جريدة الجرائد

طالبان الأفريقية تدق الأبواب!

قرائنا من مستخدمي تلغرام
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال تطبيق تلغرام
إضغط هنا للإشتراك

الأربعاء: 2006.10.01


د. عبدالحميد الأنصاري

وكأن العرب لا تنقصهم أزمات ومآسي تحيط بهم شرقاً وغرباً، حتى تأتي مأساة الصومال المنسية لتزيد مآسيهم. الصومال ذلك البلد العربي المسلم في القرن الأفريقي، أحد أفقر بلدان العالم، حسب تقرير الأمم المتحدة، يعاني من حروب أهلية مستمرة منذ 15 عاماً، ويحاصر أهله مثلث الجوع والفقر والمرض، إضافة إلى انعدام الأمن، لكنه كان "مأساة منسيّة"، حسب تعبير راشد العريمي، بالنسبة للعرب الذين نفضوا أيديهم منها، وشعارهم "فخار يكسّر بعضه" طبقاً للدكتور أحمد البغدادي.
ترى ما الذي جدّ في الأمر؟ ولماذا برزت القضية الصومالية من جديد؟ تلك قصة طويلة تبدأ بسقوط حكومة سياد بري عام 1991 على يد المعارضة المسلحة التي انقسمت إلى ميليشيات قبلية متناحرة. وكقانون طبيعي في علم الاجتماع السياسي، حين تغيب السلطة المركزية الممثلة للهوية الوطنية الجامعة والقادرة على فرض الأمن والاستقرار، فإن الناس يعودون إلى هوياتهم الضيقة ويحتمون بانتماءاتهم القبلية الأولى، طلباً للأمان وإشباعاً للاحتياجات، كبديل عن السلطة الغائبة. ومن الطبيعي حينئذ أن تتعدد القبائل والفصائل ويتخذ كل منها قائداً وزعيماً يقودهم ويقاتل الآخرين عبر ميليشيات مسلحة تقتل وتنهب ولا تقيم وزناً للحياة، وبخاصة مع انتشار السلاح ورخصه رخص الماء. تلك هي البدايات المأساوية التي أدت لتقسيم الصومال إلى عدة مناطق يستأثر بحكمها أمير وأنتجت ظاهرة "أمراء الحرب".
ومع اشتداد الأوضاع سوءاً، بدأت أولى محاولات الاهتمام الدولي بمساعدة الصوماليين للخروج من مستنقع الحرب الأهلية، بإرسال قوة دولية عام 1993 بقيادة الولايات المتحدة الأميركية، وكانت نهايتها مأساوية بشعة، إذ قتل 18 جندياً أميركياً، وسُحِل بعضهم في شوارع مقديشو، وافتخر أسامة بن لادن بأنه كان وراءها، مما حدا بالأمم المتحدة إلى إصدار قرار عام 1994 بأن تحقيق السلام لا يأتي إلا عن طريق الصوماليين وأن الجماعة الدولية لا يمكنها فرض السلام، وبذلك نفض المجتمع الدولي يده من القضية التي أصبحت في طيّ النسيان فاستفرد أباطرة الحرب بالصومال.
وبدءاً من عام 2000 بذلت محاولات عديدة للمصالحة، سواء من قبل منظمة الوحدة الأفريقية أو الجامعة العربية، وقد تمخضّت عن تشكيل "برلمان" وانتخاب "رئيس للجمهورية" و"حكومة انتقالية" اختارت مدينة "جوهر" عاصمة مؤقتة لها ريثما تستقر الأوضاع في مقديشو". لكن الحكومة لم تستطع السيطرة على الأوضاع، بينما نجحت "المحاكم الشرعية" المناوئة للحكومة في فرض سيطرتها على مقديشو واستمالت الكثير من الأنصار، وأغراها هذا النجاح بمواصلة زحفها إلى بقية المدن الصومالية الأخرى، مخالفة بذلك اتفاقية الخرطوم الموقّعة بينها وبين الحكومة، مما اضطر الحكومة للانتقال إلى "بيداوة" التي هي أيضاً مهددة بالغزو.
هذا الاكتساح هو الذي مهّد لعودة الاهتمام الدولي بالصومال، إذ أصبح العالم قلقاً من تحول الصومال تحت سلطة "المحاكم" إلى نسخة أفريقية من "طالبان"، ويصبح معقلاً للإرهاب وملاذاً للمطاردين العرب من العراق. وقد زاد من قلق العالم أن السلوكيات والتصريحات الصادرة من قادة "المحاكم"، تنبئ بأننا أمام "طالبان" جديدة. فرئيس مجلس الشورى والمرشد الروحي للمحاكم الشيخ عويس يقول في مقابلة صحفية "إن أميركا تخوض حرباً دينية ضد الإسلاميين المطالبين بالحكم الإسلامي، وهي تعادينا تحت غطاء محاربة الإرهاب، ونحن نعادي من يعادينا ولسنا مجبرين أن نكره من تكرهه أميركا". خصومه يصفونه بالإرهابي المتشدد، وأميركا تعتبره رجل "القاعدة" في الصومال، وهو مطلوب على قائمتي واشنطن والأمم المتحدة للإرهابيين الدوليين.
وكان أول عمل "المحاكم" إصدار "مرسوم المحرّمات" الذي يذكرنا بسيء الذكر "مرسوم طالبان"، ويتضمن منع الأغاني والموسيقى وإغلاق دور السينما وإجبار الناس على الصلاة وتعطيل النشاط التجاري والمواصلات العامة خلال أوقات الصلاة... وصدرت تصريحات بقتل تاركي الصلاة، بل يكاد موقف "المحاكم" تجاه المرأة والأقليات الدينية يكون هو موقف "طالبان" نفسه. واعتبر علماء مقربّون من "المحاكم"، دعوة وجهها صوماليون للاعتراف بالمسيحيين في البلاد كأقلية لها حقوق، بأنها دعوة "مرتدة" يجب تطبيق الشريعة على أصحابها وقتلهم بحجة أنه لا وجود لأقلية نصرانية في الصومال!
دول الجوار- أيضاً- قلقة من تصريح بعض قادة "المحاكم" عن إعلان الجهاد المقدس في سبيل توحيد الصوماليين، ليشمل المناطق التي تتحدث الصومالية، مثل كينيا وإثيوبيا وجيبوتي، في دولة إسلامية تحت راية "المحاكم". وقد زاد من القلق الدولي ما تعرض له الصحافي السويدي (أدلر) من قتل وحشي، وبعض السياح الأجانب أيضاً، وكذلك مصرع الراهبة الإيطالية التي عملت لمساعدة الصوماليين في مستشفى العاصمة، وأخيراً تلك العملية الانتحارية التي استهدفت الرئيس الصومالي واتهم عناصر إسلاميون بالتورط فيها.
من حق المجتمع الدولي أن يخشى وصول "المحاكم" للسلطة، وهو يعاني من العنف الأصولي المستشري ويلاحق خلاياه في كل مكان، ولا نستطيع أن نلوم أميركا إذا تدخلت لمنع وصول "المحاكم" للسلطة، وهي التي لم تتعاف بعد من آثار الغزو الهمجمي "السبتمبري". بل من واجبنا نحن العرب، أن نقلق كثيراً ونتدخل لمنع تكرار مأساة أفغانستان، لأن مصالحنا ستتضرر كثيراً وبخاصة مصر لارتباط أمنها القومي بما يحدث في القرن الأفريقي، وليس من مصلحة مصر ولا السعودية، تحوّل الصومال إلى أفغانستان جديدة، بل إن الخليج كله مهدّد، بحسب تقرير لـ"مركز الإمارات للدراسات والبحوث الاستراتيجية"، أوضح أن الشبكة التابعة لابن لادن نشطة في تجنيد عناصر جديدة تضرب جذورها في المنطقة، وهي تمثل خطراً حقيقياً على الخليج.
من حق الجميع أن يخافوا ويقلقوا، فكل الظواهر والدلائل تشير إلى أن الصومال متجه نحو "الأفغنة" على أيدي "المحاكم"، ومن ثم التدخل الدولي كخيار أخير.
والآن فإن الأسئلة التي تفرض نفسها أمام الجماعات المسلّحة الساعية لتكوين دولة دينية، هي: لماذا يحرص هؤلاء على إبراز الصورة السلبية عن الإسلام؟ لماذا التمسّك بالأشدّ تزمتاً في تراثنا الفقهي؟ لماذا التركيز على مراسيم المحرّمات والجانب العقابي في الشريعة الإسلامية؟ الإسلام نور وهداية وبلاغ للناس، فأين قيم التسامح والعدل والمساواة؟ لماذا لا يبرزون الجوانب الإنسانية المُشرقة في الإسلام؟ لماذا ودائماً، التركيز على العقوبات المغلّظة والتمسك بالمظاهر والشكليات؟ أين جوهر الإسلام؟ أين روح الإسلام؟ أين الحكم بالشورى والإصلاح السياسي والاقتصادي وحقوق الإنسان وكفالة الحريات لكافة المعتقدات؟ لماذا العداء للمرأة وللأقليات الدينية؟ لماذا استعداء العالم والمسارعة للمواجهة وإعلان الجهاد؟ أين "وقولوا للناس حسناً"؟
ذلك كله نتيجة عدم الرشد في القرار وسوء الفهم للشريعة وقلة النضج في ميدان السلطة والحكم، وضعف الخبرة السياسية في فن الحكم بين الناس. وأتصور أن كل ذلك يرجع-أساساً- إلى ضعف التعليم الديني الذي تشرّبه هؤلاء القادة، سواء في الصومال أو في أفغانستان. وكما يقول علي العمودي: "عُرف عن الصوماليين اعتدال ديني وهم سنّة شوافع، والفكر المتطرف لم يعرف طريقه للصومال إلا بعد عودة من انخرطوا في الجهاد الأفغاني، وآخرين تلقوا علومهم في المدارس الدينية في باكستان والسعودية واليمن والصومال" (الاتحاد، 10/6)
آفات التعليم الديني كثيرة، أخطرها أنه يقوم على تلقين الطالب ثقافة واحدة ورأياً واحداً، فضلاً عن أنه ذكوري ضد المرأة دائماً، وهو إقصائي لجميع الفرق، إذ يرى الفرقة الناجية واحدة. والأخطر من ذلك أنه يخرّج إنساناً متوتراً مع العالم لا يعيش عصره وواقعه ومجتمعه ووطنه-بسلام- لأن التعليم الديني لا ينمي قيم المواطنة والانتماء للوطن ولا يخرّج طالباً محصناً ضد فيروسات التعصب والتطرف... إنه باختصار جناية التعليم غير المنفتح!

التعليقات

جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف