روبرت غيتس.. وخطر تسييس الاستخبارات
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال تطبيق تلغرام
إضغط هنا للإشتراك
الأربعاء: 2006.11.22
جينيفر غلوديمانز
قبل خمس عشرة سنة استدعتني لجنة الاستخبارات التابعة لمجلس الشيوخ للإدلاء بشهادتي في جلسة الاستماع الخاصة بـ"روبرت جيتس"، الذي كان رُشح لشغل منصب مدير الاستخبارات المركزية. طُلب مني ذلك لأنني كنت قد عملت في مكتب الـ"سي آي إيه" الخاص بشؤون الاتحاد السوفييتي في الفترة التي كان يشغل فيها "جيتس" منصب نائب مدير الوكالة المكلف بشؤون الاستخبارات ورئيس "المجلس القومي للاستخبارات". ولعل أهم سبب وراء استدعائي للإدلاء بشهادتي هو معرفتي بحيثيات إعداد تقرير استخباراتي حول إيران في مايو 1985، وهو التقرير الذي استُعمل لتبرير الصفقات المعروفة بـ"إيران-كونترا".
والواقع أن "إيران-كونترا" ليست سوى واحدة من سلسلة من الفضائح التي ذهبت ورحلت في السنين التي تلتها. أما اليوم، وعقب قرار الولايات المتحدة خوض الحرب في العراق استناداً إلى معلومات استخباراتية مغلوطة- واستعداد "جيتس" للظهور من جديد على الساحة السياسة كوزير للدفاع هذه المرة- لعله من المفيد تذكر بعض الدروس من عقد الثمانينيات حول كيف تم تسييس جهاز الاستخبارات من أجل دعم مواقف إيديولوجية.
ففي عام 1985، خلال ولاية رونالد ريغان الرئاسية الثانية، كانت الولايات المتحدة تواجه تحديات دبلوماسية وعسكرية كبيرة في الشرق الأوسط وأميركا الوسطى. وكان ريغان ومدير الـ"سي آي إيه" وقتها ويليام جي. كيسي معروفين بخطاباتهما وسياساتهما القوية المناوئة للاتحاد السوفييتي. وكان "جيتس"، الذي كان نائب "كيسي"، يشاطرهما هذا التوجه الأيديولوجي.
وقتئذ كانت "إيران-كونترا" في مرحلة الإعداد، حيث كانت عبارة عن مخطط سري كانت تعتزم إدارة ريغان بمقتضاه بيع أسلحة لدولة عدوة هي إيران، واستعمال أموال الصفقة لتمويل حركات "الكونترا" المناوئة للنظام الشيوعي في نيكاراغوا. ومن أجل تبرير هذه الأعمال، رأى مسؤولو الإدارة الأميركية حينئذ أنهم في حاجة ماسة إلى دعم وتأييد من رجال الاستخبارات. بطبيعة الحال لم يكن الموظفون في مكتبي يعرفون شيئاً بخصوص مخططاتهم، غير أن السياق الذي طُلب فيه منا عام 1985 بالمساهمة في تقرير الاستخبارات القومي حول موضوع إيران كان معروفاً لدى الجميع.
والحال أن صدمتنا كانت كبيرة حينما تلقينا نسخة من مسودة التقرير، إذ وجدنا أن مساهمتنا حول علاقات الاتحاد السوفييتي مع إيران تم قلبها بالكامل. فبدلاً من القول إن آفاق العلاقات السوفييتية- الإيرانية ضعيفة جداً، ورد في الوثيقة أن موسكو ترى أن تلك الآفاق جيدة. بل الأدهى أن مسؤول الاستخبارات القومية المكلف بتنسيق إعداد التقرير بعث بمذكرة إلى البيت الأبيض يقول فيها إن السباق بين الولايات المتحدة والاتحاد السوفييي "على طهران قد بدأ، وأن من يصل إلى هناك أولا هو الفائز".
الحقيقة أن لا أحد في مكتبي صدق هذا التهويل والمبالغة زمن الحرب الباردة، ذلك أنه لم يكن ثمة بكل بساطة أي دليل يؤيد فكرة أن موسكو متفائلة بخصوص آفاق علاقاتها مع إيران. كما أن كل تحليلاتنا كانت دائماً متشائمة بخصوص العلاقات السوفيتية-الإيرانية مادام آية الله الخميني على قيد الحياة.
فكان أن احتججنا على ما خلُص إليه التقرير، مشيرين إلى دلائل من قبيل قمع الحكومة الإيرانية لحزب "توداه" الشيوعي، وطرد كل المستشارين الاقتصاديين إضافة إلى عدد من الدبلوماسيين السوفييت الذين كانوا موظفين في جهاز الاستخبارات السوفييتي "الكي جي بي"، والخطاب الرسمي المستمر الذي كان يعتبر النظام الشيوعي "الذي لا إله له" "الشيطان الثاني" بعد الولايات المتحدة. غير أنه بالرغم من العدد الكبير من الأدلة التي قدمناها، فإن تحليلنا لم يؤخذ في عين الحسبان. وقد قيل لنا خلال أحد الاجتماعات التنسيقية إن "جيتس" يريد أن تظل لغة التقرير على حالها بهدف تبرير على ما يبدو "ضرورة تحسين" علاقاتنا المتوترة مع طهران عبر مبيعات الأسلحة "إيران-كونترا".
الواقع أنه من الممكن أن إدارة ريغان كانت ستذهب قدما في سياستها وتنفتح على إيران بصرف النظر عما قيل في التقرير الاستخباراتي، غير أنه مما لا شك فيه أن حمل رجال الاستخبارات على تأييد آرائها يضفي عليها شرعية وصدقية. والحقيقة أنه لو أن الساسة تلقوا معلومات استخباراتية أفضل وأدق، ربما كان أحدهم سيشكك على الأقل في الطابع الملح والعاجل لهذا التوجه. ولكن بدلاً من ذلك، تم استعمال جهاز الاستخبارات كوسيلة للدعاية السياسية.
وللأسف، لم يشكل التقرير الاستخباراتي حول إيران الحالة الوحيدة التي تم فيها تسييس العمل الاستخباراتي في عهد جيتس. فقد بدأ ذلك في 1982، عندما طلب "كيسي" إعداد تقرير مماثل حول الدعم السوفييتي للإرهاب الدولي. وقد استمر ذلك عندما طلب منا إعداد تقرير حول المدى الذي يمكن للاتحاد السوفييتي أن يمضي فيه في دعمه لليساريين بأميركا الوسطى.
طغى على الحكومة الأميركية خلال تلك السنوات أشخاص يتميزون بآرائهم الأيديولوجية القوية حول الاتحاد السوفييتي. لكن خلافهم لم يكن مع الأشخاص الذين كانوا "متراخين" مع الشيوعية، وإنما مع الأشخاص الذين كانوا يأخذون جميع الأدلة المتوفرة في عين الاعتبار من دون تحيز إلى هذا الجانب أو ذاك، والذين سبق لهم أن زاروا الاتحاد السوفييتي ووقفوا على بنيته السياسية والاجتماعية الجوفاء والذين لم يكونوا يرون فيه قوة عظمى وإنما نظاما مترهلا وأخرق ومتعثرا.
هل مازال كل هذا السرد التاريخي مناسبا اليوم؟ الواقع أنه كذلك إذا كان المرء يعتقد أن الساسة لا تُقدم لهم المعلومات الدقيقة، وعندما تتم صياغة تحاليل استخبارية فقط لتأييد مواقف هؤلاء الساسة المحسومة أصلاً. إنه مناسب إذا كان المرء يعتقد أن الفشل في تعلم الدروس من جلسات الاستماع عام 1991 قد ألحقت الضرر بالسياسة الخارجية الأميركية عندما ذهبنا بعد عقد على ذلك إلى الحرب بناء على معلومات استخباراتية خاطئة حول أسلحة الدمار الشامل في العراق. ثم إنه مناسب إذا كان المرء يعتقد أنه ينبغي على الكونغرس أن يأخذ مسؤوليات الإشراف والمراقبة على محمل الجد.
اختيار روبرت جيتس لشغل منصب وزير الدفاع يشكل فرصة مناسبة له لإثبات أنه تعلم من أخطائه، وفي الوقت ذاته فرصة للكونغرس للتشديد على سلطته الدستورية.
محللة سابقة بوكالة الاستخبارات المركزية الأميركية "سي آي إيه"
عن الإتحاد.