ديوك العراق
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على إنستجرام
إضغط هنا للإشتراك
أمين قمورية
يروى أن قرويا طلب من جاره ان يجد حلا لديكه الذي يزعج أهل القرية بصياحه العالي عند الفجر، فوعده الجار خيرا بالتخلص من الديك فورا. وفجر اليوم التالي استيقظ القروي مذهولا على صياح عشرات الديكة تضج في أرجاء القرية. فتوجه الى جاره مستفسرا، فأجابه الجار ان ديكه الذي ذبحه كرمى لعيونه في اليوم السابق كانت تخافه كل الديكة في القرية، وبغيابه صار في امكان الديكة الصغيرة ان تملأ الدنيا صياحا.
هكذا هي حال العراق، فعندما غاب "الديك الأكبر" صدام حسين، تخلصت الديكة الصغيرة من عقدة خوفها وصار كل منها صيّاحا على مزرعته ويمارس فيها ما كان يمارسه "الديك الأكبر".
صار للأكراد ديوكهم، وللشيعة ديوكهم، وللسنّة ديوكهم، وللتركمان ديوكهم، وللاسلاميين ديوكهم، وللعلمانيين ديوكهم، وللأنبار ديوكها، وللبصرة ديوكها، ولكل حي من أحياء بغداد ديوكه. وبقي صدام، وإن أسيرا، ديكا من الديوك يصيح في زنزانته ويسمع صياحه في تكريت والرمادي والفلوجة.
يوم قبض على صدام مهزوما ذليلا مختبئا داخل حفرة كان يفترض ان يكون ذلك اليوم لحظة الاعدام الفعلية للماضي الاسود لهذا الرجل وللدولة السيئة التي أرسى أسسها، لكن الانعاش جاءه سريعا عندما حصل الأسوأ باختفاء الدولة وتكريس العراق مزارع مذهبية واتنية، وعندما اتبع المحتل سياسة فرّق تسد وعمد الى تغليب فئة عراقية على أخرى وتصحيح "الخطأ التاريخي" بخطأ أشد فداحة منه، لا بل أكثر عندما دفع بالجنود والضباط دفعا من جديد خلف قائدهم المعتقل بالقرار (الغبي او المقصود) الذي اتخذه الحاكم الاميركي للعراق بول برايمر بحل الجيش العراقي وتسريح أفراده من دون تأمين بديل منهم. وعندما تحول "عراق المستبد الواحد" الى "عراق مستبدين" حنَّ البعض الى الاستبداد الأوحد وعاد صدام "ديكا" لفئة أشعرها المحتل والحكومة المركبة بأنها فئة مغبونة ومعتقلة مثل رئيسها المخلوع، ولا سيما بعدما كثرت "الديكة" وفاقت ارتكاباتها ما ارتكبه "الديك الأكبر" في ذروة غيّه.
قرار المحكمة الأحد لف حبل المشنقة حول عنق صدام، ولكن سواء أعدم أو لم يعدم فان الحكم الذي لفظه القاضي لا يعني أبدا ان المحكمة ستكون درسا لـ"الديكة الآخرين"، وان العراق سيصير دولة موحدة مستقرة مواردها ملك أهلها.
ثمة احتمال ضئيل بأن القرار لن يدخل حيز التنفيذ بامتناع الرئيس جلال طالباني ونائبيه عن توقيعه (على رغم قوله ان الحكم لا يحتاج الى توقيعه) لكن الامتناع لا يعني أبدا موقفا مبدئيا لطالما تغنى الرئيس المحامي باتخاذه، بل يعني ان هناك احتمالا للمساومة على رأس صدام في مقابل وقف الهجمات "البعثية" ضد الاميركيين، وتاليا ترك الرجل كابوسا لـ"الديكة" الآخرين مما يسهل ابتزازهم ويغرق العراق في نار الفوضى والحرب الاهلية.
أما تنفيذ الحكم فيعني ان الفئة المتعاطفة اليوم مع صدام ستشعر بمزيد من الغبن والاستياء في ظل قصر القصاص على مرتكب دون غيره من المرتكبين ولا سيما الجدد منهم والمدعومين من الخارج، وتاليا فان الاعدام سيكون وصفة مثالية لتأجيج الحرب الاهلية وتسعيرها وصولا الى حد التقسيم الذي يكشر عن أنيابه. ولعل ما يلفت، ان ما يفرّقه الملف النووي بين طهران وواشنطن جمعه الترحيب المبالغ به للعاصمتين بقرار الاعدام كأن الدولتين المعنيتين كثيرا بالشأن العراقي، لا تتشفيان لماض، بقدر ما تتطلعان الى مستقبل لا مكان فيه لعراق موحد وقوي يحد من الطموحات الاقليمية لجيرانه ويمكنه ان يعطل سياسات نفطية واقتصادية وأن أمرا كهذا لا يستتب الا بعراق يشتد فيه "صراع الديكة" على حساب الدولة الموحدة والديموقراطية.