جريدة الجرائد

الاقتصاص من صدام.. للعراق أم عليه؟

قراؤنا من مستخدمي تويتر
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على تويتر
إضغط هنا للإشتراك



مشاري الذايدي


لو كان الامر بيدي لفضلت السجن الدائم لصدام على الموت، لكن ما جرى قد جرى.

مع ذلك فالحكم بإعدام صدام حسين وبعض أعوانه، على ذمة قضية "الدجيل"، ذكرني، مع أن التاريخ لا يكرر نفسه كما قيل لنا، بالحكم على رجل العصابات الامريكي الشهير "آل كابوني" عام 1931 بالسجن 11 عاما وغرامة تبلغ خمسين الف دولار بتهمة التهرب من دفع الضرائب، وفقط ! وجه الشبه هو أن العدالة الامريكية ظلت تلاحق نجم المافيا، الذي أقام نشاطه على مختلف انواع الجريمة المنظمة، لكنها لم تستطع الايقاع به "قانونيا" إلا على ذمة قضية تهرب من ضرائب، فالقانون، في اغلب احواله أعمى، حتى ولو كانت الجريمة من الضخامة الى درجة تملأ السماء والارض، غير أن سنارة القانون "الصغيرة" لا تقدر على التقاطها، لكن ذلك لا يعني عدم وجود الجريمة.

جرائم صدائم كثيرة، وهو ليس وحده الذي قتل وسجن وارتكب جرائم ابادة، وإن كان لا يبارى في ذلك! ولكنه الوحيد الذي يتمتع بغباء وغرور منقطع النظير، أودى به لمصيره القاتم، فكشف نفسه، وتناولته سنارة القضاء، بجريمة من جرائمه البسيطة او المتوسطة، وهي الدجيل.

منذ بدء محاكمة صدام حسين في اكتوبر 2005، بتهمة جرائم ضد الانسانية لقتله 148 في الدجيل عقب محاولة اغتيال فاشلة ضده في عام 1982، وصدام يقول إنه غير مذنب. كما أنه غير مذنب في حملة الانفال ضد الاكراد، وليس مذنبا في احتلال الكويت، فهو فعل ذلك لأن مسؤولا كويتيا أساء لنساء العراق! كما قال للقاضي رائد الجوحي في اول جلسة. وهو غير مذنب في كل جرائم القتل والاعتقالات والاعدامات والمقابر الجماعية، والاهم من ذلك كله والانكى: في شطب العراق من خارطة التأثير وسوق شعبه الى الدمار والفوضى... هو يقول إنه غير مذنب، وجمهوره وفريق دفاعه من: كلارك الامريكي، الى الدليمي العراقي، الى احزاب الاردن، وجماعات مصر، كلها تقول إنه غير مذنب، وأنه يتعرض لمهانة وتعذيب ومحاكمة غير انسانية !

مع أن المحاكمة، رغم كل الثغرات التي شابتها، باعتبارها اول محكمة عراقية بهذا المستوى من الشفافية، كانت محاكمة تاريخية تسجل للعراق .

هذا الكلام ربما لا يعجب البعض، لكن قارنوا هذه المحاكمة بمحاكمات نظام صدام التي كانت تقاضي وتصدر حكم الاعدام قبل ان يفرغ المتابع من احتساء فنجان قهوته، كما كان يفعل طه ياسين او عواد البندر، وهو ماض قريب ومسجل وليس حديثا عن الغابرين، لكن يبدو أن ذاكرة البعض اوهى من خيط العنكبوت.

بدأت المحكمة الخاصة في اكتوبر 2005 ، واستمرت الى قبل امس، في قضية الدجيل فقط، وصدام ومعه برزان وطه والبقية طيلة هذه المحكمة المبثوثة على الشاشات، يخطبون ويدافعون، ويدونون الملاحظات، ويشتمون المحكمة، ويحاولون توجيه المسار...

سؤال واحد فقط : هل كان مثل هذا السلوك متاحا في ظل نظام صدام ؟!

نعم، العراق تحت الوصاية الامريكية، والمحكمة جرت في ظل فرقة سياسية حادة بين العراقيين، الامر الذي يجعل هذه المحاكمة جزءا من حالة الانقسام هذه. فهناك حرب متنوعة ومتشابكة تجري على ارض العراق بين اطراف عدة، هناك حرب بين الميليشيات الشيعية وبين الجماعات السنية المسلحة، سواء كانت محسوبة على القاعدة او البعث، وهي حرب بشعة، يمارس فيها القتل على الهوية بأقبح صوره، وهناك حرب بين القاعدة والحكومة العراقية والقوات الامريكية، وهناك حرب بين القوات الامريكية و"بعض" القوات الحكومية مع جماعات الصدر وما شاكلها، وهناك حرب بين جماعات شيعية شيعية مثلما حصل في البصرة، وهناك حرب بين جماعات سنية، كما حصل في الرمادي بين عشائر الغرب وبين القاعدة.

هذا صحيح ولكن ايضا يجب ان نتذكر ان اكثر من نصف الشعب العراقي يعتبر محاكمة صدام مطلبا اساسيا لا يتنازل عنه، فاجراء المحاكمة من هذه الزاوية ايضا عامل توحيد لكثير من العراقيين. وحتى لا يذكرنا أحد، نعرف أمثلة من الغباء الامريكي في ادارة واستثمار "نجاح" اسقاط نظام صدام في ابريل 2003، وهي فترة ذهبية وحاسمة كان يمكن فيها ادارة الازمة بنجاح، وضمان الاستقرار، وعدم اثارة السنة او جمهور البعث الذين يبدو أن بعضهم كان يمكن ان يقبل حقيقة زوال صدام، اذا لم يتحول الامر الى حملة انتقام و"مطادرة ساحرات" لكل من لديه "شبهة" البعث، لكن "العبقري" بريمر، والمستشار "العظيم" الجلبي، لم يفعلا ذلك، واجتث البعث (وهي كلمة قصيرة ولكنها تعني الغاء حياة قرابة مليون نسمة!) وحُلَّ الجيش (وهي ايضا تعني شيئا مثل ذلك) الامر الذي حول الترقب السني او البعثي الى قلق وحنق وشعور بأنهم مرصودون للموت والالغاء، فكانوا خزينا بشريا وعمليا لأي "حالة" رفض او محاربة لمحاولة بناء عراقي تعددي ديموقراطي جديد، سواء أتى هذا الرفض من سوريا او من القاعدة ، ترافق مع ذلك "غزل" امريكي ساذج ومكشوف للاحزاب الشيعية الاصولية، فتمكن المرض الاصولي الشيعي في مفاصل الدولة، واصبح الشعور العام ان هذه الدولة مجيَّرة لطرف معين، كما كان الامر ايام صدام ولكن هذه المرة مع الحكيم والصدر والدعوة عوض البعث، مع فرق واحد هو ان القدرة على مقاومة هذا التفرد بالدولة في المرحلة الحالية يمكن محاربتها بالسلاح، ويمكن ان يصفق لهذه المقاومة الشارع العربي باعتبارها مقاومة للاحتلال الامريكي.

الآن اصبح هذا واقعا، وصدام انتهى "عمليا"، سواء استأنف الحكم ام لا، وفي ظني ان الذين هتفوا منددين بحكم إعدامه في العراق، هم أول المستفيدين من اعدامه! نعم هم أول المستفيدين، لأن غيابه سيلقي من على عواتقهم ثقل "وصمة" صدام حسين، فالقاعدة ومن معها، ستقول الآن: لا صلة لنا بصدام، بل نحن مشروع مستقل ومسعى مختلف ورؤية مغايرة، مع انهم سبق ان قالوا ذلك، لكن غياب صدام عن الحياة سيجعل تأكيدهم اوضح.

وأيضا جماعات المقاومة البعثية التي تتنامى يوما وراء يوم، ومعها السلاح والخبرة والضباط المسرحون والامتداد العشائري، ستكون مستفيدة من غياب صدام، فهي اصلا "قاعدة" صدام التاريخية، وهي الآن ستكون اكثر حرية في الحركة، وفي التأكيد على "أصالة" خطها وأنها ليست مجرد جماعة تنتهي بانتهاء فردها القائد حتى ولو كان بحجم "الرفيق المهيب" صدام. هذا لا يعني ان نتوقع من البعثيين سماع ذلك علنا، على العكس سيستمر الخطاب العلني نفسه، ولكنهم حتما، وربما في بعض جلسات التفاوض السرية مع الامريكان او الوسطاء العراقيين، سيقولون ما معناه: هذا صدام الذي لاحقتمونا به ونسبتمونا اليه، قد انتهى، ونحن باقون، ولنا مطالبنا.

بصورة أعم، سنة العراق العرب، هم المستفيدون في العمق من زوال صدام من المشهد، حتى ينتهوا من "موال" إلصاقهم به. صحيح أن الذي ابتهج وصفق لحكم إعدامه هم جمهور مدينة الصدر وأخواتها، وان الذي هتف لصدام مشيدا بـ"أبي عدي" هم جمهور تكريت وشقيقاتها، إلا أنه وبصرف النظر عن عفوية وبساطة هذا الجمهور في الطرفين، يبقى ذلك رد فعل أوليا تعودنا عليه في العالم العربي، وعادة ما يعطي عكس نتائجه في المآل !

المهم الآن، وقد طوى القضاء العراقي صفحة صدام بعد عام كامل من الجلسات، في قضية واحدة، هو ان يتم إجراء مصالحة كبرى بين سنة العراق وشيعته، بين عربه وكرده، بين كل مكوناته، فلا ميليشيات الصدر او "بدر" تقدر على إلغاء حي الاعظمية السني في بغداد، ولا الجماعات السنية المسلحة تقدر على الغاء حي الكاظمية الشيعي، مثلا. العراقيون محكومون بالتعايش، رغم انوفهم! ويبقى الآن ان لا تصبح هذه الشفافية والعدالة "الرائعة" التي طالت صدام حسين واعوانه، قصرا على طرف دون طرف، فنحن نحتاج ايضا الى محاكمة كل مرتكبي القتل والجرائم الجماعية ضد العراقيين منذ سقوط نظام صدام حسين.

نحتاج، على سبيل المثال، الى معرفة قتلة عبد المجيد الخوئي في الصحن الحيدري بالنجف، بشكل بشع، فالكل يقول ان القاتل هو مقتدى الصدر، نحتاج الى أن تقام قضية في هذا الصدد، وايضا نحتاج الى معرفة حقيقة الجثث التي بدون رؤوس في الاحياء السنية، وايضا نحتاج الى معرفة الواقفين خلف قتل وتفجير باقر الحكيم وموكبه، ونحتاج الى معرفة حقيقة "المحاكم الشرعية" التي تقتل وتسجن وتعذب في اماكن تجمعات التيار الصدري، ونحتاج ان نعرف حقيقة ما يقال عن فيلق بدر وما يقوم به من اعمال "تطهير" طائفي .

يجب ان ينظف العراق من كل جراحه، وان يخرج الصديد من الكل، فالصراحة صابون القلوب، وهناك احقاد معقدة لا حلّ لها الا بعلاج الكشف المؤلم ومن ثم التحاسب او الغفران، كما جرى في جنوب افريقيا بعد ان كشفت كل جرائم النظام العنصري، المشكلة ان العراق الحالي لم يقطع مع زمن صدام حسين وينتقل الى زمن آخر، ولن تحدث القطيعة مع حالة الخوف والجريمة السياسية والقمع الا بقيام حالة شفافية وثقافة وطنية .

لذا، ورغم كل التحفظات التي قرأنا عنها لدى متحدثين ومعلقين عرب وغير عرب بعد صدور حكم الاعدام من أن المحكمة تمت تحت وجود الامريكان (وكأنها كانت ستقوم لولا اسقاط الامريكان لنظام صدام!). كل هذه التعليقات ستتبخر، اذا ما تصالح العراقيون. هذه التحفظات العربية المعتادة لن تغير من حقيقة أن القضاء العراقي، رغم كل شيء، يستحق الاشادة، وان صدام يستحق حكمه، وان العراق يستحق احسن من حكامه الحاليين.

التعليقات

جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف