كي لا يتحوّل لبنان إلى عراق آخر!
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على إنستجرام
إضغط هنا للإشتراك
محمد الرميحي
لا اعرف من قال الفكرة الآتية وهي أن الله خلق لبنان فحسده العالم ولكنه خلق اللبنانيين بعد ذلك فتنفس العالم الصُعداء، على أساس أنه لن تكون الجنة الموعودة. والرمز واضح وهو الفرق بين الطبيعة اللبنانية الساحرة وبين نشاط السياسيين اللبنانيين الذين تبلور بينهم عداء مستحكم، فجمال لبنان يقابله سوء أعمال بعض السياسيين إلى درجة نفور المواطن من الوطن.
سياسيو لبنان لا يدركون - وهنا اجزم وأعمم - الاثر الذي يتركه "نقُهم" على بعضهم على مصالح وحياة المواطن اللبناني العادي. انه "نق" يعطل الاقتصاد اللبناني بكامله ويضاعف اكلافه ويدفع كثيرين من أهل لبنان إلى الفقر والحاجة والهجرة، كل ذلك على حساب أولئك البسطاء من الناس، كما يدفع محبي لبنان إلى هجره والتفكير في غيره. كثيرون من السياسيين لا يعرفون مدى تأثير هذا "النَّق" على سمعة لبنان الدولية والإقليمية، ففي وقت ما ليس ببعيد سوف يُترك لبنان للبنانيين بالمعنى المجازي للكلمة، أي ستترك الجنة للشياطين.
حتى الآن هناك محاولات ربع ساعة الأخيرة قبل أن يتحول لبنان إلى عراق آخر، مع فارق واحد أن للبنان حدودا مع إسرائيل، والعراق ليس كذلك، وهو يعني تدميرا خالصا لكل ما هو لبناني.
السياسيون اللبنانيون لا يريدون أن "يجيبوها الأرض" على حد التعبير الدارج، فلا هم مقدمون على حرب أهلية تدمر لبنان عن بكرة أبيه ولا تترك حجرا قائما فيه على حجر، ولا هم قادرون على التوافق الصحي والصحيح، حتى يظل لبنان منارة ومثالا للتوافق الايجابي.
حقيقة الأمر أنه ليس هناك خيار ثالث بين إنعاش لبنان أو خرابه، وكلاهما بيد اللبنانيين فعلا لا قولا مهما قيل في تحليلات بعضهم. ان الموضوع "إقليمي" وليس محليا. هو إقليمي حقيقة متى ما ارتهنت الأطراف اللبنانية للمثيرات الإقليمية، ولكنه لبناني صرف في البداية والنهاية. وإلا لماذا لا تتكون مثل حالة الاستقطاب هذه في بلد مثل الأردن، وهو بلد صغير وتعددي، وقريب من لهيب حمم التقاذف الإسرائيلي الفلسطيني؟ أو في بلد مثل تونس، وهو أيضا بلد صغير الحجم وتعددي؟ تلك أمثلة فقط واقصد القول إن حالة الاستقطاب الإقليمي في لبنان لها اسبابها الداخلية اللبنانية أولا لا غير، فالتكوين الداخلي قابل للاستقطاب، ولم تعد بعض أطراف اللعبة اللبنانية مستقرة على مقولة إن لبنان وطن نهائي ودائم لها، اذ في ذهنها لبنان آخر متخيل.
ليس لمثلي أن يزايد على "بحر" التحليلات اللبنانية، ففي بضعة أيام في بيروت العاصمة المدنية التي "تتضيع" بمعنى أنها تتقبل وبسرعة أخلاق الضيعة، في تلك المدينة وجدت أن عوامل الطرد أكثر بكثير من عوامل الجذب. حقيقة الأمر أن لبنان يخسر كثيرا في هذه المراوحة وعلى رأس ما يخسره أن يخسر نفسه.
لبنان لبعضنا هو منبر الثقافة العربية، فلا تجد كتابا اليوم فيه من المراجع أكثر من خمسة وعشرين حتى تجد أن نصفها على الأقل طبع في لبنان، ولا توجد محطة تلفزيونية عربية إلا وتجد أن فيها عددا من اللبنانيين، أما الصحافة العربية فإنها نشأت وما زالت تتغذى في معظمها من المداد اللبناني. على مقلب آخر لا توجد خريطة عمارة أو بناء منزل إلا وفيه لمسات يد لبنانية.
في لبنان اليوم تجد العجب السياسي، فإذا مدحت الإدارة الأميركية حكومة السيد فؤاد السنيورة، فان أقلاما كثيرة ستسطر في اليوم التالي أن هذا المديح من الأميركيين هو "دليل عمالة" لا يرقى إليها الشك لهذه الحكومة، والعكس غير صحيح، فان الافتراض أنه لو انتقدت الإدارة الأميركية تلك الحكومة، فان هذه الأقلام نفسها ستأخذ ذلك دليلا على ضعف وخوار الحكومة. المقصد هنا أن الموقف سياسي لا أكثر.
بعد أن خاض لبنان، كل لبنان، حربا شعواء قاسية، أصبح في مواجهة نتائجها. تلك هي القاعدة الأصل في التجاذب اللبناني الذي نسمعه ونراه اليوم. هناك فريق يرى عن حق أن الحرب كلها "غامرت بلبنان" وأدخلته مدخل المهالك ولم تحقق "نصرا"، وفريق آخر يرى "أن الحرب أدت إلى انتصاره" وان المنتصر عادة يفرض شروطه. الفرق بين الفريقين أن الثاني يملك شارعا متحفزا وايديولوجيا وسلاحا فتاكا، والأول يملك الرغبة في السلام والتنمية، ويملك سلاحا هو للدولة "محجور" عليه استخدامه حتى لفرض هيبة الدولة، ان كانت لها هيبة! بين هذين الفريقين تتعدد المواقف في داخلهما، فهناك من يساير الفريق الثاني اقتناصا لفرصة سياسية يرى أنها وشيكة مثل تبوؤ رئاسة الجمهورية، وهناك من يساير الطرف الأول حبا في تأكيد زعامة لا تتأكد إلا بالدخول في ذلك التحالف الواسع.
إذا بدأنا بالطرف الثاني وقوته الرئيسية هو "حزب الله"، فعلى رغم الاعتراف بقدرة "الممانعة" التي أبداها في حرب الثلاثة وثلاثين يوما، إلا أن أفق تطوير موقفه العسكري ومن ثم السياسي محدود. هو مثال ليس بجديد، فهناك مثال صارخ مشابه حولنا وهو الحرب ضد السوفيات في أفغانستان. وقتها كان للطرف الغربي وباكستان (تحالف الرافضين للتدخل السوفياتي) مصلحة في قيام مقاومة من نوع ما، وما أن ظهر "المجاهدون" على السطح حتى تم احتواؤهم وتشجيعهم، إلا أن هذا التشجيع كان محدودا بقدر. ونعرف الآن انه حتى الأسلحة المضادة للدروع التي زودوا بها كانت منزوعة المناظير، أما صواريخ "ستنغر" الأميركية المحمولة (لإسقاط الطائرات) فقد دخلت الخدمة في المرحلة الأخيرة من النزاع وبشكل محسوب بدقة، حتى قيل إن عددها كان معروفا بالضبط وعدد ما أطلق منها أيضا كان معروفا. الدرس هنا هو أن أية قوة إقليمية مزودة لـ "حزب الله" بالعتاد (ومن ثم بالمال) لها أجندتها. هذه الأجندة تقصر عن تقديم "صواريخ مضادة للطائرات" مثلا لـ "حزب الله" رغم وجودها، بل رغم القدرة على إخفائها أكثر من بعض أنواع الصورايخ التي تطلق من الأرض إلى الأرض! لان ذلك له حسابات أخرى، وهي حسابات تصل إلى حد "تهديد" إسرائيل من دون إيصالها إلى درجة "الغضب المطلق".
مثل ما كانت للاستخبارات الباكستانية رؤيتها وأجندتها، كذلك لمزودي "حزب الله" بالسلاح وربما بالمال أجندة قد تتفق مع الحزب جزئيا في المرحلة الحالية، ولكنها قد تختلف في مرحلة لاحقة. والسؤال هل خراب لبنان يتفق مع تلك الأجندة؟ يبدو للمراقب أن "خراب لبنان" وسقوط الدولة وتفتتها على ارض "الخلاف الداخلي الصعب" تعطل الكثير من أجندة الأطراف الممولة بالسلاح والمال لـ "حزب الله"، لانه في ذلك الوقت لن تجد المقاومة جبهة واحدة أمامها بل عددا من الجبهات، تمسي بعدها أمام خطأ فادح لا يعوض، حيث أنها، أي "المقاومة" تعود مكشوفة "للعدو" من دون سند سياسي مقبول، كما حصل في تموز (يوليو) الماضي، حيث شكلت حكومة السنيورة القوة السياسية الناجحة ضد توسيع التخريب الإسرائيلي.
إذا كان التآلف بين المجموعات البشرية المختلفة يحتاج إلى قوة إرادة وطول بال وصبر، فان التآلف بين اللبنانيين يحتاج إلى أكثر من ذلك، يحتاج إلى وصول الأطراف إلى قناعة مشتركة وعامة، هي أن تفجير الموقف هو أسهل الطرق، فقد حدث ذلك منذ سنوات قليلة وخسرت كل الأطراف، وعندما تصمت المدافع وكواتم الصوت بعد أن تزأر، تتبين للجميع مرة أخرى فداحة وكلفة ما ارتكب. وقتها لن ينفع أي ندم، إلا أن المستحيل الثامن اللبناني يتمثل في أن لا الحرب ولا السلم ممكنان أو في الأفق، وسيظل "النّق" بين السياسيين مستمراً حتى يستنزف لبنان خيراته البشرية والمادية، ولا عزاء للبنانيين.