جريدة الجرائد

معسكرات غوانتانامو «تتقلّص» لكنها باقية .. وسجنائها من الأقفاص للزنازين

قرائنا من مستخدمي تلغرام
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال تطبيق تلغرام
إضغط هنا للإشتراك

سجناء "القاعدة" من "الأقفاص" إلى "الزنزانات الفولاذية"
"الحياة" في معسكر "المحتجزين الخطيرين" تستمع إلى شكاوى "السعودي المشاكس" (1 - 4) ...



خليج غوانتانامو - كميل الطويل


"هل "الجزيرة" هنا لتشاهد ماذا يحصل؟". توقف للحظة كأنه ينتظر جواباً. وعندما لم يأته، تابع يصرخ بأعلى صوته شاكياً مما اعتبره "سوء معاملة" من الأميركيين له ولرفاقه من نزلاء المعسكر الرقم 5 الذي يؤوي عدداً من أبرز القادة المفترضين لتنظيم "القاعدة" وحركة "طالبان" المحتجزين منذ العام 2002 في هذه القاعدة الأميركية في خليج غوانتانامو الكوبي.

أربك صراخ المحتجز الضباط المشرفين على تنظيم جولة لإعلاميين في هذا المعسكر الشديد الحراسة. تجاهلوه، وتابعوا شرحهم لظروف احتجاز النزلاء وطريقة معاملتهم. كانوا يتحدثون بصوت خفيض. لكن صوت هذا المحتجز كان يعلو أكثر فأكثر، مُطلقاً سلسلة من المزاعم والاتهامات ضد الأميركيين. "لا بطانيات هنا والجو بارد، لا رعاية طبية .....".

حاولت جندية أميركية أن تُهدئ من روعه. شرحت له، بصوت خفيض وبتهذيب بالغ من وراء نافذة صغيرة في الباب الفولاذي للزنزانة، السياسة المتبعة في مركز الاحتجاز. لكنه لم يهدأ. وظل يصرخ إلى أن تيقّن أن زوّار الجناح "أ" في المعسكر لم يعودوا هنا.

لم يكن مسموحاً رؤية المحتجز أو تصويره. لكنه، كما وصفه لي أحد المسؤولين، "سعودي مشاكس (...) يفعل ذلك لأنه عرف بوجود صحافيين هنا. اكتشف وجودكم من صوت كاميرا التصوير، لكن صدقني هو يفعل ذلك فقط لأنه يعرف بوجود وسائل إعلام. نحن نعاملهم جميعاً معاملة إنسانية".


المعسكر السادس "الفولاذي".


غير أن السعودي كان فعلاً بلا شراشف يتغطى بها. لكن غيابها ليس وسيلة "تعذيب" كما اعتبرها "السعودي المشاكس"، بل هي، كما يؤكد الأميركيون، إجراء هدفه المحافظة على حياة هذا المحتجز وحياة رفاقه الآخرين. ولاختفاء هذه الأغطية قصة. بدأت هذه القصة، كما شرح مسؤولون في معسكرات غوانتانامو، مباشرة بعدما اكتشف الحراس أن الشبان الثلاثة، مانع العتيبي وياسر طلال الزهراني وعلي عبدالله أحمد، الذين انتحروا في 10 حزيران (يونيو) الماضي، ربما استخدموها، مع أغراض أخرى، لصنع "مشنقة" لأنفسهم في زنازينهم. فقد كان لديهم، على ما يبدو، متسع من الوقت خلال النهار للف الشراشف في شكل حبال وترتيب عملية الشنق ليلاً من دون إثارة انتباه الحراس، على رغم أن هؤلاء كان يُفترض فيهم أن يمروا مرة واحدة كل ثلاث دقائق من أمام زنزانات المحتجزين وينظروا من "نافذتها" لمعرفة ماذا يدور في داخلها. وخشية أن يلجأ محتجزون آخرون إلى عمليات انتحار أخرى، تزيد من إحراج إدارة الرئيس جورج بوش، فقد تقرر سحب الشراشف من النزلاء نهاراً وإعادتها اليهم ليلاً. لكن المحتجزين، كما يبدو، ليسوا سعداء بمثل هذه الخطوة، وربما لا يفهمون القصد منها.


غوانتانامو

في الحقيقة، لا يرى زائر غوانتانامو باي اليوم تعذيباً بدنياً للمحتجزين - وإن كان هناك تعذيب نفسي بالطبع لمجرد أن هؤلاء محتجزون بلا اتهامات ولا محاكمات منذ 2002. ولكن بغض النظر عن ذلك، يلاحظ زوار معسكرات الاحتجاز الستة المنتصبة في هذا الخليج الكوبي جهداً كبيراً من المسؤولين الأميركيين لضمان معاملة النزلاء معاملة تكون "أقرب ما يكون" إلى روح معاهدة جنيف الخاصة بأسرى الحروب. "لا تعذيب هنا"، قال أحد الضباط المشرفين على معسكرات الاحتجاز في كوبا. "استطيع أن أؤكد لكم أننا لا نعامل المحتجزين سوى معاملة إنسانية ووفق روح معاهدة جنيف. إنهم يُصلّون خمس مرات يومياً. حتى الحراس أُمروا بعدم إثارة أي جلبة خلال سيرهم لئلا يُزعجوا المحتجزين خلال أدائهم صلواتهم. لديهم حق الكتابة إلى أهلهم. يُرسلون لهم آلاف الرسائل، ويتلقون رسائل. لديهم محامين يقابلونهم باستمرار. الصليب الأحمر هنا أيضاً. لسنا في فندق خمس نجوم، لكن علينا أن نحمي بلدنا. وأوكد لك أن بين المحتجزين هنا أناس خطيرون جداً. صانعو قنابل، أشخاص مرتبطون بـ 11 سبتمبر، حراس لأسامة بن لادن".

ما كاد الضابط يُنهي جملته حتى علا مكبّر الصوت يُعلن موعد آذان الظهر. صمت الجنود الأميركيون المنتشرون هناك. بدا وكأن الحياة قد توقفت عن الحركة. فتعليمات القيادة، كما يبدو، تنص على أن يتجنب الحراس أي تصرّف قد يُفسّره المحتجزون اعتداء على معتقداتهم الدينية. وبما أن هؤلاء كانوا قد اشتكوا في السابق من أن الحراس يثيرون - أثناء سيرهم في ردهات المعسكرات - جلبة خلال أدائهم الصلاة، فقد قررت قيادة غوانتانامو "تلافي" مشكلة مع المحتجزين ومنع العسكريين من القيام بأي حركة تثير ازعاجاً لهؤلاء خلال أداء صلواتهم.


معسكر السجناء الخطيرين

لم أعرف من كان هذا "السعودي المشاكس". لكن المعسكر الرقم خمسة هو أحد أكثر المعسكرات "خطورة"، على ما يبدو، بين المعسكرات الستة في خليج غوانتانامو. المحتجزون هنا ما زالوا يرتدون تلك البدلات البرتقالية التي ذاع صيتها في البداية كونها كانت "اللباس المميز" للنزلاء الأوائل لمعسكر "أكس راي" في 2002، والتي ازداد صيتها سوءاًً بعدما استخدمها تنظيم "القاعدة" في العراق لـ "أسراه" الأجانب ... قبل قطع رؤوسهم.

يتسع المعسكر 5 لمئة محتجز، لكنه حالياً لا يؤوي سوى 75. هؤلاء، كما يقول الأميركيون، من الناس "الخطرين" في "القاعدة" الذين يرفضون، في معظم الأحيان، التجاوب مع تعليمات حراسهم، ويحاولون القيام بتصرفات قد تُشكّل خطراً على حراس السجن وربما على غيرهم من النزلاء المحتجزين.

يختلف المعسكر الخامس عن معسكرات "دلتا" الثلاثة الأول (1 و2 و3) في أنه بمثابة "سجن حقيقي" مبني من الإسمنت والفولاذ. يتألف من طابقين شديدي الحراسة، مقسّمين إلى أربعة أجنحة، يتسع الواحد منها لما بين 12 - 14 زنزانة فردية. ولكل زنزانة (10 أقدام بـ 20 قدماً) حمام صغير ومغسلة. وبعض الزنزانات يمكنه ايواء محتجزين يعانون إعاقات بدنية. في باب الزنزانة فتحتان صغيرتان. الفتحة في أسفل الباب مخصصة لكي يمد المحتجز قدميه ليكبّله الحارس قبل خروجه من الزنزانة. الفتحة الثانية (في وسط الباب) تُستخدم لإدخال وجبة الطعام، ومنها يمد المحتجز يديه لتكبيله قبل إخراجه منها.

وبما أن المعسكر الخامس مصمم لكي يكون مزوداً أحدث التقنيات في السجون الأميركية (تكلّف بناؤه 31 مليون دولار، وصُمم على طراز سجن "بنكر هيل" في انديانا)، فإن التحكم في مجريات الأمور داخله يحصل بـ "كبسة زر" في كمبيوتر غرفة التحكم الزجاجية التي تتوسط المعسكر من داخله وتتفرع من جوانبها العنابر الأربعة. من غرفة التحكم هذه يمكن للحراس مراقبة ما يحصل في كل عنبر، وحتى التحكم بماء الاستحمام للمحتجزين. يستطيع الحراس، مثلاً، أن يطلبوا من الكمبيوتر عدم وقف ماء الاستحمام وابقاءها سارية بضع دقائق أخرى، وبدرجة حرارة يحددونها هم. وكل الزنازات مراقبة بكاميرات مراقبة تعمل 24 ساعة في اليوم، وهي مكيّفة.

اُنجز بناء المعسكر الخامس في أيار (مايو) 2004، وهو محاط بأسلاك شائكة لحمايته. كما أن الأسلاك مغطاة بشراشف خضراء تمنع رؤية ما يحصل في داخله. لا يريد الأميركيون، كما يبدو، "عيوناً" تراقب من هم أولئك النزلاء الذين يوصفون بأنهم إما من "أخطر المحتجزين" أو من "أثمنهم" استخباراتياً.


المعسكر السادس

إلى جانب المعسكر الخامس، انتهى الأميركيون للتو من بناء معسكر آخر "دائم" هو المعسكر السادس المصمم أيضاً على "أحدث طراز". بدأت شركة "كيلوغ براون أند رووت" (فرع من فروع "هاليبرتون) بناء هذا المعسكر (المستوحى من سجن "ليناوي كاونتي" في ميتشيغن) في نشرين الأول (اكتوبر) 2005 على أن يكون جاهزاً في حزيران (يونيو) 2006. كانت الفكرة بسيطة: بناء مركز احتجاز "دائم" يستوعب نحو 220 من النزلاء "الحسني السلوك" و "المتعاونين". وبما أن هؤلاء يفترض فيهم هاتان "الفضيلتان" - السلوك الحسن والتعاون - فإن المعسكر السادس صُمم ليكون منشأة "متوسطة الحراسة" - بعكس المنشأة "الشديدة الحراسة" لـ "المشاغبين" في المعسكر الخامس. أراد مصممو المعسكر الجديد، المجاور للمعسكر الخامس، توفير مساحات للعيش الجماعي للمحتجزين، واتاحة باحة أكبر لممارسة الرياضة والقيام بنشاطات، وكتابة الرسائل، والإطلاع على مواد بلغات أجنبية.

لكن أحداث الصيف الماضي في معسكرات غوانتانامو - "تمرّد" المحتجزين في المعسكر الرابع المخصص للسجناء الذين لا يُعتبرون خطيرين، وحالات الانتحار الثلاث - أرغمت المشرفين على بناء المعسكر السادس على إعادة تصميمه، في شكل يجعله "شديد الحراسة" بدل "متوسطها". أُلغيت مساحات التواصل بين المحتجزين، وقُيّدت حرية تريّضهم في شكل مجموعات في الهواء الطلق في باحته.


محتجزان في المعسكر الرابع (الصورة خضعت للرقابة الاميركية التي تمنع اظهار وجوه نزلاء غوانتانامو).

إرث سيّء

ومع اكتمال بناء المعسكر السادس، يبدو جلياً اليوم أن الأميركيين لا يعتزمون "إقفال" أبواب معسكرات غوانتانامو، كما يطالب بذلك كثيرون في العالم، بما في ذلك أشد القريبين من الولايات المتحدة ومؤيديها في "حربها ضد الإرهاب"، وفي مقدمهم بريطانيا. خطتهم، كما يبدو، تقضي بتقليص حجم المعسكرات، وإقفالها تدريجاً واحداً تلو الأخر، و "تسريح" نزلائها من خلال إعادتهم إلى دولهم أو دول أخرى ترضى بهم. ويسير الأميركيون في هذه السياسة منذ فترة، إذ يلجأون إلى إعادة عشرات الموقوفين إلى بلدانهم، مما خفّض عدد نزلاء غوانتانامو إلى نحو 440 شخصاً، علماً أن العدد الإجمالي لجميع من مر في غوانتانامو يتجاوز 800 محتجز منذ افتتاح المعسكرات لمن تسمهيم أميركا "المقاتلين الأعداء غير الشرعيين" في 2002.

ويعرف الأميركيون، بلا شك، أن مشكلتهم الأساسية مع نزلاء غوانتانامو هي أن هؤلاء لا يرون بصيص أمل في خروجهم من هذه الجزيرة. إذ ليس هناك بين المحتجزين الـ 440 حالياً سوى 10 وُجّهت اليهم اتهامات، في حين أن البقية لا تعرف، علناً، سبباً لاحتجازها، على رغم مرور أكثر من أربع سنوات على نقلها إلى كوبا، وليس دائماً من "ساحة المعركة" في أفغانستان، بل في أحيان كثيرة من بلدان مختلفة حول العالم (كحال مجموعة الجزائريين الستة الذين "خُطفوا" من البوسنة ومجموعة الأجانب المقيمين في بريطانيا - مثل بشر الراوي وجميل البنا اللذين اعتُقلا في غامبيا، إضافة إلى كثيرين اعتقلهم "صائدو جوائز" في باكستان وسلّموهم إلى الأميركيين لقاء مبالغ مالية على أساس أنهم "إرهابيون").

وبعدما وقّع الرئيس جورج بوش الآن قانون إقامة المحاكم العسكرية، يأمل الأميركيون في أن يُشكّل ذلك بداية النهاية لمعضلة التعامل مع من تُطلق عليهم واشنطن لقب "المقاتلين الأعداء". وعلى رغم أن المحاكم العسكرية ليست بالتأكيد حلاً مثالياً لقضية المحتجزين، إلا أن الأكيد أيضاً أنها لن تكون حلاً سوى لعدد ضئيل منهم (ليس أكثر من 75 من أصل أكثر من 440 محتجزاً). كثيرون من هؤلاء سيغادرون غوانتانامو، بلا شك، لكن "معسكرات الاحتجاز الدائمة"، وتحديداً المعسكر الخامس والمعسكر السادس، باقية للأسف. وبقاؤها، للأسف أيضاً، سيعني أن أميركا ما زالت في "حرب ضد الإرهاب" لا مؤشر إلى انتهائها قريباً.

التعليقات

جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف