي لعب دور الرجل الذي تحكم في هذه القضية، فقد سمحت له العمليات العسكرية في الجنوب، في البداية، بالهيمنة على الجيش، فيما منحه استمرارها لفترة طويلة الفرصة للضغط على الملك، وضبط أحزاب المعارضة".
ويضرب الطوبجي مثلا على بعض الأساليب التي كان يتبعها الدليمي لبسط هيمنته على الجيش، فيقول: "كان الملك الحسن الثاني، بصفته أيضا قائدا للقوات المسلحة، يتوفر على مركز متقدم لقيادة العمليات، يضم أحدث وسائل الاتصال، ويتبعه أينما حل وارتحل، مما كان يسمح له، في أي وقت، بالدخول على خط الوحدات المتواجدة في الميدان ومتابعة سير العمليات، لكن، ومنذ 1979، وضعت بأمر من الدليمي أجهزة للتشويش على جميع المراكز العاملة في المنطقة الجنوبية، وحينما كان الملك يبدي قلقه وانزعاجه لعدم تمكنه من متابعة ما يجري والتقاط حواراتنا، كان الدليمي يجيب الملك: "صاحب الجلالة، ان العدو هو من يقوم بالتشويش على الاتصالات!!".
ومن ضمن هذه الأساليب أيضا، التعتيم على المعلومات التي كانت تقدمها وكالة الاستخبارات المركزية الاميركية (سي آي ايه) للمغرب. ويروي الطوبجي أن جون ريد الضابط المساعد بمكتب الوكالة سأله عن السبب الذي يجعلنا لا نستخدم المعلومات التي تقدمها لنا طائرة التجسس الأميركية "يو 2" ونتجاهلها لأيام عديدة في الرباط، بدل توظيفها. ويقول: "أمام استغرابي هذا الأمر، قدم لي ريد العديد من الصور التي تظهر فيها بوضوح قوافل (الجيب) وشاحنات البوليساريو، وشرح لي أن الولايات المتحدة، في اطار مساعدتنا بطريقة سرية وفعالة، كانت تضع رهن اشارتنا معلومات حول تحركات العدو وتنقلاته في تندوف، لكن، للأسف، تظل هذه الصور تنتقل لأيام عديدة بين مختلف مكاتب القيادة العامة للجيش ومكاتب الاستخبارات بدلا من استغلالها مباشرة، فقد كانت الطائرة الأمريكية تنطلق من بريطانيا وتحلق فوق الصحراء الغربية، وتقدم لنا بعد ساعات قليلة مجموعة من المعلومات لا تقدر بثمن".
ويتساءل عن السبب الذي جعل الأمريكيين لا يتحدثون مع الحسن الثاني في هذا الأمر قبل أن يتوقفوا عن تقديم المعلومات، لكنه سرعان ما يجيب على تساؤله: "ربما فعلوا ذلك عبر بعث رسالة، الا أنها تكون قد سقطت في يد الدليمي".
وفي أماكن كثيرة من الكتاب، يوجه الطوبجي نقدا شديدا للدليمي، حيث كان يمضي لياليه مخمورا، ويقول: "كان الدليمي شخصية فريدة من نوعها. كان ميكافيليا مستعدا للقيام بأكثر الأعمال بشاعة، وحاول مرات عدة أن يورطني في أفعاله القذرة، وأعتقد أنه كان سيعمد الى تصفيتي لو بقي على قيد الحياة. وبخلاف أوفقير الذي لم يكن يستهويه المال، تمكن في فترة وجيزة من جمع ثروة طائلة، وبفضل السلطة والمال، لم يكن ينقصه سوى التاج، بحيث كان يكفيه فقط اتخاذ المبادرة مادام هو من يتوفر، في واقع الأمر، على السلطة الحقيقية".
لكن رغم هذا النقد الشديد، يعترف الطوبجي بقدرات الدليمي الخاصة: "عايشته يوميا طيلة ثلاث سنوات، لم يسبق لي أبدا أن رأيته يقوم بتسجيل ملاحظة ما، كان يتمتع بذاكرة قوية، لا ينسى أبدا ما قاله أو سمعه. لم يكن مثقفا، اذ كانت قراءاته تقتصر على بعض الروايات البوليسية، الا أنه كان يتوفر على ذكاء قل مثيله، بحيث يمكن القول انه تمت برمجته للقيام بدور رجل الظل. لم يكن يترك أي أثر يدل عليه. كان الجميع يهابونه، لأنه يهزمهم بكل الطريق، وقام بشراء من كانوا يحيطون بالحسن الثاني، فلم يكن بخيلا".
واذا كان لافتا هذا التركيز على الدليمي، فان كتاب "ضباط صاحب الجلالة" يتناول أيضا أوفقير الذي كان الآمر الناهي في ستينات القرن المنصرم، قبل أن يرثه الدليمي بعد مقتله عام 1972، ويتوقف طويلا عند الجنرال حسني بن سليمان قائد الدرك الملكي حاليا، بل يفرد له فصلا خاصا به باعتباره "خليفة الدليمي"، حيث يحكي كيف تحول الى "الرجل القوي" في النظام المغربي، عبر زرع أتباعه ونشرهم في مختلف المجالات، واستعمال مختلف الطرق حتى غير اللائقة منها، لابعاد كل من يعارضه بما في ذلك العداء الشهير سعيد عويطة لأنه لم يتفق معه على ادارة "اتحاد ألعاب القوى"، فكما يبدو، أن المؤسسة العسكرية المغربية ظلت دائما تشهد ظهور رجل قوي يكون محورها الرئيسي، تلتقي عنده، ومنه تتوزع جميع السلطات حسب الولاءات.

التعليقات

جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف