رامسفيلد وبوش ولعنة العراق
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال تطبيق تلغرام
إضغط هنا للإشتراك
د. عبدالإله بلقزيز
ذهب دونالد رامسفيلد إلى غير رجعة. أما رئيسه فسيظل رابضاً على قلوب الأمريكيين والبشر جميعاً لعامين مقبلين، ذهب رامسفيلد ويداه ملطختان بدماء مئات الآلاف من البشر في العراق وأفغانستان وفلسطين ولبنان. لن يتذكره أحد إلا كرمز من رموز القتل والإبادة الذي تتضاءل أمام تراثه الدموي مساهمات كبار مجرمي الحرب في التاريخ الإنساني الحديث. ذهب وقد تقلد أوسمة الاستحقاق التي حملت اسماء متعددة: الفلوجة، النجف، أبوغريب، جوانتانامو، جنين، قانا. أما رئيسه فباقٍ لعامين مقبلين قبل أن يلحق به.
يعترف جورج بوش بأن هزيمته في العراق هي التي ألحقت به وبسياسته وبحزبه هزيمة في أمريكا، وإلا ما معنى إقالة وزير العراق في إدارته ldquo;رامسفيلدrdquo;؟ قبل ذلك صرح بأن أمور سياسته وعسكره ليست على ما يرام في بلاد الرافدين، وذهب به بعض نَفَسٍ من ldquo;الشجاعةrdquo; إلى تشبيه المأزق الأمريكي في العراق بسابقه في فيتنام.
لكنه - راكباً عناده- تمسك بوزيره رامسفيلد ودخل الانتخابات النيابية النصفية متأبطاً اسمه قبل أن يسدد ldquo;الديمقراطيونrdquo; صفعتهم للإدارة، وحزبها الحاكم في اليوم الثامن من الشهر الحادي عشر من العام ،2006 وحين أرغم على التضحية بوزير جوانتانامو وأبي غريب، فعل ذلك ممتثلاً لأمر سياسي من سيدة مجلس النواب (الديمقراطية) نانسي بيلوسي: هذه المرأة التي سيتعود- منذ صباح 9/11/2006 على أن يخشاها ويحسب لها الحساب لئلا تأتي به وبأركان إدارته إلى المحاسبة التشريعية.
من حسن حظ جورج بوش أن هزيمته النكراء لم تكن رئاسية بل تشريعية، وإن كانت هذه، في نتائجها المادية، تضرب أصفاداً على سياسة البيت الأبيض الطليقة وتفرض على الرئيس تعايشاً صعباً مع فريق سياسي لا يخفي رغبته في محو آثار حقبة بوش في التاريخ الأمريكي المعاصر. وإذا ما أضاف المرء إلى ذلك أن شعبية هذا الرئيس تدهورت إلى درك سفلي لم تبلغه شعبية رئيس أمريكي قبله، وان الرأي العام الأمريكي مستنفر ضده منذ فترة سابقة لهزيمة حزبه في انتخابات الكونجرس، اجتمعت الأسباب كافة للاعتقاد بأن ما تبقى من فترة رئاسية لن يضع تحت تصرف بوش فرصاً وافرة لاستئناف ما دشن به عهده من سياسات داخلية وخارجية، وهو أقل القليل المتوقع إن لم يكن منتظراً إجراء تعديلات ldquo;حاسمةrdquo; في تلك السياسات امتثالاً للضغط التشريعي ldquo;الديمقراطيrdquo; في مجلسي الكونجرس.
لقد عاقب الأمريكيون رئيسهم على كل شيء أتاه من السياسات ودفع حزبه الثمن. عاقبوه على سياساته الضريبية المنحازة للأغنياء، على عدوانه المتمادي على الحريات المدنية في المجتمع الأمريكي تحت عنوان ldquo;مكافحة الإرهابrdquo;، على التدخل في سلطات القضاء وحرمته واستقلاله، على تضخيمه موازنة الدفاع على حساب برامج التنمية الاقتصادية والاجتماعية، على تقاعس إدارته في مواجهة كارثة إعصار ldquo;كاتريناrdquo;، على ممارسته السلطة المطلقة مستفيداً من ldquo;فراغ تشريعيrdquo; ومن تهميش لآلية الرقابة والمساءلة (بسبب سيطرة حزبه على المجلسين في الكونجرس)، على تلويثه سمعة أمريكا في العالم بفضائح سجني أبي غريب وجوانتانامو (إلى الحد الذي دفع الرأي العام البريطاني- الأقرب مزاجاً إلى الأمريكيين- إلى اعتبار جورج بوش الأكبر خطراً على السلام والأمن في العالم)، ثم عاقبوه على إصراره الشديد على الاحتفاظ بأشخاص في إدارته من طراز رامسفيلد وتشيني، لكن العقاب الأكبر كان على حربه على العراق والثمن الذي دفعته أمريكا من هذه الحرب.
لا يتزيد المرء حين يقول إن المقاومة العراقية هي الناخب الأكبر في انتخابات الكونجرس النصفية، هي من حاكم سياسة الجمهوريين وأودى بسلطانهم في الولايات المتحدة بإطلاق فعل التصويت ضدهم، أنضجت هزيمتهم بالتدريج: يرتفع معدل قتلى الأمريكيين فينخفض معدل شعبية رئيسهم وحزبه، تتزايد طلباته للكونجرس (الجمهوري) بالموافقة على اعتمادات مالية إضافية لتغطية نفقات الحرب في العراق، فتتزايد درجة النقمة والاحتجاج لدى الرأي العام الأمريكي، يفاخر جيش رامسفيلد بأنه قتل الزرقاوي وأنهى تنظيم ldquo;القاعدةrdquo; فيرتفع معدل عمليات المقاومة الوطنية ليرتفع معها عدد قتلى جيش الاحتلال، يعلن كل يوم أن القوى ldquo;النظاميةrdquo; العراقية باتت مؤهلة لحمل المهمات الأمنية عن القوات الأمريكية، فتغرق بلاد الرافدين في بحر من الدماء، ينتقل ذلك كله إلى الداخل الأمريكي وتناقضاته، تجد فيه المعارضة ldquo;الديمقراطيةrdquo; مادة دسمة للتوظيف ضد البيت الأبيض وحزبه فتنجح مستثمرة اهتراء صورة الإدارة في الإطاحة بالحزب الحاكم.
حين أدرك جورج بوش أن هزيمته الداخلية صنعت في العراق، تصور أن التضحية بوزيره في الدفاع قمين بأن يمسح الهزيمة ويقود إلى تليين موقف الكونجرس الجديد أو إلى تلميع صورة الجمهوريين تمهيداً للانتخابات الرئاسية المقبلة (بعد عامين) ومع أن رامسفيلد من الفظاظة والوحشية بحيث لا يقارن إلا بارييل شارون، إلا أن إخراجه من السلطة في واشنطن ليس حلاً كافياً لمأزق رئيسه وحزبه وللمستقبل الغامض لهذا الأخير في انتخابات الرئاسة المقبلة. ذلك أن رامسفيلد ليس في المطاف الأخير أكثر من موظف تنفيذي في إدارة سياسية لا رؤية لها حول العراق. إدارة تكابر وتكابر وهي عليمة بأن سياستها مهزومة في بلاد الرافدين سواء نفذها رامسفيلد أو غيره.
ليس إخراج رامسفيلد من البنتاجون هو المدخل إلى خروج أمريكا من لعنة العراق. المدخل إلى ذلك هو إخراج الجيش الأمريكي المحتل.