جريدة الجرائد

لماذا نشأت الدولة السعودية في (العارض)؟

قراؤنا من مستخدمي إنستجرام
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على إنستجرام
إضغط هنا للإشتراك

الأربعاء: 2006.10.01

د. خالد الدخيل

عنوان المقالة يحتاج إلى شيء من الإيضاح، خاصة بالنسبة لمن لا يعرف تاريخ نجد (وسط الجزيرة العربية) وجغرافيته، ومن ذلك التاريخ السياسي السعودي عن قرب. فكلمة "العارض" في العنوان هي اسم للمنطقة التي تقع تقريباً ما بين وسط وجنوب منطقة نجد. المهم هنا أنه في منطقة العارض هذه تقع كل من بلدة "الدرعية"، ومدينة الرياض، وبالتالي هي المنطقة التي شهدت ظهور الحركة الوهابية، ومن ثم قيام الدولة السعودية خلال مراحلها الثلاث. السؤال الذي يحمله العنوان هو أحد الأسئلة التي تفرض نفسها عند دراسة التاريخ السياسي السعودي. وهو سؤال مشروع، خاصة من الناحية التاريخية. لماذا ظهرت الدولة السعودية في منطقة العارض من نجد تحديداً، وليس في مناطق أخرى؟ وبما أن الحركة الوهابية كانت نقطة البداية والانطلاق لظهور الدولة السعودية الأولى في منتصف القرن الثاني عشر الهجري/ الثامن عشر الميلادي، فإن السؤال يتسع أيضاً ليشمل الحركة ذاتها. لماذا ظهرت الحركة الوهابية في منطقة العارض تحديدا؟ بعبارة أخرى، ماذا في هذه المنطقة من الناحية التاريخية والسياسية والثقافية، بحيث جعل منها مكاناً مناسباً أكثر من غيره لظهور الحركة والدولة، وبالتالي منطلقاً للتحول التاريخي والسياسي الذي جاءت به الحركة والدولة معاً؟ كانت هذه من بين الأسئلة التي تراودني دائماً بين الفينة والأخرى، ولكن للأسف لم أتمكن من التطرق إليها وتناولها في مقالة أو بحث بالشكل الذي يمكن أن يقترح إجابة مرضية.
ها أنا في هذه المقالة أتخذ الخطوة الأولى في اتجاه تناول السؤال. يعود الفضل في دفعي إلى تناول السؤال في هذه المقالة للدكتورة مضاوي الرشيد من جامعة لندن، وللدكتور سعد الصويان من جامعة الملك سعود. والمناسبة أن الدكتورة مضاوي في إحدى مراسلاتها عبر البريد الإلكتروني مع الدكتور سعد قبل عدة أشهر، طرحت عليه سؤالاً محدداً عن السبب في أن الدولة السعودية الأولى ظهرت في منطقة العارض، وليس منطقة القصيم. كان الباعث على السؤال ما كتبه سعد حينها واستعرض فيه عدداً من النظريات التي حاولت تفسير ظهور الدولة السعودية الأولى، وذلك في زاويته الأسبوعية في صحيفة "الاقتصادية" السعودية. بعد سؤال مضاوي، عاد سعد إلى الموضوع مرة أخرى وكتب في زاويته الأسبوعية نفسها مقالة جميلة حاول فيها الإجابة على السؤال (العدد 4670). وقد اطلعت مضاوي على مقالة سعد، وبدا أنها قبلت، أو على الأقل تفهمت الإجابة. ارتكز سعد في إجابته على مسألة مهمة ومركزية، وهي أن السبب الرئيس الذي جعل من العارض المنطقة التي شهدت ولادة الدولة السعودية الأولى، يتعلق بتاريخ ودرجة الاستقرار والتحضر في نجد بشكل عام، وموقع منطقة العارض من ذلك. من الواضح أن الفرضية المضمرة هنا هي أن ظهور الدولة في منطقة ما هو بحد ذاته مرتبط أولاً وقبل كل شيء بمدى الاستقرار والتحضر في هذه المنطقة، وتعبير عن درجة نضج التحضر فيها. وقد أفاض سعد في استعراض رموز ومؤشرات التحضر الثقافية. سأحاول هنا أن أتناول المؤشرات التاريخية والسياسية على نمط الاستقرار والتحضر في الجزيرة وعلاقته بالموضوع.
المقصود بالاستقرار والتحضر هنا هو درجة الانتماء للمكان، وما يرتبط بها من مصالح ومتطلبات اجتماعية وسياسية وقانونية، وما يترتب عليها من مفاهيم ثقافية وأيديولوجية. والمقارنة في حالة وسط الجزيرة العربية، هي بين البداوة كنمط للحياة، من ناحية، والاستقرار والتحضر كنمط آخر من ناحية أخرى، وما يترتب على كل منهما اجتماعياً وسياسياً. من هذه الزاوية يتضح أن الفرضية التي انطلق منها سعد في مقالته هي فرضية صحيحة. بل إنها ترقى لأن تصبح نتيجة تاريخية. فمن الناحية التاريخية لم تظهر الدولة في الجزيرة العربية منذ ما قبل الإسلام إلا في مناطق الاستقرار التي شهدت نمو وتجذر الحياة الحضرية فيها. مثال ذلك دولة كندة في جنوب نجد، وهي دولة شملت أغلب الجزيرة العربية. بعد ذلك تأتي دولة المدينة الإسلامية، وهي التي كانت النواة لإمبراطورية إسلامية كانت من أكبر الإمبراطوريات في التاريخ.
هناك ملاحظة ذات صلة بموضوعنا، وتتعلق بالصراع الذي انفجر في صدر الإسلام ما بين دولة المدينة ومنطقة اليمامة. كان مركز اليمامة آنذاك يشمل ما يعرف الآن بمنطقة العارض. بل إن قاعدة اليمامة، أو عاصمتها هي مدينة "حجر". و"حجر" هذه هي نواة ما يعرف بمدينة الرياض الآن. الملاحظة المهمة المتعلقة بالصراع أنه كان امتداداً للصراع بين حاضرتين، حاضرة قريش في مكة، وحاضرة بني حنيفة في اليمامة. بدأ الصراع أولاً بظهور الإسلام في مكة، ورفض قيادات قبيلة بني حنيفة التصديق بنبوة محمد صلى الله عليه وسلم، وظهور "مسيلمة الكذاب" مدعياً النبوة باسم بني حنيفة في مواجهة قريش، ونبيها محمد، كما كان الحنفيون يرون الأمر آنذاك. بعد ذلك تصاعد الصراع في خلافة أبي بكر ووصل ذروته فيما يعرف بحروب الردة.
كانت قريش وبنو حنيفة من أكبر القبائل العربية المستقرة وأقواها، وربما أقدمها في الاستقرار، على الأقل في شمال الجزيرة. استقرت قريش في مكة قبل ظهور الإسلام بقرون عدة، وكان استقرارها على أساس تجاري دولي، حيث تولت إدارة الخط التجاري ما بين اليمن والشام. أما بنو حنيفة فاستقروا في اليمامة قبل الإسلام بما لا يقل عن مائتي سنة. وكانت الزراعة والريف هما أساس استقرارهم في تلك المنطقة. كان للفرق في أساس الاستقرار بين القبيلتين دور مهم في التوجهات الثقافية والسياسية التي نتجت عنه. فالإسلام الذي ظهر في مكة، و"الأيديولوجيا" التي جاء بها، كان رسالة عالمية تتجاوز قريش، ومكة، بل والجزيرة العربية كلها. وكان من الطبيعي في هذه الحالة أن تعمل الدولة الإسلامية على توسيع حدودها باستخدام آلية الجهاد. في المقابل نجد أن الأساس الزراعي لاستقرار بني حنيفة جعل من مجتمعهم مجتمعاً محافظاً، بل ومنغلقاً في محافظته، الأمر الذي ترتب عليه أن تبنت اليمامة أيديولوجية محافظة، وأن ترفض الإسلام، وتقاوم الانضواء تحت هيمنة دولة المدينة. هذه تحولات جاءت نتيجة لاستقرار القبيلتين وتحضرهما من ناحية، وتعكس الفرق بينهما، من ناحية أخرى. كان من الطبيعي في هذا الإطار أن جاء ظهور الإسلام كمقدمة لظهور الدولة، وهو تطور لم يحدث إلا بعد قرون من الاستقرار، ووصول التحضر إلى درجة من النضج سمحت بمثل هذا التحول التاريخي الكبير. في المقابل نجد أن ظهور حركة مسيلمة من ناحية ثانية، ربما جاء كتطور طبيعي من الداخل، أو ربما كرد فعل على ما حصل في مكة. في كلا الحالتين لم يكن هذا التطور ممكناً من دون أن يرتكز إلى قاعدة متينة من الاستقرار والتحضر. من ناحية أخرى، جاء ظهور مسيلمة الكذاب وحركته الدينية كتطور في اتجاه تأسيس دولة أو كيان سياسي يحمي اليمامة في وجه توسع دولة المدينة. وهو تطور لم يكن ليحصل أيضاً إلا بعد أن وصلت درجة الاستقرار والتحضر في اليمامة إلى مستوى يسمح بمثل هذا التطور. واللافت هنا أن اليمامة كانت من أكثر المناطق التي استعصت في البداية على دولة المدينة، واستطاعت أن تهزم اثنين من جيوش المدينة، مما أضطر الخليفة أبو بكر إلى إرسال جيش ثالث بقيادة خالد بن الوليد، أبرز قادة الدولة العسكريين. طبعاً في الأخير انتصرت دولة الإسلام، وتمكنت من إخضاع اليمامة، وجعلها ولاية من ولايات الدولة الإسلامية.
في القرن الثالث الهجري/التاسع الميلادي، حصل تطور مهم في منطقة اليمامة يمثل امتداداً للتوجه نفسه. وذلك حين ظهرت في هذه المنطقة دولة "بني الأخيضر"، وهي دولة شيعية زيدية، وكانت عاصمتها مدينة الخرج، أو كما كانت تعرف حينها باسم "جو الخضارم". استمرت هذه الدولة على الأقل لمدة قرنين. حيث يقال إنها سقطت في القرن الخامس الهجري. ما بين القرن الخامس والقرن الثاني عشر، وقت ظهور الحركة الوهابية، وبعدها الدولة السعودية، فترة زمنية غامضة تمتد لحوالي سبعة قرون. والسبب في هذا الغموض يرتبط أولاً بإهمال دولة الخلافة العباسية لمنطقة نجد، وهو من الأسباب التي سمحت بظهور الأخيضريين. ويرتبط ثانياً بعدم توفر مصادر محلية تمدنا بالمعلومات عن المنطقة وعما كان يحدث فيها آنذاك. لكن الواضح من ظهور الحركة الوهابية، ثم الدولة السعودية، أن النمط التاريخي نفسه الذي حكم التاريخ السياسي للجزيرة العربية استمر بنفس الوتيرة، والطبيعة والوجهة التي كان عليها من قبل.

بقية الحديث في الأسبوع المقبل.

التعليقات

جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف