حكومة «حيص بيص» في لبنان
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على إنستجرام
إضغط هنا للإشتراك
سوسن الأبطح
بقيت الآنسة كوندوليزا رايس تدعم حكومة فؤاد السنيورة، حتى مزقتها إرباً. وما هو جلي بالعين المجردة اليوم، ان ما تحبه اميركا، بات يحذره الناس كما الوباء. وما كان لقوى "14 آذار" ان تنتهي إلى مجموعة تهدد بالتظاهر في الشوارع بعد أن كانت منذ سنة فقط، سلطة تحكم وتتسيد مدعومة بغالبية اللبنانيين من كافة الملل والنحل، لولا هذا الدعم العلني الأميركي "سيئ السمعة" والدسّ من تحت الطاولة. وزاد الطينة بلة، أن تواصل إدارة البيت الأبيض بعد مأساتها الانتخابية، وانهيارات لبنان الدراماتيكية، تصعيدها ضد "حزب الله"، معتبرة اياه بأنه "يواصل العنف في شتى أنحاء العالم"، رغم ان أي أبله يعرف أنها مجرد تهمة ملفقة، إلا ان الإدارة الرشيدة تأبى إلا ان تمعن في التخريب، حتى وهي تلفظ أنفاسها الأخيرة. سورية تريد أن تستأثر بلبنان، ولم تقبل يوماً بأن يكون وطناً سيداً، هذا من المسلمات، وأنها بمساعدة أذرعها الفاعلة في الداخل تحاول ان تعيد قبضتها على الوطن المستضعف، وأن تناوش أو تغازل إسرائيل من جنوب لبنان، وتفرض نفسها قوة إقليمية على حساب اللبنانيين. هذا ليس اكتشافاً مسجلاً باسم قوى "14 آذار"، ويعرفه اللبنانيون صغارهم قبل كبارهم.
لكن المعضلة في أن يدفع لبنان ممزقاً بين الموالاة والمعارضة ثمن القطيعة الغربية ـ السورية، والتوتر الإيراني ـ الأميركي، من لحم اطفاله، في الوقت الذي تراجع فيه اميركا سياسة تجاهل الدور السوري بعد تقرير جيمس بيكر، بسبب حاجتها إليه في العراق، ويتحدث المرشحون الرئاسيون إلى الانتخابات الفرنسية، هذه الأيام، بكل عزم، عن رغبتهم في إعادة عرى الحوار إلى سابق عهده مع دمشق. لا بل إن مرشحي الحزب الاشتراكي الرئاسيين وبالإجماع، خلال حوار تلفزيوني الأسبوع الماضي، وعلى رأسهم سيغولان رويال، اعتبروا ان مقاطعة فرنسا لسوريا كانت خطأ تسبب به جاك شيراك، لأنه يشخصن المعضلات، وبدل ان ينظر إلى العلاقات السورية ـ اللبنانية بموضوعية، أخذته سورة الغضب نظراً لعلاقته الشخصية الوطيدة برفيق الحريري، وهو ما أساء للبنان بشكل خاص. ومن باب أولى، أن يفتح السياسيون اللبنانيون، قلوبهم وعقولهم، لا سيما الذين يرتجفون رعباً من الدور السوري، لاستباق الزمن وتوفير الألم على بؤساء لبنان، آخذين في الاعتبار موازين القوى الجديدة التي لم تعد كسابق عهدها. وقد قال وليد جنبلاط علناً بأنه يعرف هذه الحقيقة المرة، لكن يبدو أن قوى "14 آذار" ترتبك أمامها، وتربك 4 ملايين لبناني.
ما هو واقعي اليوم ان المشهد ينقلب، وفي فترة قياسية، عما كان عليه منذ أقل من سنتين. فبعد استشهاد الرئيس رفيق الحريري، استطاع متظاهرو "14 آذار" ان يسقطوا حكومة عمر كرامي، الموالية لسوريا في الشارع، وكادوا يواصلون الزحف إلى قصر بعبدا لإسقاط إميل لحود، المحسوب على سوريا هو الآخر. وما انتظره كثيرون، ان تكون الحرب الإسرائيلية على لبنان بما تسببت به من دمار وخراب وتفقير للناس، مقصلة تنزل على رقاب المعارضة بما فيها حزب الله وعون. لكن النتائج جاءت عكسية تماماً، فاجتماع الدكتورة رايس مع قوى "14 آذار" حول طاولة واحدة في السفارة الأميركية يلتهمون السندويشات، بينما أبرياء لبنان كانوا يقتلون بالعشرات يومياً، أصاب الكثير من اللبنانيين بالغثيان، خاصة ان وزيرة الخارجية الأميركية كانت قد تبنت حينها عبارة أثيرة، ضربت على كل عصب شريف ترددها كاللازمة: "لم يحن موعد وقف إطلاق النار بعد"، فيما كانت النيران تسكب على أجساد الأبرياء وبيوتهم وتحصدهم نتفاً طوال 33 يوماً. لم ينس اللبنانيون معاناتهم الأليمة من الوجود السوري ثقيل الظل وباهظ التكلفة في لبنان، لكن البعض ومقارنة بما فعله الأميركيون في العراق، يقولون في سرهم "زؤان بلادك ولا قمح الغريب". وخير ألف مرة أن تحتمل بطشاً على الطريقة السورية، من أن يصفى كيانك على الطريقة الأميركية ـ الإسرائيلية التي مورست في فلسطين والعراق. وإذا كان للعاقل أن يختار وقد وضع بين نارين، مجبراً لا مختاراً، فلعله يختار أخفها وطأة، والأمور نسبية.
لا شك في أن ما تقوم به المعارضة اليوم، هو عملية انقلاب بلباس ديمقراطي، لا يعلم أحد إلى أي هاوية ستقود، خاصة أن قادة "حزب الله" يتحدثون عن خطوات تصعيدية تدريجية حتى قطف الثمرة التي يشتهون. وبينما كان رئيس الجمهورية مهدداً بالإسقاط، صار بمقدوره ان يبعث لرئيس الحكومة رسالة يخبره فيه انه بات وحكومته فاقدين لأي شرعية، في ما هو متمترس في قصر بعبدا، وكأن عاصفة قتل الحريري لم تعصف بلبنان يوماً. وعلينا الاعتراف، بأن بلد العجائب والغرائب هذا، كل شيء فيه ممكن، بما في ذلك أن تنعكس نتائج الانتخابات الأميركية، انتخابات قسرية يجريها الشارع اللبناني، لا ندري بأي ثمن، وإن لم ينص عليها الدستور. وهكذا لم يعد أمامنا إلا التسليم بأن العالم صار قرية صغيرة، لا بل وأصغر مما كنا نعتقد. يبقى انه في هذه المعمعة التي لا تسر عدواً ولا صديقا، بدا السياسيون اللبنانيون أصغر من ان يؤتمنوا على بلد، خاصة بعد أن فضحتهم وقائع جلسات التشاور التي نشرت في الصحف مفصلة، مظهرة ضيق أفقهم، وانسداد شرايين الرؤيا عندهم. فالجلسة الأولى نسخة عما تبعها من جلسات، والمفردات تتكرر عينها، حيث يتراشقون بالتهم كما الأطفال الصغار في باحة المدرسة. وكل هذا يصيب بالمرارة.
ومن الصعب رؤية البراءة في عيون أو سلوك أو نوايا أي من الطرفين، من موالاة ومعارضة. ورغم خطورة الاتهامات التي قصف كل فريق الآخر بها الآخر، وأحقية "الهواجس" التي لم يتوقفوا عن التعبير عنها. إلا انه بالإذن منهم جميعاً، فاللبناني العادي لا يشاركهم الهواجس نفسها أو هي ليست على الأقل من أولوياته اليوم، ولقمته على المحك. فلم نسمع مثلاً أن هناك في لبنان من يحلم في ليله بالمحكمة الدولية، على أحقيتها، ولا نعرف مواطناً واحداً، يهجس بصواريخ حزب الله كلما استفاق في الصباح (مع العلم ان الأمم المتحدة علقت مطالبتها بتجريد حزب الله من سلاحه). وكذلك لم نسمع بمواطنين يتألمون لأن الوزير كذا يجب أن يبقى على كرسيه، او أن وزيراً آخر حرم منصبه. اللبنانيون اليوم ما يزالون يسمعون الطائرات الإسرائيلية تهدر في آذانهم وتروعهم، وبعضهم لم يشف بعد من جروح القصف، وما تزال العائلات في حداد على أكثر من 1200 شهيد سقطوا تحت القصف الإسرائيلي. وهواجس اللبنانيين معيشية قبل أي شيء آخر، وهو ما لم نسمع أي مسؤول يتحدث عنه كهاجس من هواجسه في جلسات التشاور. رغم ان الهيئات الاقتصادية، وجهت للمجتمعين رسالة تتحدث عن وضع لم يعرف لبنان أسوأ منه ابدا.
ورئيس بلدية بيروت يطالب الراغبين في التظاهر أن يكفوا عن استغلال وسط بيروت، ويتوجهوا إلى ساحة شاسعة على الرمال البيضاء يفترشونها احتجاجاً. لكن السياسة في لبنان تتغذى من جيوب الناس ودمائهم. وفي بلد عالق كقطعة همبرجر بين المشروع الإيراني ـ السوري من جهة، والمشروع الأميركي ـ الإسرائيلي الذي تتساقط ملامحه كأوراق الخريف، من جهة أخرى، وفي غياب أي رؤيا عربية مستقلة، تزن استقراراً على الأرض أو إغواء للمتذبذبين بين المشروعين، يدفع لبنان ثمن الخواء العربي باهظاً، وهو يندفع صوب الهاوية.