جريدة الجرائد

قصة لبنان المريرة مع الجيوش الأجنبية

قرائنا من مستخدمي تلغرام
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال تطبيق تلغرام
إضغط هنا للإشتراك


الجمعة: 2006.11.03

محمد السماك

خلال الحرب اللبنانية (1975- 1990) عرض المبعوث الأميركي السفير "دين براون" على رئيس الجمهورية في ذلك الوقت سليمان فرنجية أن يقوم الأسطول الأميركي السادس بنقل المسيحيين اللبنانيين من لبنان بحجة أن الخطر يتهددهم: وقد تضمن العرض تعهداً أميركياً بتسهيل توطينهم في عدد من الدول من بينها الولايات المتحدة نفسها. ولكن الرئيس الراحل سليمان فرنجية رفض العرض واعتبره مؤامرة مزدوجة على لبنان. فمن جهة أولى يفرّغ العرض لبنان من مسيحييه ويحوّلهم من مواطنين إلى لاجئين ومن أصحاب دولة إلى متسكِّعين على أبواب الدول. ومن جهة ثانية يتحول لبنان إلى وطن بديل للاجئين الفلسطينيين الأمر الذي يحرر إسرائيل من الالتزامات التي يفرضها قرار الأمم المتحدة 192 والذي ينص على إعادة اللاجئين إلى ديارهم والتعويض عليهم. وفي عام 2000 عندما اضطرت إسرائيل تحت ضغط ضربات المقاومة إلى سحب قواتها العسكرية من جنوب لبنان الذي كانت احتلته في عام 1978، حمل مبعوث الأمم المتحدة "تيري رود لارسن" عرضاً فرنسياً من نوع مختلف إلى الحكومة اللبنانية. ينطلق العرض الفرنسي من الاعتقاد بأن المسيحيين في جنوب لبنان قد يتعرضون لعمليات انتقامية على يد "حزب الله" بعد الانسحاب الإسرائيلي، وذلك على قاعدة أن قائد جيش لبنان الجنوبي المتعاون مع إسرائيل كان مسيحياً (سعد حداد ثم أنطوان لحد).
وقد نصّ العرض على إرسال قطع من الأسطول الفرنسي بقيادة حاملة الطائرات "فوش" إلى مياه لبنان الجنوبية كقوة ردع لحماية المسيحيين.. وعند الحاجة لإجلائهم. ولكن "حزب الله" خلافاً لهذه الحسابات، لم يتعرّض للمسيحيين بسوء، ولا حتى للعناصر التي ثبت أنها تعاونت مع إسرائيل طوال أكثر من عقدين من الزمن. وكل ما طالب به هو محاكمتهم ولو صورياً (وهذا ما حدث بالفعل) لامتصاص نقمة الأهالي الذين عانوا من جراء تعاون هؤلاء مع المحتل الإسرائيلي. والآن، في عام 2006، يطرح قائد قوات الأمم المتحدة "اليونيفيل" الجنرال بلليغريني وهو جنرال فرنسي اقتراحاً تبنته حكومته يقضي بالسماح للقوات الدولية بالتصدي للطائرات العسكرية الإسرائيلية التي تنتهك سيادة الأجواء اللبنانية، وتخرق بذلك قرار مجلس الأمن الدولي 1701. هذا الطرح الفرنسي وخلافاً للأطروحات السابقة، لم يقدم إلى رئيس الجمهورية أو إلى الحكومة اللبنانية. ولكنه قدم إلى الأمم المتحدة صاحبة القرار 1701. وبالتالي فإن الجنرال الفرنسي لا يحتاج بالضرورة إلى موافقة لبنانية رسمية ليتولى التنفيذ، ولكنه يحتاج إلى ضوء أخضر من مجلس الأمن الدولي. ولكن إذا وافق المجلس على توسيع إطار عمليات قوات "اليونيفيل" لتطلق النار على الطائرات العسكرية الإسرائيلية التي تخرق السيادة اللبنانية الجوية، أي تخرق القرار 1701، فإنه يجب أن يكون مستعداً في الوقت نفسه لإطلاق النار على كل تجاوز مسلح قد يجري فوق الأرض اللبنانية ويعتبره كذلك خرقاً لهذا القرار. وعندما احتفل "حزب الله" بعد انتهاء الحرب الإسرائيلية على لبنان (التي استمرت 34 يوماً) وظهر لأول مرة الأمين العام للحزب السيد حسن نصرالله خطيباً في الاحتفال، كان هناك تخوف جدي من أن يتعرض للاعتداء بعملية قصف جوي تقوم بها الطائرات الحربية الإسرائيلية. ولاشك في أن هذه المخاوف كانت وراء تحليق الطائرات الحربية الفرنسية في سماء بيروت إلى أن انتهى الاحتفال بسلام. ولكن عشية عيد الفطر تعمّد الطيران الإسرائيلي التحليق بكثافة وعلى علو منخفض فوق الضاحية الجنوبية من بيروت في عرض عضلات جديد ليس ضد "حزب الله" فقط، ولا ضد لبنان، ولكن ضد الأمم المتحدة وضد الاقتراح الفرنسي. وبدا التحليق الإسرائيلي وكأنه إعلان عملي برفض الاقتراح حتى قبل أن يبحثه مجلس الأمن الدولي. من هنا السؤال عما إذا كان سحب الاقتراح الفرنسي من التداول، أو التراجع عنه، يعني أيضاً سحب المطالبة بالتصدي بالقوة للمظاهر العسكرية جنوب نهر الليطاني والتراجع عنها. ولكن في الوقت الذي كان الاهتمام منصبّاً على ردّ الفعل الإسرائيلي على الاقتراح الفرنسي، فإن الانتهاك الإسرائيلي استهدف القوة البحرية الألمانية وليس الفرنسية. ومن المرجح أن ذلك يعود إلى خلفية الكراهية اليهودية لألمانيا وليس للدور الذي تقوم به في إطار قوات "اليونيفيل" في لبنان. ففي حادث أول أطلقت طائرة حربية النار فوق بارجة ألمانية. وفي حادث ثانٍ أطلقت النار على طائرة مروحية ألمانية تابعة لسلاح البحرية الألمانية.
وفي الحادثين لم يصب أحد. ولا يبدو أن العملية العسكرية الإسرائيلية كانت تستهدف إصابة أحد.. إنما مجرد تسجيل موقف عدائي من البحرية العسكرية الألمانية. ومهما يكن من أمر، فقد بدا وكأن طلب التصدي للانتهاكات الإسرائيلية لسيادة لبنان على أجوائه وكأنه الغطاء السكري للمعالجة المُرّة لتسلح "حزب الله". أي المدخل والمبرر للتصدي لأي انتهاك قد يقوم به "حزب الله" للقرار 1701 سواء من حيث التسلح أو من حيث التحرك العسكري جنوبي الليطاني. وبما أن مهمة القوات الدولية هي مؤازرة الجيش اللبناني الذي انتشر في الجنوب لأول مرة منذ أكثر من ثلاثة عقود، فإن معنى ذلك أن الجيش اللبناني هو الذي يفترض أن يتصدى أولاً لهذا الانتهاك، وعند الحاجة يطلب دعم ومساندة قوات الأمم المتحدة. لقد تعرف لبنان على القوات الدولية بعد الاجتياح الإسرائيلي في عام 1982. وكانت تلك القوات تتألف من وحدات فرنسية وأميركية وإيطالية. إلا أنها لم تكن مشتركة، إذ أن كل فريق اتخذ لنفسه مواقع خاصة به. ولكن هذه القوات سرعان ما اضطرت إلى الانسحاب بعد العمليتين الانتحاريتين اللتين تعرضت لهما كل من القوات الأميركية والفرنسية، وأدتا إلى سقوط أكثر من 325 قتيلاً عسكرياً أميركياً في حادث، و55 عسكرياً فرنسياً في حادث آخر. وشهد لبنان بعد الانسحاب الأميركي والفرنسي ظاهرة اختطاف رعايا الدولتين.. كما شهد ظاهرة ملازمة وهي تفاوض الولايات المتحدة مع إيران على إطلاق سراح الرهائن. ولعل أبرز معالم هذه الظاهرة وقع في عهد الرئيس الأميركي الأسبق رونالد ريغان عندما فوّض رئيس مجلس الأمن القومي التفاوض سراً مع إيران وهو ما عرف بعد ذلك بفضيحة "إيران- كونترا".
ولاشك في أن أسوأ ما عرفه لبنان هو الاحتلال الإسرائيلي للجنوب والبقاع الغربي (1978-2000)، واجتياح 1982 الذي وصل إلى بيروت. فكانت أول عاصمة عربية تحتلها إسرائيل. ولم يخرج الإسرائيليون من بيروت والجبل إلا بعد أن افتعلوا فتنة طائفية بين المسيحيين والدروز في الجبل ذهب ضحيتها آلاف الضحايا من اللبنانيين. وكان الهدف من الانسحاب السريع من الجنوب في عام 2000 إثارة فتنة ثانية بين المسلمين الشيعة والمسيحيين، الأمر الذي كان وراء الاقتراح الفرنسي بإرسال قطع من الأسطول الفرنسي إلى الجنوب. ولكن اللبنانيين عملوا بالقول الشريف: لا يلدغ المؤمن من جحر مرتين. فما حدث في الجبل لم يحدث في الجنوب. واليوم تنتشر في لبنان قوات تابعة للأمم المتحدة "يونيفيل - 2" يفترض أن يصل عدد أفرادها إلى 15 ألف جندي. وكانت قوات "يونيفيل - 1"، منتشرة في الجنوب اللبناني منذ عام 1978 بموجب قرار مجلس الأمن الدولي 425. وكان مجلس الأمن يجدد تلقائياً لهذه القوات مرتين في العام (مرة كل ستة أشهر) من دون أن يعطيها أي دور عملي سوى المراقبة وإعداد التقارير عن الوضع على الحدود اللبنانية - الإسرائيلية. وعندما وقعت مجزرة قانا الأولى في عام 1993 لم تستطع هذه القوات أن تدافع عن القرويين اللبنانيين الذين لجأوا إلى أحد معسكراتها هرباً من القصف العشوائي الإسرائيلي، فقتل منها في حضن المعسكر الدولي 101 شخص. كما لم تستطع حتى أن تدافع عن نفسها إذ قتل وأصيب عدد من أفراد القوات الدولية أيضاً. هذه المرة، تجاوزت "يونيفيل- 2" مهمة شهادة الزور. فالقرار 1701 الذي تشكلت بموجبه يختلف جوهرياً عن القرار 425. فلهذه القوات الآن الحق والصلاحية للدفاع عن نفسها بالقوة. ولحماية مضمون القرار بالقوة أيضاً من أي انتهاك سواء جاء من الجانب الإسرائيلي عبر الخط الأزرق أو من داخل لبنان، عبر نهر الليطاني. فالخط الأزرق هو الخط الذي رسمته الأمم المتحدة لحدود لبنان الدولية مع إسرائيل. وأي تجاوز إسرائيلي لهذا الخط من البر أو البحر أو الجو يعتبر انتهاكاً لقرار مجلس الأمن 1701 ويفترض بقوات "اليونيفيل-2" التصدي له بالقوة العسكرية عند الاقتضاء. كذلك فإن مجرى نهر الليطاني في الجنوب والبقاع الغربي يشكل الخط الذي يحق لقوات "اليونيفيل" بموجب القرار 1701 التصدي لأي تحرك عسكري يجري جنوبه، باستثناء تحرك الجيش اللبناني الذي يتمتع بدعم ومؤازرة قوات "اليونيفيل".
إن قصة لبنان مع الجيوش الأجنبية بدأت مع ولادته الحديثة في عام 1920 ورافقته مع كل مرحلة من مراحل التحولات التي واجهها.. وكان لها دور أساسي في ولادته من جديد بعد كل مرحلة من كل المراحل! وهو ما يجري في الوقت الحاضر أيضاً.

التعليقات

جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف