إمارة جبل عامل.. تاريخ متصل بالحركات والثورات
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال تطبيق تلغرام
إضغط هنا للإشتراك
قصي الحسين
يذكر اليعقوبي في تاريخه، أن "عاملة" كانت من بين مجموعة من القبائل العربية هي كندة وقيس وكنانة ولخم وجذام، التي أقامت في نواحي فلسطين وغرب الشام في هجرات مختلفة وذلك في الفترة الممتدة بين إنهيار سد مأرب في اليمن، وسيل العرم، وظهور الاسلام.
أما أبو الفدا في تاريخه فيؤكد أن عاملة القبيلة القحطانية، نزحت الى جبل بالقرب من دمشق في بلاد الشام عند وقوع سيل العرم. وقد تديرت عاملة هذه الديار على غرار ما كانت غسان قد تديّرت من أرباض في دمشق وحوران، فعرفت ديار عاملة بجبل عاملة او بجبل عامل وبلاد عامل، كما درج المؤرخون القدماء على الحديث عن تلك المنطقة التي تقع شمال فلسطين لجهة البحر، وقد كان ذلك في نحو ثلاثمئة عام قبل الميلاد، على وجه التقريب.
بلاد بشارة
وفي القرن الثاني، ظهر الأمير حسام الدين بشارة، وكان من أكابر أمراء الدولة الايوبية، الى جانب صلاح الدين في محاربة الفرنجة في فلسطين. وجعل مركز إمارته في زبقين، ولا تزال الآثار الضخمة فيها شاهدة عليها الى اليوم. وعرفت تلك البلاد ببلاد بشارة، وقد قال المؤرخون إنها تقع في قسمين:
بلاد بشارة الجنوبية وهي تبدأ من نهر القاسمية جنوباً حتى مصب نهر القرن في فلسطين، وبلاد بشارة الشمالية والتي تقع بين نهر القاسمية حتى مصب نهر الفراديس قديماً، الاولي حديثاً، وهي تعرف ببلاد الشقيف.
وكانت بلاد بشارة تتصل بالجولان، ولا يفصلها عنه سوى مرج الحولة وهو بعرض ميل واحد. وكانت الحزازات، بين عرب بلاد عامل وعرب بلاد بصرى والجولان، تحتدم في كثير من الاحيان لأتفه الاسباب، فيقع بينهم التهاجي، كما في هجاء بعضهم لعدي بن الرقاع العاملي، اذ يقول:
ولسنا نُبالي نأتي عاملة التي
أجدَّ بها عن ارض بُصرى انحدارها
فعيرت عاملة بانحدارها الى الغرب لمكابدتها اعتداءات قراصنة البحر بصورة دائمة، بينما تتحصن قبائل الجولان في جبل شامخ ينحدر الى طبريا بدون أهوال ولا أخطار ولا إذلال.
بلاد المتاولة
وابتداء من العصر المملوكي، وبسبب من حملة المماليك على الشيعة، ومتابعة العثمانيين الترك لذلك في ما بعد، أخذ يطلق على بلاد بشارة لقب "بلاد المتاولة".
فقد تجند أولاد ابن بشارة الشيعة، وكان لهم دور في النزاع المحلي الى جانب الأمراء المماليك. وكان خصوم الدولة المملوكية من الشيعة، يتخذون جزين عاصمة لهم. وكان زعيمهم محمدي مكي شهيدهم الاول يقيم فيها.
ويذكر المؤرخون، أن ابن بشارة استطاع ان يحصل على لقب مقدم العشير في بلاد الشام، بعدما تمكن في العام 855هـ/1450م، ان يدرك عشرين مركباً للفرنج، كانوا قد طوقوا صور ونهبوا من بها، بعدما وجدوا تسهيلات كثيرة من شيعة جزين ومن اعتصم منهم في جبالها. وقد قاتلهم ابن بشارة قتالاً شديداً، حتى أزاحهم من البلد، بعدما أمسك بجماعة منهم فقتلهم ثم سار في إثر الشيعة المتعاونين معهم، حتى معاقلهم في الجبال، فأوقع بهم مقتلة عظيمة، حتى استسلموا له، واقروا بسلطانه على بلاد المتاولة جميعاً.
بلاد "العنزة"
وبعيد الهزيمة التي ألحقها العثمانيون بالسلطان قانصوه الغوري في مرج دابق بالقرب من حلب عام 1516، دخلت بلاد الشام تحت الحكم التركي مباشرة. وقد أبقت الدولة التركية على الإدارة المعمول بها في البلاد الشامية. غير أن بلاد المتاولة، كما كانت تعرف في ذلك الحين، شهدت انتهاء دور عائلة بشارة الاقطاعية الشيعية بشكل فيه الكثير من الغموض، وذلك بعيد الفتح العثماني.
ويتحدث المؤرخون، عن ظهور محمد بن هزّاع الوائلي القحطاني، وهو من رؤساء عشيرة عنزة. ويقولون إنه كان معاصراً للأمير بشارة او لأحد أعقابه وصهراً لهم. وقد تولى الإمرة على المتاولة في جبل عامل، بعيد انقراض سلالة الأمير بشارة، ويعتبر ابن هزّاع هذا، الجد الاول لآل علي الصغير.
وكان هزّاع، قدم من بادية نجد في عصر السلطان صلاح الدين الأيوبي، ومعه جيش من أعراب قبائله، لبسط نفوذ الدولة الأيوبية في بلاد عاملة، بعدما اضطرب الأمن فيها، نتيجة مهاجمة الفرنجة لها وأخذ صور وصيدا على ساحلها. وقد انتقلت إمارة جبل عامل الى محمد بن هزّاع، الذي مهد بدوره لجعل الإمرة على المتاولة هناك، لوائل، أسرة آل علي الصغير. وقد استلمت هذه الأسرة إمارة جبل عامل قبيل الفتح العثماني من طريق مقدمها محمد بن هزاع الوائلي أحد رؤساء عشيرة عنزة، فعرفت تلك البلاد اثناء فترة سيادة عنزة عليها، ببلاد ومنازل عنزة، كما يشير الى ذلك عمر كحالة في معجمه قبائل العرب.
البقعة / الإمارة
يترامى جبل عامل لجهة الغرب على ساحل المتوسط، ومن الشرق وادي الأردن، وهو ما بين الأولي شمال صيدا، ومنتهى حدود فلسطين الشمالية جنوباً، كما يقول صاحب تاريخ جبل عامل، محمد جابر. وبعد استقلال لبنان غدت حدوده الشرقية تلامس صعوداً الجولان السوري المحتل وجبل الشيخ وجبل حرمون. ويبلغ متوسط طول جبل عامل من الجنوب حتى الشمال، زهاء ثمانين كلم. أما متوسط عرضه، فهو يناهز الأربعين كلم. ويكون محصل مساحته نحواً من ثلاثة آلاف ومئتي كلم2. وعدد سكانه مئة وخمسون الفا، كما هو في "تاريخ جبل عامل" الذي وضعه مؤلفه في أواخر عام 1942.
وفي مكان آخر من الكتاب يذكر محمد جابر ان معظم سكان جبل عامل يدينون بالاسلام على مذهب الشيعة الإمامية، بينما يسكن قسم قليل من المسلمين السنة في مدن الساحل، وقسم من النصارى في قرى الداخل ومدنه. وقد كانت عاصمة جبل عامل مرة في صيدا وأخرى في صور على الساحل. وربما اتخذ امراء جبل عامل عاصمتهم من مدن الداخل، مثل جزين والنبطية وزبقين.
ويجمع المؤرخون ان سكان جبل عامل هم عرب بنسبهم ولغتهم وعاداتهم، وأنهم متحدرون من القبائل اليمنية، سواء كان ذلك في الهجرات القديمة التي رافقت سيل العرم في القرن الثالث قبل الميلاد، او في الهجرات التي صاحبت سلاطين بني أيوب لمواجهة الفرنجة وإجلائهم عن ساحل بلاد الشام. ومع ذلك فالقول بصفاء الدم ووحدة العرق، لا يثبت لدى الباحثين، بدليل ان جبل عامل كان عرضة لهجرات عربية، ونزوح مجموعات اجنبية اليه خلال العصور القديمة. ويقول السيد محسن الامين في خططه انه "من الصعب جداً ان نقف في الوقت الحاضر على شعب حقق لنفسه صفاء الدم ووحدة العرق".
معدن العلماء والمفكرين
بين عصر الشهيد الاول العلاّمة محمد بن مكي الجزيني (1334-1384)م وعصر الشهيد الثاني العلاّمة زين الدين بن تقي بن صالح العاملي الجبعي، (911-966)هـ، شهد جبل عامل مجداً في العلم وفي التصنيف والتأليف، فكان لذلك صداه على أطراف البلاد العاملية كلها، إذ ظهرت معاهد علمية يتخرج منها العلماء ويتوافد اليها الطلاب، ويرد مناهلها ظمأى العلوم والمعرفة من أقصى بلاد الإسلام والمسلمين.
ويقول السيد محسن الأمين في "اعيان الشيعة"، أن المرء ليعجب وتعتريه الدهشة، إذا علم أن هذه البقعة المعروفة بجبل عامل، قد أخرجت عدداً من اهل العلم وذوي الثقافة، لا يتناسب مع ضيق رقعتها وقلة ساكنيها "إذ قد ناف عدد العلماء من الشيعة الإمامية في جبل عامل عن خُمس مجموعهم في انحاء المعمورة مع أن هذه البلاد بالنسبة الى باقي بلدان الشيعة أقل من عشر العشر. وقد سمعت من بعض شيوخنا انه اجتمع في قرية من قرى جبل عامل، سبعون مجتهداً في عصر الشهيد الثاني".
ويتحدث صاحب كتاب "امل الآمل" الشيخ محمد الحر العاملي الجبعي، وهو من أعيان القرن الحادي عشر الهجري عن كثرة من "خرّج جبل عامل من العلماء والفضلاء والصلحاء وأرباب الكمال... ولا يكاد يوجد من أهل بلاد اخرى من علماء الامامية، أكثر منهم ولا احسن تأليفاً وتصنيفاً". ولقد أكثر مدحهم والثناء عليهم القاضي نور الله في مجالس المؤمنين، وذكر انه ما من قرية هناك، الا وقد خرج منها جماعة من علماء الإمامية.
شهد جبل عامل في عصور متقاربة، من مدارس العلم ما يزيد على العشرات. وكان من هذه المدارس ما يشبه الكليات من حيث النظام التعليمي، ومن حيث تعميم الدروس، فمدرسة ميس الجبل في عصر مديرها الشيخ علي عبد العال الميسي (923هـ/1526م)، كان طلابها من الشيعة الإمامية ينوفون عن ثلاثمئة طالب، معظمهم من جبل عامل، ومن العراق وإيران، ومن أطراف سوريا. وقد كان يدرس فيها الفقه والأصول والحكمة الاشراقية، والكلام والتوحيد والمنطق والفلسفة القديمة، عدا العلوم العربية، مثل الصرف والنحو والبيان والبلاغة، وقد قرأ فيها عدد جم من العلماء، امثال العلامة الشهيد الثاني زين الدين، والذي صنّف أكثر من ستين مجلداً، أعظمها "المسالك في الفقه"، كما شرح معظم كتب الشهيد الاول العلاّمة محمد بن مكي، وخصوصاً كتابه "اللمعة الدمشقية".
كذلك تعتبر مدرسة جزين أقدم عهداً من مدرسة ميس، ناهيك عن المدارس الأخرى في جبيع وعيناتا وحنويه، وبنت جبيل والنبطية. وقد شهد جبل عامل مداً علمياً من القرن السابع الهجري وحتى أواخر القرن الحادي عشر الهجري، بحيث بلغ مكانة مرموقة في حلبات العلم والفضل. أما التراجع الذي شهده على هذا الصعيد، فهو بسبب سياسة بعض الأمراء الاقطاعيين التي كانت تسومه عسفاً وترهقه ذلاً وضيماً، خصوصاً في العصر المملوكي.
في العصر العثماني
خضعت الإقطاعات في الولايات السورية، بعد عام 1516، الى خطط صغيرة، يديرها أمير أو مقدم، من أبناء الأسر القوية، فيلتزم بدفع الضرائب للخزانة التركية. وقد جرى ذلك على جبل عامل إذ خضع أيضاً لنظام التلزيم.
وتناوبت على حكمه أسر إقطاعية، عاملية يخضع مباشرة، وبشكل هرمي الى الأمير الكبير. فكان تارة يخضع لإمارة جبل لبنان وأحياناً يخضع لولاية دمشق او لسنجق القدس او عكا.
وفي عام 1865 اسقطت الحكومة الاقطاعية الثالثة، وخسر جبل عامل استقلاله الذاتي، وحكم الأتراك البلاد العاملية، حكماً مباشراً حتى نهاية عام 1918 (تاريخ جبل عامل ص69).
النزعات الاستقلالية
إن وطأة الاحتلال العثماني على بلاد عامل، كانت سبباً مباشرا، مضافاً الى جملة اسباب اخرى، مهّدت لظهور محاولات عصيان مختلفة في البلاد، ثار على إثرها زعماء عديدون من العلماء الشيعة في وجه الدولة العثمانية، ممثلة بالولاة الذين كانوا يشرفون على إدارة الحكم في جبل عامل.
وكثيراً ما كان بعض العلماء يدعون العامليين للامتناع عن دفع الضريبة او قيمة الالتزام للمقاطعجي، ويتحينون الفرصة المناسبة للعصيان على الدولة ومهاجمة رموزها، خصوصاً أثناء انشغال الدولة العثمانية في حروبها الخارجية.
ويذكر المؤرخون، انه في العقد الاول من القرن الثامن عشر، جرت محاولات استقلالية، تزعمها مشرف بن علي الصغير وأعلن العصيان على الدولة. وخاض العامليون وراء زعمائهم، معارك عديدة مختلفة ضد والي صيدا والشهابيين.
وكانت الوقائع تتكرر على مثل هذه الصورة في كل مرة، كان يظهر فيها زعيم شعبي او ديني جديد. وربما كانت تنتهي بانتصارهم واستقلالهم. وبعد عام 1751م، بدأت حركة شعبية عاملية بالظهور، يقودها الزعيم العاملي الشيخ علي الفارس الصعيبي. وقد عمل العامليون على ترميم القلاع وبناء الدشم العسكرية وتجديد الربط وتدشيم الأرباض. وقد قسموا المقاطعات بين زعمائهم من أجل خوض غمار حروب سنة 1771م ذات نزعات ثورية واستقلالية، ضد ضاهر العمر في فلسطين وضد الأمراء الشهابيين في جبل لبنان.
وفي 1786، ظهر الشيخ ناصيف نصار وقاد معارك وثورات ضد الدولة العثمانية. وكان يرهب جميع من حوله من امراء في محيط جبل عامل وداخل مناطقه المختلفة. وقد نهض له والي عكا أحمد باشا الجزار وقضى على ثورته. غير أن ذلك لم يضع حداً بعيد الأمد للأمن والإستقرار، إذ سرعان ما عادت حروب العصابات إلى الاشتعال من جديد، وعادت معها نزعة الأسر الاقطاعية والدينية الى الظهور من جديد، من أجل الاستقلال لجبل عامل عن حكم الأمراء الشهابيين، أو ولاة عكا وصيدا وصفد ودمشق.
وعندما تعاون الشهابيون مع حملة ابرهيم باشا لإجلاء العثمانيين عن البلاد، وقف حسين بك الشبيب الصعيبي في وجه الشهابيين وقاتلهم قتالاً عنيفاً. أما حمد البيك فقد انتهز فرصة انشغال الشهابيين والمصريين لمواجهة الحملة المضادة التي قادها العثمانيون عليهم، وأعلن الثورة في بلاد عامل. وقد أقره العثمانيون حاكماً عاماً للبلاد. وقد خلفه بعد وفاته ابن أخيه علي الأسعد منذ عام 1852 وحتى وفاته عام 1865. أما الخلافات التي نشأت بين أبناء علي الصغير حول الحكم، وعدم تقدير الظروف التي استجدت حولهم بعد نفي الأمير بشير الشهابي، فقد أسفرت عن فقدان بلاد عامل استقلالها، وفرض عليها العثمانيون سلطتهم بصورة مباشرة وجعلوها تحت سلطة والي الشام.
سيادة الفوضى واختلال الأمن
وكثيراً ما كانت الحركات والثورات في جبل عامل تجلب الفوضى وتتسبب باختلال الأمن، فتتعطل الزراعة وتبور الأرض ويكثر البطالون، فيظهر اللصوص وقطاع الطرق وتمتد أيديهم الى مال الشعب البائس، وتقع البلاد في فقر مدقع وضنك شديد. ويتحدث نجيب عازوري في كتابه يقظة الأمة عن تلاقي المجرمين من قطاع الطرق مع المستبدين من الولاة، فيقول: "فالحكومة التركية، إذا كان من الجائز ان يطلق هذا الإسم على جماعة من قطاع الطرق يقودهم مجرم، فهي لا تكتفي فقط بألا تعمل شيئاً لتحسين وضع الفلاح، ولكنها تعمل بانتظام لتخرب هذا البلد تدريجياً، إذا لا أمن ولا سلام ولا عدالة عند ولاة الشام".
وكان حكام جبل عامل الذين اقتطعوا لأنفسهم مقاطعات لحكمها في ظل غياب قدرة الدولة عليهم، يحكمون البلاد بعقول ضيقة وشهوات واسعة. وقد وصف بعضهم أحمد أمين فقال: "ترف في المظهر وسخف في المخبر. لا يقيدهم قانون، ولا يردعهم عدل. ولا يرون للشعوب حقاً إلا ان تؤمر فتطيع، وتنتهب فتصبر. بل لا يكفيهم الصبر على المصيبة، وإنما يتطلبون المدح والثناء عليهم في ظلمهم وطريقة حكمهم. فمن امتعض فهو ثائر، ومن شكا فهو كافر، فأورث ذلك الهجرة عند من احتفظ بإبائه، والذل والهوان لمن لصق بأرضه".
وكلما كانت الثورات والحركات تدخل البلاد في أتون الحرب، كانت الأمراض تكثر، ويعم الجهل، ويضرب الفقر أطنابه بين الشعوب لضعف وجوه الاستقلال، "فلا زراعة صالحة، ولا صناعة ناجحة، فهذه كلها تدار بيد أضعفها الفقر، وعقل أضره الجهل، وعقيدة أفسدها التخريف. ثم عدم اكتراث لما تنتجه أيديهم وأرضهم. إذ ليس يحميه عدل حكامهم. فلا المالية صالحة، ولا الإدارة صالحة، ولا الجيش صالح، ولا الأمة متحدة النوازع والآمال والآلام".
جبل عامل ووالي الشام
ومنذ عام 1865 كان تطبيق نظام الحكم العسكري في بلاد الشام، قد انسحب أيضاً على جبل عامل، إذ عاش الناس تحت رحمة قانون التجنيد الإجباري الذي فرض على المسلمين من أجل الدفاع عن الأمة، فكان ذلك سبباً متمماً لخراب البلاد وشكل ضربة قاضية على ثروتها. وكانت مدة التجنيد عشرين سنة. ست منها تدعى عسكرية أو احتياط، وثمان رديفا وست مستحفظة. وقلما كانوا يتقيدون بهذا القانون، فربما قضى العسكري المجند في الدرجة الأولى مدة تزيد عما نص عليه القانون. وكانت هذه تراوح بين عشر سنين وخمس عشرة سنة، بالرغم عنه كما جاء في تاريخ جبل عامل(ص 168).
وقد وقعت بلاد عامل، في ظل هذا الوضع المزري والفساد المستشري، في خسارة عظيمة، فكان شباب الفقراء يساقون كالحملان الى الذبح والموت المحقق، خصوصاً بعد سفر برلك الى البلاد العثمانية، التي لم تهدأ بها الثورات والفتن. فكان ذلك كفيلاً بإضاعة النفوس والأموال. "فلم يبقَ في بلاد جبل عامل إلا العاجز والكسول والفاسد، شأن البلاد الأخرى في سوريا".
وفي عهد السفاح جمال باشا دفع جبل عامل ولبنان عموماً، ضريبة الحرية. فبعيد وصول رئيس المنتدى الأدبي العربي عبد الكريم الخليل الى صيدا وصور والنبطية موفداً من قبل جمعية الثورة العربية، لتأليف فرع للجمعية في صيدا والنبطية، قبض جمال باشا السفاح على رضا الصلح ونجل رياض وعبد الكريم الخليل. بالاضافة الى جماعة من صيدا وصور والنبطية كان من بينهم محمد جابر آل صفا العاملي والشيوخ أlsquo;حمد رضا وسليمان ضاهر وعارف الزين. وكذلك راشد عسيران والحاج عبدالله يحيى الخليل والحاج إسماعيل الخليل. وعلق الشهيد عبد الكريم الخليل مع ثلة غيره من الشهداء على أعواد المشانق في آب 1915، كما نفي بعضهم الى أزمير.
مواجهة الحكم العسكري الفرنسي
بالقوة نفسها التي واجه بها قادة الفكر والرأي من المثقفين العامليين حكم الطاغية في ولاية الشام، نجدهم يقاومون ايضاً الحكم العسكري الفرنسي، لأنهم لم يجدوا بعد انسحاب الأتراك ما يحقق لهم اهدافهم الوطنية. ولذلك نراهم يتابعون النضال ويقاومون الانتداب الفرنسي عام 1920. وقد نكل العسكريون الفرنسيون بهم وبزعماء ثورتهم. وكان من بين زعماء الثورة العاملية على الاحتلال الفرنسي الشيخ أحمد رضا العاملي من بلدة النبطية. إذ قبض الفرنسيون عليه ونكلوا به، وأبعدوه عن جبل عامل. وهو الذي قال للحاكم العسكري الفرنسي في النبطية، وكان حوله جموع من الشيعة الغاضبة: "نشكر فرنسا بصفتها محررة للشعوب، نشكر فرنسا الحرة... ولا نشكر فرنسا المستعمرة".
وكان العامليون اول من وجدوا أن الحلفاء نكثوا بوعودهم للعرب، ولم يراعوا للمواثيق حرمة أو ذمة. إذ وجد الشيخ سليمان ضاهر العاملي، كما غيره من العلماء ان وراء ما أعطي للعرب من عهود، عقود مبرمة وعهود في الخفاء منظمة، تقضي على وحدة العرب والمسلمين بالتجزئة والتفرقة، وتجعل عليهم استعمار القوي وانتدابه حكماً لزاماً.
ولم يكن ما زخرفوه في تحرير الشعوب الضعيفة إلا استعباداً واسترقاقاً لهم. وهو يقول في وعد بلفور:
لا يغترر بالمنى ابناء صهيون
فوعد بلفور وعد غير مضمون
ودون ملك فلسطين الذي حلموا
به، القيامة او نصب الموازين