مسألة الاستطاعة في علم الكلام.. جهلها البابا أم تجاهلها؟!
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على إنستجرام
إضغط هنا للإشتراك
الثلاثاء: 2006.11.14
د. محمد عابد الجابري
قال البابا في خطابه: "وقد لاحظ البروفسور تيودور خوري (ناشر حوار الإمبراطور البيزنطي مع العالم الفارسي) أنه بالنسبة لهذا الإمبراطور الذي تكون عقله في أحضان الفلسفة الإغريقية، فإن هذا الذي قاله هو شيء بديهي (يعني قوله: "الفعل الصادر وفق العقل لا يخالف طبيعة الله، أما التعاليم الإسلامية فهي تقرر أن الله مُتعالٍ بشكل مطلق، وبالتالي فإرادته لا تخضع لتحديدات عقلنا نحن ومقولاته، بما في ذلك مقولة المعقولية").
من المؤسف حقاً أن يكون جميع ما حكاه البابا في هذه الفقرة هو من الأخطاء التي لا يمكن تفسيرها بشيء آخر غير النقص في المعرفة، وقد نعتذر له في ذلك باعتبار أنه نَقَل ما ذكره عمن يفترض فيهم الاطلاع على الموضوع. غير أن مما يضعف اعتذارنا أن البابا يعرف -وهو عالم لاهوت- أن المسألة المطروحة هنا هي، في جميع الديانات، من أهم القضايا اللاهوتية (أو الكلامية بالاصطلاح الإسلامي) كما أنها من أصعب القضايا الفلسفية، وبالتالي لا يجوز الخوض فيها بدون تدقيق وتمحيص.
لقد عرفت هذه القضية في المؤلفات الإسلامية -في "علم التوحيد"، أو "علم الكلام"، وكذا في "علم التفسير" و"علم الأصول"- باسم "مسألة الاستطاعة"؛ ويعبر عنها بلغة الجمهور بالتساؤل التالي: "هل الإنسان مُسيَّر أم مُخيَّر؟". وعنصر الإشكال في هذه المسألة يتمثل في القضية التالية وهي أننا كلما وسعنا من دائرة الحرية والإرادة والاستطاعة في المجال البشري بدا ذلك وكأنه قد تم على حساب الحرية والإرادة والاستطاعة (أو القدرة) في المجال الإلهي، والعكس بالعكس: فالقول بأن الله مطلق الحرية والإرادة... الخ يؤدي عند بعضهم إلى أن الإنسان مُجبر مُسير، وهنا تطرح مسألة المسؤولية والثواب والعقاب. أما القول إن الإنسان حُر ومريد لما يأتيه من الأفعال فيلزم عنه أنه "خالق" لأفعاله وأنه لذلك مسؤول عنها.
والنزاع حول هذه المسألة في الفكر الإسلامي هو أساساً بين المعتزلة والأشاعرة. غير أن المسألة ليست مجرد مسألة نظرية كلامية، فهي لم تصبح كذلك إلا في مرحلة متأخرة. أما في الأصل فهي تعبير بالمصطلح الديني عن قضية سياسية. ولذلك فضلنا ونفضل طرحها انطلاقاً من تاريخها السياسي، إذ بدون استحضار خلفياتها السياسية سيبقى الحديث عنها لا معنى له. وفيما يلي مقتطفات مما سبق أن كتبناه في هذه المسألة.
عندما تمكن معاوية بن أبي سفيان من انتزاع الخلافة بالقوة من علي بن أبي طالب، لم يجد ما يبرر به مشروعية عمله ذاك غير القول: إن ذلك كان في سابق علم الله، أي كان قضاء وقدراً من الله. وهكذا أسس معاوية لفكر الجبر في الإسلام. وكان من الطبيعي أن يتمسك بهذه الفكرة خلفاؤه من بعده ومعهم المؤيدون لهم والخائفون من بطشهم، والطامعون في أعطياتهم من جهة، وأن يعترض عليها منافسوهم ومعارضوهم من جهة ثانية. وكان من أوائل الذي اعترضوا على هذا "الجبر الأموي" شخص من حاشيتهم اسمه غيلان الدمشقي وكان يحظى بعطف وتقدير الخليفة الأموي عمر بن عبدالعزيز. فكتب إليه غيلان رسالة يعظه فيها كان مما ورد فيها، في الاعتراض على دعوى معاوية بأن الله هو الذي أراد له ما قام به من عسف وغصب للسلطة، قوله: "فهل وجدت يا عمر حكيماً يعيب ما يصنع، أو يصنع ما يعيب، أو يعذب على ما قضى، أو يقضي ما يعذب عليه؟ أم هل وجدت رشيداً يدعو إلى الهدى ثم يضل عنه، أم هل وجدت رحيماً يكلف العباد فوق الطاقة ويعذب على الطاعة؟ أم هل وجدت عدلاً يحمل الناس على الظلم والتظالم. وهل وجدت صادقاً يحمل الناس على الكذب أو التكاذب بينهم؟" (ابن المرتضى ص16).
وانتشر هذا النوع من "الكلام" في الرد على الجبر الأموي، وحدَّثَ به عالم كبير محترم من الجميع هو الحسن البصري فكتب إليه الخليفة الأموي عبدالملك بن مروان يطلب منه مستنده الشرعي في القول بـ"القدر" أي بقدرة الإنسان على إتيان أفعاله بحريته واختياره، فرد عليه الحسن برسالة مما جاء فيها قوله: "فافهم أيها الأمير ما أقوله: فإن ما نهى الله عنه فليس منه، لأنه لا يرضى ما يسخط من العباد، فإنه تعالى يقول : "ولا يرضى لعباده الكفر وأن تشكروا يرضاه لكم" (الزمر 7)؛ فلو كان الكفر من قضائه وقدره لرضي ممن عمله"! ثم يضيف قائلاً: "والقوم ينازعون في المشيئة، وإنما شاء الله الخير فقال تعالى: "يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر" (البقرة 185). (نفس المرجع. ص 82-89).
وسيقوم واصل بن عطاء بالتنظير لـ"الكلام" المعارض للجبر الأموي وسيختلف مع أستاذه الحسن البصري في مسائل جزئية فيعتزل عنه فسمي هو وأصحابه بالمعتزلة. وقد حفظ لنا الشهرستاني بعض ما كان واصل يقرره في مسألة الجبر والاختيار. من ذلك قوله: "كان واصل بن عطاء يقول: إن الباري تعالى حكيم عادل لا يجوز أن يضاف إليه شر ولا ظلم ولا يجوز أن يريد من العباد خلاف ما يأمر، ويحتم عليهم شيئاً ثم يجازيهم عليه. فالعبد هو الفاعل للخير والشر والإيمان والكفر والطاعة والمعصية، وهو المجازَى على فعله، والرب تعالى أقدره على ذلك... ويستحيل أن يخاطب -الله- العبد بـ"افعل" وهو لا يمكنه أن يفعل ولا هو يحس من نفسه الاقتدار والفعل. ومن أنكره فقد أنكر الضرورة (=العقلية: المنطق). واستدل بآيات على هذه الكلمات" (الشهرستاني. الملل والنحل ج1 ص 47).
كان واصل بن عطاء من أبرز مؤسسي مدرسة المعتزلة التي عرفت باسم "القدرية" لقولها بقدرة الإنسان على إتيان أفعاله بحرية واختيار. وقد طور متأخروهم نظرية واصل فميزوا في الأفعال بين ما يجب أن ينسب إلى إرادة الإنسان واختياره وبين ما يجب أن ينسب إلى الله. والقاعدة في ذلك عندهم "أن ننظر في الفاعل ونختبر حاله، فإن وجدنا الفعل يقع بحسب قصده ودواعيه وينتفي بحسب كراهته وصارفه حكمنا بأنه فعل مخصوص"، أي أنه مخلوق له، وأن الله قد خلق فيه القدرة على فعله. أما إن وجدنا أن الفعل "لا يجوز أن يكون مقدوراً للإنسان بالقدرة فيجب أن يكون مقدوراً للقادر بذاته وهو الله تعالى". وهكذا فالسكون والحركات على اختلاف أجناسها والاعتمادات (الاهتزازات) على اختلافها والمتولدات كالتأليف والألم والصوت والكلام وكذلك النظر والندم والاعتقادات المبتدأة والظن، كل ذلك يقع بقصد الإنسان ودواعيه وهي مقدورة له بالقدرة التي يُحْدِثُها الله فيه، وبالتالي فهي أفعال له. أما الروائح والطعوم والألوان والحرارة والبرودة.... فهي غير مقدورة للإنسان بمعنى أن الله لم يمنحه القدرة على إحداثها وبالتالي فلا يستطيع فعلها وإنما هي من خلق الله مباشرة (القاضي عبدالجبار "شرح الأصول الخمسة" ص 325).
ويتصل بهذه المسألة قولهم بالعدل الإلهي بمعنى أن الله "مُنزه أن يضاف إليه شر وظلم، وفعل هو كفر ومعصية، لأنه لو خلق الظلم كان ظالماً، كما لو خلق العدل كان عادلاًrlm;". ومن هنا قالوا: أن الله لا يفعل إلا الصلاح والخير و"يجب عليه"، من حيث الحكمة، رعاية مصالح العباد". أي أن كونه موصوفاً بالحكمة يقتضي ضرورة ألا يفعل إلا الصلاح، وبعضهم قال: "الأصلح". كما قالوا بوجوب تنفيذ وعده ووعيده: فـ"المؤمن إذا خرج من الدنيا على طاعة وتوبةrlm;:rlm; استحق الثواب، والعوض والتفضل معنى آخر وراء الثواب (أي زيادة عليه). وإذا خرج من غير توبة عن كبيرة ارتكبهاrlm;:rlm; استحق الخلود في النار لكن يكون عقابه أخف من عقاب الكفارrlm;.rlm; وسموا هذا النمطrlm;:rlm; وعداً ووعيداً"rlm;.rlm; كما "اتفقوا على أن أصول المعرفة وشكر النعمةrlm; واجبة قبل ورود السمع (قبل سماع دعوة الأنبياء) والحسن والقبح يجب معرفتهما بالعقل، واعتناق الحسن واجتناب القبيح واجب كذلك"rlm;.rlm; أما وُرود التكاليف الشرعية فهي ألطاف للباري تعالى أرسلها إلى العباد بتوسط الأنبياء عليهم السلامrlm;:rlm; "امتحاناً واختباراً،rlm;rlm; ليهلك من هلك عن بينة ويحيا من حيي عن بينةrlm;"rlm;rlm;.rlm;
وبعد، أليس ما سبق، وهو مجرد نقطة من بحر، دليلاً على خطأ -حتى لا نستعمل كلمة أخرى- ما حكاه البابا من القول عن العقيدة الإسلامية إنها تقرر أن إرادة الله "لا تخضع لتحديدات عقلنا نحن ومقولاته"؟
نعم هناك مخالفون لوجهة نظر المعتزلة، غير أن مخالفة هؤلاء هي أيضاً مبنية، وبنفس القدر، على "تحديدات عقلنا ومقولاته"، كما سنرى في المقال القادم.