جريدة الجرائد

غازي القصيبي في حوار ثقافي

قراؤنا من مستخدمي إنستجرام
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على إنستجرام
إضغط هنا للإشتراك


الوزير والشاعر والروائي غازي القصيبي في حوار ثقافي موسع (1 من 2):
لو فكرت في موقعي السياسي والإداري ما كتبت شعراً ولا نثراً!

حوار: سعد محارب المحارب

غازي القصيبي اسم لا يسع الباحث في شأن الثقافة استثناءه من أي ذاكرة، فهو الممتد زمناً ومكاناً، وهو الكاتب السعودي الأنجح بلا تعقيب، والمبدع المثير للجدل بلا استدراك، والمثقف الذي اعتاد أصدقاؤه وخصومه على دبلوماسيته الفطرية، وسعة أفقه وصدره، وذخيرة حججه التي لا تنفد، وصلابة قناعاته التي لا تقهر.
الحوار مع الدكتور غازي القصيبي دائماً مغامرة، ولكنها أبداً ليست خاسرة، وإنما أحببت أن أقول إننا عمدنا في "الاقتصادية" عن سابق إصرار إلى أن نبتعد بضيفنا - ما استطعنا - عن شواطئ الوزارة والمهام الرسمية، ونأخذه إلى حوار ثقافي موسع، فيما يلي نص الجزء الأول منه:


(سحيم)، و(الأشج)، تجربتان في كتابة النص الشعري الحاكي عن لحظة نهاية، ما الذي يدفعك إلى التقاط هذه اللحظة الأقسى، والأصدق؟ هل تتوقع نهاية جاحدة؟ ثم لماذا يختص شعرك بمثل هذه التراجيديا فيما تفتقدها روايتك التي تنزع إلى الكوميديا؟
كل بطل، باعتبار الأبطال يطمحون إلى تغيير ما لا يمكن تغييره، هو بالضرورة، شخصية مأساوية، والحديث عن البطل بالضرورة هو حديث عن مأساة. وإذا كانت حياة البطل بأكملها فصولاً متوالية من المآسي، فلا شك أن أكثر الفصول إثارة هو الفصل الأخير، وبالتحديد المشهد الأخير من ذلك الفصل: لحظة النهاية، خصوصاً عندما تجيء مشتعلة ملتهبة كما في حالة (سحيم)، أو مباغتة ومروعة (بالسم)! كما في حالة (الأشج). في حياة كل بطل ما يغوي الفنان ـ وأنا استخدم الكلمة بأوسع معانيها ـ بدخول حياة البطل، في أولها، وفي منتصفها، ويزداد الإغواء مع نهايتها. لي قصيدة طويلة اسمها (الفرسان) تستعرض النهاية المؤلمة لعدد من أبطال التاريخ المعروفين. وليس من قبيل المصادفة أن يكون ما يكتب في رثاء الأبطال أروع بكثير مما يكتب في تمجيدهم. وليس من قبيل المصادفة أن تسمى مسرحيات شكسبير (مآسي شكسبير). بقى أن أقول أن القراءة المستعجلة وحدها ـ ولا أتهمك بها ـ هي التي يخفى عليها أن الضحكة كثيراً ما تخفي الكثير من الشجن. منذ زمن بعيد تحدث شاعر عن الطير الذي (يرقص مذبوحاً من الألم). وتحدث صاحبناً الكبير عن ضحك كالبكاء. وفي عصرنا هذا ذكّرنا عمر أبو ريشة بما قد ننساه: (بعض الطيور تغني وهي تحتضر). في كثير من أعمالي الروائية الكثير من الألم الذي قد لا يتجلى مع القراءة الأولى. (العصفورية) إذا جردتها من قناع (البلياتشو) الملون، تروي حكاية مأساة رهيبه ـ لعلها أفظع المآسي في تاريخنا المعاصر ـ حكاية العقل العربي عندما اصطدم بالحضارة الغربية وأفاق ليجد نفسه في مستشفى المجانين الذي هرب منه إلى الفضاء الخارجي. وفي 7 نماذج بشرية مشوهة وتعيسة. قالت لي زوجتي، التي تقرأ الرواية بعدد من اللغات، إنها لم تقرأ، قط، رواية حزينة مثل 7. يجب أن أتوقف هنا فأنا أحرص على ألا تتحول أجاباتي إلى مذكرات تفسيرية لإنتاجي.

لدى القصيبي ما يشبه الولع بحكاية الأحداث والمواقف، فيأتي هذا في المقال، كما في (الأسطورة)، ويأتي في الكتاب السياسي كما في (أمريكا والسعودية) ـ وخصوصاً في فصل أسرار المطاعم الثلاثة -، ويأتي في الكتاب الأدبي كما في (مائة ورقة ياسمين) وفي (مع ناجي ومعها)، فهل تشاركني الرأي أن هذه الموهبة (الحكواتية) هي المسؤولة عن دخولك إلى الرواية، وأوشك أن أقول بروزك فيها؟
سوف أقص عليك أشياء قد تجد فيها الجواب، أو جزءاً منه. أيام طفولتي، في المدرسة الابتدائية في المنامة، كانت هناك مادة اسمها (القصص) وكان هناك مدرّس نادر، الأستاذ أحمد يتيم ـ رحمه الله -، كان هذا المدرس يحول المادة إلى جولة مثيرة في روائع الأدب العربي والعالمي، مبسّطة بما يتناسب مع عقلية الأطفال، ومروّية بما يشبه التمثيل (وكان ممثلاً بارعاً). في الثامنة، أو نحوها، دخلت عالم القصص، ولا أحسبني غادرته إلى الآن. قبل أن أصل إلى العاشرة أقمت صلات وثيقة مع اللص الظريف (أرسين لوبين)، ومع (روكا مبول) وهو قاتل فرنسي مرعب تستغرق مغامرته عدة مجلدات ضخمة، ومع بطل الخيال العلمي الأثير لدي (سيف بن ذي يزن)، ومع رجل الغابة (طرزان)، وأخيراً وليس آخراً مع بطلنا القومي الأسطوري (عنترة العرب). كان أقراني يعرفون شغفي بهذه الكتب، وكنت أقرأ ولم يكونوا يقرأون، وكانوا يتحينون الفرص لكي يستمعوا مني إلى آخر القصص التي قرأتها. في البداية كنت اكتفي بأن أعيد عليهم المغامرات التي احتوتها الكتب. شيئاً فشيئاً، عندما بدأوا يلحّون في طلب المزيد، بدأت أضيف مغامرات من تأليفي - على البديهة. في مرحلة من المراحل تجاوز عدد القصص (المفبركة) عدد القصص الحقيقية. لا بد أن أعتذر الآن للأصدقاء وللتاريخ عن هذا التزوير، وشافعي أن المتلقين لم يعرفوا الفرق. هناك إذن شغف قديم متأصل في أعماقي (بالحكاية).. (بالسالفة). قبل أن أكتب الرواية وبعد أن كتبتها، ظللت مؤمناً أن كل رواية يجب أن تكون (حكاية) لها بداية ولها منتصف ولها نهاية. لا شيء يغيظني مثل الخواطر المتداعية التي تسمي نفسها قصصاً، وعندما يطول الهذيان تسمي نفسها روايات (وما أكثرها في المكتبات). بقي تعليق ضروري. عندما وضعت كلمة (حكاية) تحت (الجنية) لم يطف ببالي، لحظة واحدة، أنني سأخدع أحداً: القراء أذكى من ذلك بكثير، وأنا لست غبياً إلى هذه الدرجة. لماذا وضعت الكلمة إذن؟ هل أطمع منك أن تقرأ الإجابة من جديد؟.

يلفتني اهتمامك بإبراز آراء النقّاد حول روايتك، وخصوصاً المنتقدة لها بوضعها على غلاف الرواية في الطبعات التالية، فهل أكون سيئ الظن بك حين أقول إن هذا يأتي من باب الاستخفاف بهذه الآراء من خلال إشهاد القرّاء على أن آراء النقّاد لم تمنع من توالي طبعات الرواية؟
إذا أردت الصراحة، وكثير من الذين يطلبون الصراحة لا يريدونها وكثير من الذين يّدعونها لا يمارسونها، فلا بد أن اعترف أن في كلامك قدراً من الصحة. هناك بالتأكيد شيء من اللؤم (الأدبي)في الإشارة إلى الانتقالات السلبية، يتمثل هذا اللؤم في لفت الأنظار إلى أن بعض هذه الانتقادات تجيء ركيكة شكلاً وموضوعاً، وبعضها يشي بأن الكاتب لم يقرأ العمل المنقود، أو قرأه ولم يفهمه على سبيل المثال، أقول ماذا أفعل بناقد ذكر أن رواية (أبو شلاخ البرمائي) تهزأ بحقوق الإنسان؟ لا أرى عقوبة أفضل من نشر رأيه. يجب أن أضيف أن هناك بالإضافة إلى اللؤم قدراً من سعة الصدر في التعامل مع النقد. أسوأ ما يمكن أن نبتلى به في عالمنا الأدبي موجات الديكتاتورية التي تجتاح عوالمنا الأخرى. من طبيعة الأمور، في الأدب، أن تتفاوت الأذواق، وأن تختلف اختلافاً شديداً. هناك، حتى هذه اللحظة، من يقول إن المتنبي ليس شاعراً. ماذا نفعل به؟ لا شيء! هذا رأيه، وسوف ندافع عن حقه في اعتناقه وإبدائه والترويج له. تطعيم (التقريظ) الذي يجيء على ظهر الكتاب بشيء من النقد ظاهرة صحية، بصرف النظر عن الدوافع. كنت قبل فترة استمع إلى مقابلة مع روائي مشهور في محطة إذاعة أمريكية. قال الروائي إن ناقداً كتب كلاماً قاسياً عن رواية من رواياته وحاول وضع مقتطفات منه على ظهر الرواية، إلا أن الناشر رفض بشدة، وقال إنه لا يمكن أن يوجد ناشر يقبل وضع شيء من هذا القبيل. والروائي الشهير، الصديق الطيب صالح، أخبرني أنه لم ير أحداً غيري يضع كلاماً سلبياً عن عمله على ظهر العمل. هل أستحق، إذن، اعترافاً بالريادة في الميدان؟ هل بوسعي أن أدّعى أنني أول من ابتدع هذه الظاهرة، التي قد تتفشى وقد تزدهر، وقد تموت، مأسوفاً على شبابها القصير؟

نمطية الشخصيات، والإسراف في الحوار، والاستعراض المعلوماتي، والاحتكاك بعوالم ما وراء الطبيعة، والحب الحالم، والمغامرات العاطفية الصاخبة مع شهيرات العالم، وغيرها سمات (قصيبية) ثابتة في أعمالك السردية، هكذا أرى من زاويتي، فكيف ترى من زاويتك؟
أنا لا أتوقف، يبن الحين والحين، لاستعراض أعمالي وتمحيصها وتصنيفها. هذه المهمة كانت، وتظل، ويجب أن تبقى، للنقّاد ولهم وحدهم (وأنا لا أشكو قلة النقاد - ولا الباحثين الاكاديمين). أتصور أن الفنان عندما يتحول إلى ناقد أو شارح لأعماله فسوف يفقد الفن كثيراً دون أن يربح النقد شيئاً. أذكر، على سبيل المثال العابر، تعليقات الجواهري على شعره في الهامش، هذه التعليقات التي قتلت شعره قتلاً والتي أزيلت، بحمد الله، من كل الطبعات اللاحقة. عندما أمعتت النظر في سؤالك وجدت أن ما قلته عن (السمات) التي تميز أعمالي الروائية صحيح إلى حد كبير. ولكنني إذا كنت أتفق معك على وجود هذه السمات فقد لا أتفق معك على توصيف بعضها. هناك الكثير من الحوار، ولكن هل هناك (إسراف)؟ الحوار تقنية فنية أجيدها ومن الطبيعي أن ألجأ إليها أكثر من لجوئي إلى تقنيات لا أجيدها (كوصف رجل عبر ثلاث صفحات أو وصف صالون عبر خمس!). وهناك الكثير من المعلومات ولكن النظر إليها باعتبارها مجرد استعراض معلوماتي فيه قدر من التسطيح. في روايات صنع الله إبراهيم حشد هائل من الأخبار التي ينقلها حرفياً من الصحف. هل تعتقد أنه يحاول أن يبهرنا باستعراض معلوماته الصحافية؟ أشّك في ذلك! الأرجح في حالته وفي حالتي، أن هذه تقنية أخرى تستخدم لغرض في نفس يعقوب. لا يفل الحديد إلا الحديد ولا النقد إلا النقد! أحيلك إلى دراسة نفاذة للدكتور عبد الله الغذامي عن (العصفورية)، عنوانها (المعلومة باعتبارها بطلاً للعمل). قد تجد فيها، بالإضافة إلى استعراض العضلات المعلوماتية (إن جاز هذا التعبير الغريب) إضاءة صغيرة، وقد لا تجد!.

لا تتطرق في رواياتك إلى مكاشفة الواقع المحلي، فنحن القرّاء في روايتك ننتقل من الحلم إلى ما يشبهه، وحتى التجربتين الاستثنائيتين في (دنسكو) وفي (سعادة السفير) نحن أمام تجربة شخصية، وأخرى دولية، فهل قصدت هذا التجنب بحكم موقعك السياسي والإداري؟
لو فكرت في موقعي السياسي أو الإداري أو الاكاديمي (سابقاً) لما كتبت كلمة من شعر أو نثر. أنا أكتب عندما أكتب استجابة لدوافع نفسية قوية وطاغية ـ وغامضة. وأقصد بالغموض أني لا أعرف لماذا تجيء هذه الدوافع عندما تجيء ـ ولماذا تجيء بالشكل الذي جاءت به. قبل أن أبدأ عملاً روائياً لا بد أن تكون في ذهني فكرة عامة جداً (حياة مشتركة بين أصدقاء "شقة الحرية"، رجل يسرف في المبالغات "أبو شلاخ البرمائي"، سبعة رجال في جزيرة مع امرأة حسناء "7"، رجل يموت بالعشق وبالسرطان "حكاية حب" وهلم جراً). تظل هذه الفكرة العامة تختمر فترة تطول أو تقصر. حتى تتحول إلى مخطط عام شبيه بالخرائط الهندسية. من الروائيين ـ خصوصاَ الأمريكيين ـ من يسجل هذا المخطط العام على الورق - أما بالنسبة لي فيظل في ذهني عندما أبدأ الكتابة وكثيراً ما يخرج الأبطال على النص (كما أن بعض الأفكار العامة تموت دون أن تتحول إلى مخطط) أريد أن أقول إني لا اختار الأفكار العامة ولا المخططات عمداً ومع سبق الإصرار ـ يجيء هذا كله بطريقة شبه عفوية ـ ويختمر في العقل الأدبي الباطن. بعد التسليم بهذا كله لا بد أن أقول إن الناس كلهم! أعداء ما جهلوا وأصدقاء ما عرفوا وأنا أنزع - عندما أكتب - إلى الكتابة عن أشياء أعرفها معرفة حميمة، وأتجنب الكتابة عما لا أعرف، قلت وأكرر هنا إنني بفضل الله لم أعرف الجوع، أو الاعتقال، أو المنفى ولو حاولت أن أكتب عن هذه التجارب، شعراً أو نثراً، لجاءت كتابتي (كالباروكة). دع كل الزهور تتفتح: العشاق يكتبون عن العشق والمنفيون عن المنفى، والمناضلون عن النضال. نحن بحاجة إلى كل الزهور: الزهور الواقعية، والزهور الخيالية، وحتى الزهور الجنونية ـ ثمة نصيحة لم يطلبها أحد مني ولكني أقدمها على أية حال: استمتع بالورود التي تجيء من زارع الورد، ولكن لا تسأله لماذا يتحيز ضد الفل والقرنفل! قد لا توجد لدى المسكين بذور سوى بذور الورد. أريد أن أقول ربما لا توجد لديّ بذور غير هذه، ياعزيزي!.

أوشك أن أقطع لولا بعض الاستثناءات، وأنت منها، أن مبدع الرواية في السعودية غير قادر على التباعد عن شخصيته وظروفه وبيئته لصالح إنجاز عمل فني، وهذه الملاحظة تدفع القارئ إلى التعاطي مع العمل من خلال معطيات غير فنية، بما يشجّع بالتالي على استنتاجات غير نقدية، إذ يسهم التقارب بين شخصية البطل والمؤلف في افتراض أن الرواية لم تأت لحاجة فنية وإنما لضرورة رقابية، هل تتفق مع هذه الملاحظة؟
قال أستاذنا الرائد الكبير، أحمد سباعي ـ رحمه الله ـ ذات يوم إن الرواية لا يمكن أن تزدهر في مجتمع محافظ، وقد كان على حق. مجتمعنا الآن خطا خطوات واسعة نحو التسامح الفكري والثقافي منذ تلك الأيام. وحرية الكتابة أصبحت الآن متاحة لكل أحد، بعد أن تعددت (منابر) من لا (منابر لهم) ومواقع من لا صحافة لهم، وبعد أن أجهز الفضاء الإلكتروني على الرقيب بالضربة القاضية. هذه الحرية غيرت كثيراً من المفاهيم. لم يعد في الإمكان تعليب العقول ووضعها داخل خزانة حديدية لحمايتها من الانحراف الفكري. والرواية تأثرت، كما تأثر غيرها من ضروب الأدب، بهذه الثقافة الجديدة. أعتقد أن ملاحظتك عن (الخوف من الرقيب) لم تعد صحيحةفي أيامنا هذه. كثير من الأعمال الروائية، التي قرأتها أخيراً، لم تبال برقيب أو حسيب (أو وازع أو رادع). أخشى أن الجرأة التي كنا نفتقدها في أعمالنا الروائية الأولى توشك أن تصبح مفتاح الدخول الوحيد على عالم الرواية. لست من أنصار إعادة الرقيب إلى مجده السابق، ومع ذلك أقول إنه لو وجد رقيب أدبي لدى دور النشر لما وجدت بعض هذه المؤلفات سبيلها إلى النشر. ملاحظة جانبية: كيف يمكن للناشر أن يتحكم في الإنتاج وهو يتقاضى من المؤلف (غالباً المؤلفة!) مقابلاً مادياً عن النشر؟! وهنا لا بد أن أتوقف لأقول لبعض أخواتي وبناتي ـ الروائيات السعوديات: العُري - بكل تأكيد ـ جرأة ـ ولكن العري ـ بكل تأكيد ـ ليس أدبا والأرجح ـ عند كل الحضارات ـ أن العري قلة أدب ! يسري هذا الحكم على العري في الشارع ـ والعري في الرواية!.

"يهددني دجالهم من جحوره ولم يدر.. أن الفأر يزأر كالفأر"، و"سلام عليك تقاتل للعرب والفرس"، مثالان من قصيدتين نشرتا هذا العام في مناسبتين مختلفتين، ولكن جمعهما أن أثارتا بعضا من الناس، وفسرتا بأكثر من معنى، ومنحتا أكثر من تعليل مفترض، وقيل إنها تفسيرات وتعليلات يحرج بعضها القصيبي الوزير، وبشكل عام أيهما يدفع ثمنا أكبر من أجل الآخر، الشاعر أم الوزير؟
كل الذين كتبوا عن شعري، وقد كتب عنه كثيرون، أجمعوا على أن الوضوح سمة من أهم سماته حتى عندما تكون هناك نزعة إلى الغموض أو الإيهام. وأظن أنني أتفق معهم. المقصود "بدجال الجحر " والقتال "للعرب والفرس" واضح وضوح الشمس. الذين قالوا إنهم "لم يفهموا" فهموا ولكنهم لا يتفقون معي، وهذا شأنهم، وهذا حقهم. في الغرب هناك تعبير ظريف يقال لمن يدعي أنه لم يفهم كلامك الواضح " هل تريد أن أرسم لك صورة"؟. أحسبني أريد أن أقول للذين وجدوا غموضا في ما قلته: "هل تريدون ألبوما من الصور الفوتوغرافية؟ أم تفضلون فيلما سينمائيا"؟! بقي أن أتوسل إليك ـ وإلى غيرك، ألا تقحم حكاية الوزارة في كل شيء أو تعطيها حجما يتجاوز حجمها الحقيقي. عندما أكتب قصيدة أو أنشرها فأنا أكتبها وأنشرها بصفة واحدة لا غير هي صفة الشاعر.

حتى مرحلة احتلال الكويت كان القصيبي ـ بالإضافة إلى الشاعر ـ هو الكاتب الذي يغلب عليه هم التنمية، لكنه مع تلك الأزمة ـ وبعدها ـ صار محللا سياسيا كما في (أزمة الخليج محاولة للفهم)، وروائيا قدم تشكيلة أدبية مثيرة للجدل النقدي، ومساجلا نجح في إثارة الانتباه إلى خطورة المد (الصحوي) في وقت مبكر، وكاتبا ساخرا كما في (العودة إلى كاليفورنيا)، و(استراحة الخميس).. فهل تتفق معي أن تحولا طال القصيبي المؤلف والمبدع منذ تلك المرحلة فغدا اليوم أقرب إلى الكاتب الموسوعي المستعصي على التصنيف؟ وإن اتفقت فهل هو تحول يرتبط بالسفارة، أم بالأزمة، أم بعوامل أخرى؟
أنت تتحدث عن "ظاهرة القصيبي" وسامح الله أول من كتب عنها، الصديق الأستاذ خالد القشطيني منذ سنوات طويلة، ثم تابعه آخرون. حقيقة الأمر أنني أعتقد أنه لا توجد ظاهرة. لا أرى في وجود إنسان يكتب شعراً ونثراً ويتولى منصبا إداريا أمرا خارقا أو استثنائيا. وتاريخنا مليء حتى التخمة بنماذج كهذه. ربما كانت الظاهرة الحقيقية هي تقلص عدد هذه النماذج في وقتنا المعاصر. أنا لا أعرف، على وجه التحديد، ما حدث خلال الأزمة التي تتحدث عنها، ولكني أعرف شيئا أكثر أهمية. كانت فترة السفارة في البحرين فترة غنية جدا من الناحية الفكرية كان بوسعي لأول مرة، أن أنظم مكتبتي، وأن أضم إليها كتبا كثيرة وكان بوسعي لأول مرة أن أخصص جزءا كبيرا من وقتي للقراءة والكتابة (وأنا من الذين يؤمنون أن عليك أن تقرأ مئة صفحة قبل كتابة صفحة واحدة!). لا بد أن هذه القراءات الواسعة ظهر أثرها على نحو وآخر في الفترات اللاحقة. ربما أظهرت الأزمة جوانب مني لم تكن واضحة من قبل ولكن الأزمة لم تخلق شيئا من العدم. التحول الذي يلفت الأنظار في لحظة تاريخية معينة يندر أن يكون وليد اللحظة. الأغلب أنه ظل ينمو، في مكان ما من الأعماق، حتى جاءت تلك اللحظة لتكشف عنه.

إذا اتفقت معك على أن المرء ـ كما تقول ـ تكتمل قناعاته عند الثلاثين من عمره، وإذا قسمت مراحل دراستك بين المنامة، والقاهرة، وكاليفورنيا، ولندن، فهل من الصواب القول إن المرحلة المصرية هي الأكثر تأثيرا في قناعات غازي القصيبي، وأحد مؤشرات ذلك هو الظهور المتكرر في رواياتك لأسماء مصرية مثل عبد الناصر والسادات وهيكل وأم كلثوم، بل وهل لتلك المرحلة علاقة في إذكاء روح السخرية وتنمية مهارة النكتة لديك؟
كنت أتحدث عن المعتقدات السياسية والاجتماعية عندما تحدثت عن سن الثلاثين. وأنا أتفق معك أن لكل مرحلة من المراحل الثلاث ـ المصرية والأمريكية والبريطانية ـ تأثيرها العميق لا فيما يتعلق بالجانب الثقافي وحده بل بجوانب سياسية واجتماعية وحياتية متعددة. إلا أن التأثير لا يمكن قياسه على النحو الدقيق الذي تضمنه السؤال. يمكن أن أكتب اليوم شيئا تعود أصداؤه إلى المرحلة المصرية ـ بعد انتهائها بعقود طويلة ويمكن أن يظل التأثر في الداخل لا ينعكس على أي عمل أدبي. إن عملية التأثر عملية نفسية معقدة وليس بوسعي أن أضعها في الإطار المريح الذي تود وضعها فيه..... مرتبة حسب المراحل.

بمناسبة المراحل، هل إلى المرحلة الأمريكية يعود اهتمامك بالأرقام والتحليلات العلمية التي تعالج الظواهر الإنسانية بشكل لا يتجاوز سطحها البادي لنا، وهل إلى المرحلة البريطانية يعود حرصك على التمثل بالأقوال الغربية في كتاباتك المختلفة؟
فكرة المراحل فكرة جيدة تساعد على التحليل ولكنها لا تستطيع شرح كل شيء، ولا معظم الأشياء. كنت أقرأ عن مصر قبل ذهابي إلى مصر وبعد رحيلي عنها والأمر نفسه ينطبق على الولايات المتحدة وبريطانيا. منذ زمن والأسوار الفكرية بين عواصم الفكر تتهاوى : ليس من الضروري لمن يريد أن يتابع الأدب البريطاني أو الأمريكي أن يسكن في بريطانيا أو الولايات المتحدة. وأنا أتمثل بالأقوال الغربية (بعضها!) منذ دراستي الثانوية "أما التحليلات العلمية بشكل لا يتجاوز سطحها البادي لنا" فلم أسمع عنها إلا منك أنت!

في كتاب (حياة في الإدارة) عرضت لتجربتك إبان عمادة كلية التجارة، وأنا أحد الذين فوجئوا بالمناخ الجامعي الذي صورته لتلك المرحلة المبكرة في التعليم العالي في السعودية، إذ عرفت وجيلي الحاضر تجربة شديدة الاختلاف، فقد غدت الصحافة الجامعية جزءاً من أجهزة العلاقات العامة التابع لإدارات الجامعات، وتوارى المسرح ولم يعد العميد يكتب المسرحيات! وانهار الاستقلال بما يدعمه من حرية ويفرزه من نقد على مستوى الجامعات، والكليات، والطلاب.. في رأيك لماذا وصلنا إلى هنا؟
في مقالة صغيرة لي، في كتاب "100 ورقة ورد"، أرجعت الكثير من الظواهر الاجتماعية والسياسية والفكرية إلى قانون المد والجزر. مع المد تجيء أشياء كثيرة جدا لا يعرف أحد من أين جاءت ومع الجزر تختفي أشياء كثيرة جدا لا يعرف أحد أين ستذهب. المد عندما يجيء قد يحمل معه روحا من الحرية ما تلبث أن تختفي مع الجزر في الجامعة كما في العالم الواسع يجيء مد ويذهب به جزر ومد اليوم قد يتحول إلى جزر الأمس والعكس بالعكس هذا بالتأكيد ليس تحليلا شافيا ولكنه بداية الطريق إلى مثل هذا التحليل.

خصصت خمسة فصول للشأن الإعلامي في كتاب (أمريكا والسعودية.. حملة إعلامية أم مواجهة سياسية)، فضلا عن "مفرقعات الأثير" ضمن كتاب (أزمة الخليج محاولة للفهم)، غير أني ما زلت أطمح إلى رأي أكثر مباشرة وحداثة حول أداء الإعلام السعودي، بوضوح هل خيب الإعلام في السعودية ظنك في الأزمة التي طرأت بوقوع أحداث أيلول (سبتمبر)؟

لا أعتقد أني غلفت رأيي في الإعلام السعودي (أو في موضوع آخر!) في الكتابين اللذين أشرت إليهما بأي رداء من التقية. قلت إن الإعلام السعودي ظل مرتبكا ومصدوما وحائرا فترة طويلة بعد احتلال الكويت، وأخشى أن الأعراض نفسها لازمته بعد أحداث نيويورك. الإعلام وجه من وجوه الحياة في المجتمع ولا يمكن أن يكون لدينا إعلام ناضج في مجتمع غير ناضج أو إعلام غير ناضج في مجتمع ناضج. ومجتمعنا، رغم دعاوينا العريضة، لا يزال في كثير من نواحي حياته وإدارة أموره ومؤسساته في مرحلة النمو وهذا شيء لا يعيبه. معظم مؤسساتنا لم تبلغ مرحلة النضج، والإعلام ليس سوى مؤسسة من هذه المؤسسات. لقد أصبح الإعلام أكثر تحررا وهذه ظاهرة واضحة حتى لقصيري النظر، إلا أنه لم يصبح أكثر نضجا. آمل تقوده المراحل المقبلة إلى النضج.

كنت من أوائل من حذّروا من خطورة مد "الصحوة"، وأشرت في كتاب "حتى لا تكون فتنة" إلى أن الطمع في تولية الفقيه هو غاية المد ومبتغى رواده.. واليوم وبعد أن أفرز ذلك المد ما يتجاوز خطاب الإرهاب من تفجير وتدمير.. أريد أن أسألك في رأيك لماذا كانت الفتنة؟ وهل كان بالإمكان تفاديها؟
عزيزي المحارب! لكلٍّ من اسمه نصيب أنت تريد استدراجي إلى حرب خضتها مرة، ولا توجد لدي رغبة في خوضها مرة ثانية. إذا أردت أن تفهم جذور ما سمي بالصحوة وبذورها فلا تجئ إليّ. كنت أيامها سفيرا في البحرين، لدي اهتمامات كثيرة ليس من ضمنها رصد ما كان يدور تحت السطح من تيارات في الوطن. إذا أردت فهم هذه الفترة فهما حقيقيا فاذهب إلى الشباب الذين عاصروها وكانوا جزءا منها وقضوا أحلى سنوات عمرهم في أحضانها ـ ثم اتضحت أمامهم الرؤية فكتبوا عنها بكثير من العاطفة وكثير من الصدق. وفي هذا المجال لا أجد دليلا يقودك إلى أعماق الظاهرة أفضل من الكتاب النادر جدا "الإرهابي رقم 20" للإنسان النادر جدا عبد الله ثابت.

التعليقات

جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف