جريدة الجرائد

المحكمة الدولية آتية رغم المقايضات والاغتيالات

قرائنا من مستخدمي تلغرام
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال تطبيق تلغرام
إضغط هنا للإشتراك



راغدة ردغام


انطلق قطار المحكمة الدولية ولن يوقفه المزيد من الاغتيالات الارهابية ولا طموحات المقايضة مع الولايات المتحدة في العراق ولا مؤامرات إسقاط الحكومة الشرعية المنتخبة في لبنان ولا حتى حرب أهلية تشعلها دمشق أو حلفاؤها في لبنان. الضالعون في الجرائم الارهابية الـ15 وآخرها اغتيال وزير الصناعة بيار الجميل أطلقوا رصاص الإعدام على أنفسهم، فمحاكمتهم آتية من دون أدنى شك حتى ولو أفشلوا التوقيع اللبناني على المحكمة ذات الطابع الدولي، اما باغتيال الوزراء أو عبر رئيس الجمهورية الذي ما زال في السلطة بفضل فرض سورية تعديلاً دستورياً أثناء هيمنتها على لبنان. مجلس الأمن الدولي صادق على مسودة المحكمة ونظامها الأساسي الذي وافقت عليه الحكومة الشرعية اللبنانية في أعقاب مفاوضات مطولة مع الأمانة العامة للأمم المتحدة، وهذه سابقة تاريخية وانجاز عظيم. انما، حتى ولو أُفشل هذا الاتفاق، فإن مجلس الأمن سيتحرك مجدداً لإنشاء محكمة دولية من طابع ونوع مختلفين ولن تتطلب موافقة الحكومة اللبنانية.

فهو لن يترك التحقيق الدولي ينزلق الى الحضيض أو يتأرجح على حروب مختلقة أو اغتيالات سياسية متكررة لتجنب المحاسبة. وإذا لاقى نموذج سيراليون من المحاكم حتفه لأنه يتطلب موافقة الحكومة المعنية، فإن هناك نموذج يوغوسلافيا لمقاضاة مجرمي الحرب بلا استئذان سياسي من أحد. ليسرع الأبرياء الى الاستدراك. وليتخذ السياسيون قرارات جريئة وليتجرعوا "كأس السم" لأن فيه انقاذاً للبنان وشعبه. وليكف هذا الشعب عن التظاهر بأن هناك مجالس للمناورة الدائمة في المنطقة الرمادية. فهذا وقت الاختيار الواضح بين أبيض وأسود لأن لا مجال هناك للتوفيق بين "مع" و "ضد" المحكمة الدولية، بين "مع" و "ضد" عودة الهيمنة السورية على لبنان، بين "مع" و "ضد" لبنان الديموقراطي الذي منه وعبره تأتي النهضة العربية، وليس لبنان الذي تقوده ايران الى حظيرة الالتحاق بايديولوجيتها الثورية المعادية للعصرنة.

الشعوب العربية التي تجد اليوم في الرئيس الايراني محمود أحمدي نجاد مثال القيادة والجرأة على تحدي الولايات المتحدة هي نفسها التي وجدت بالأمس في زعيم شبكة "القاعدة" اسامة بن لادن مثال "الرجولة" فكرست عواطفها وشعبيتها لهما كي لا تطالب هي بالقيام بأي شيء. انها الشعوب الكسولة نفسها التي تفرجت على العراق أثناء استبداد صدام حسين به وسمت ذلك عروبة ووطنية، وهي ذاتها التي رفضت الاحتجاج الفعلي الملموس والمستدام على الغزو الأميركي للعراق قبل ان يحدث، علماً أنها لو فعلت لتمكنت بالتأكيد من التأثير في الخطط الأميركية.

لهذا الطراز من الشعوب العربية، وليس لجميعها لأنها ليست جميعاً من هذا الطراز المخجل، نقول اليوم من لبنان ومن حيث يوجد لبنانيون: لا نريد عطفكم ولا نريد رأيكم بعد الآن. إذا أردتم المقاومة ضد اسرائيل تفضلوا وخذوها الى الجبهة السورية الأطول والأسهل. كفوّا عن لبنان فهو دفع ثمناً باهظاً وكان حقاً مختبراً للفكر والقدرة العربية على الديموقراطية والقومية والنهضة وأي اختبار آخر. لن ندفع ثمن عجزكم بدمائنا بعد الآن ولن ندافع عنكم في المحافل الدولية. أنتم اخترتم النموذج الايراني والثوري أحمدي نجاد واسامة بن لادن. وخيارنا ليس ذلك على الاطلاق. علمّوا أولادكم البغض والكذب والانحناء، ونحن سنعلم أولادنا التفكير العصري وحرية الاختيار واحترام الرأي الآخر والمعارضة المدنية البعيدة عن الدموية والميليشيات والتحريض والسلاح.

الشعوب العربية منقسمة بالتأكيد، كما الحكومات والقيادات والدول. الآن، وفي هذا المنعطف، لم يعد في الإمكان التظاهر بأن الأمور على ما يرام بين المعسكرين الأساسيين. ويجب القول لدولة قطر التي تحتل الآن المقعد العربي في مجلس الامن الدولي ان عليها عدم استخدام لبنان لأي غاية تتعلق بها، فهو ليس سلعة ولن يقبل اهله ان تتحول قضيته الى ورقة للمتاجرة من قبل احد.

لقطر الحق في أن تكون لها أفضل العلاقات مع اسرائيل، السياسية والتجارية، وأن تستضيف أهم قاعدة عسكرية اميركية في المنطقة. وما لا يليق بها هو أن تستخدم المشاعر الشعبوية العربية لامتصاص غضب الشعوب والتحريض الإعلامي والتعبئة السياسية لصالح التطرف لإلهاء هذه الشعوب وتحقير ذكائها. وإذا كان صنّاع السياسة في قطر يعتقدون أن في الامكان النجاح دائماً في القفز الخطير على الأحبال في الهواء، فان خطر السقوط يرافق المغامرة. وعسى أن يختار قادة قطر لبلدهم الأمان والاعتدال والأدوار البناءة في المنطقة العربية وعالمياً ليكون رائداً في الخير والاصلاح وفي انتشال العراق وفلسطين ولبنان من مخالب المخططات التدميرية لها.

فقضايا لبنان وفلسطين والعراق باتت مترابطة من ناحية من يشعل فيها المزيد من النيران كما من ناحية من يمنع الحلول عنها. ايران واسرائيل تتلاقيان في مصالحهما المشتركة على تقزيم العرب واستخدام قضاياهم لتحطيمهم وشرذمتهم. فلسطين تدفع اليوم ثمن العلاقة التهادنية الايرانية - الاسرائيلية التي ينفيها محمود أحمدي نجاد وهو يتظاهر بأنه سيحرر فلسطين عندما يبايعه المسلمون قيادة القضية الفلسطينية واستعادة القدس. العراق يدفع اليوم ثمن الاستثمار الايراني في نزيفه بعدما انتقم المحافظون الجدد الاميركيون لايران وخططوا لغزو العراق وفي ذهنهم خدمة اسرائيل وايران معاً. ولبنان يدفع ثمن الحروب بالوكالة التي تريدها ايران لاسباب عديدة بينها منع استحقاق المحاكمات على سياسات واغتيالات ارهابية تورط فيها أصدقاء وشركاء وحلفاء لايران.

انما الطموحات الايرانية تتعدى هذه المحطات الساخنة اذ انها طموحات ايديولوجية باستراتيجية مدروسة لقيادة مدرسة والاخضاع التدريجي للهيمنة على المنطقة العربية والاسلامية بتسييس الدين لغايات سلطوية. انهزام الديموقراطية جزء أساسي من الاستراتيجية الايرانية كما هزيمة التوجهات الاصلاحية ومنع المرأة من الحصول على حقوقها لاخضاعها وتحويل نصف المجتمعات الاسلامية الى ملاحق.

أثناء أول مؤتمر على الاطلاق عقدته "منظمة المؤتمر الاسلامي" في اسطنبول هذا الاسبوع عن موضوع المرأة، وعلى هامش الأحاديث الجانبية، قالت الطبيبة العراقية ابتسام عزيز ان الفسحة الديموقراطية في العراق عززت الفرص للمرأة انما المرأة العراقية تقع اليوم "بين الفسحة الديموقراطية وبين المد الديني الذي بدأ يطغى". هذه الطبيبة التي سجنها صدام حسين لست سنوات لأنها عالجت شخصاً معارضاً والتي اختارت لنفسها أن تكون محجبة أكدت أنها ضد ان تلبس النساء الحجاب "خوفاً" أو "إجباراً". قالت ان المرأة العراقية "لن تأخذ بالنموذج الايراني بل لدينا حساسية من هذا النموذج ونرفض سيطرة ايران على الاقاليم ونتحفظ على فكرة الاقاليم خوفاً من تسلط ايران عليها باعتبارها اقاليم شيعية". وتضيف الدكتورة ابتسام قائلة: "أصل التشيع عراقي وليس ايرانياً. والمفروض أن يكونوا تابعين ولسنا نحن تابعين لهم". وتؤكد "لا تخافوا على نساء العراق. ان المرأة العراقية قوية وقادرة".

عضو الوفد الفلسطيني نجاة ابو بكر وهي عضو في المجلس التشريعي ومتدينة تحدثت في الأحاديث الجانبية عن "الدور السلبي" الذي تلعبه نساء "حماس" في مسيرة القضية الفلسطينية. وشددت تكراراً على ضرورة "الابتعاد عن التدين السياسي" لأنه لا يخدم القضايا بل يسيء اليها ويدمر الانجازات.

مثل هذه المواقف الملفتة يجعل مثل هذه المؤتمرات مفيدة فوق الاعتبارات الأساسية لعقدها. ولأن هذا المؤتمر تاريخي لقيام "منظمة المؤتمر الاسلامي" بعقده، فإن التوقعات من هذه المنظمة تزداد أكثر فأكثر لأن الاسلام مطروح سياسياً واستراتيجياً في أكثر من منطقة وقارة. الأمين العام للمنظمة، البروفسور أكمل الدين احسان أوغلي، يفهم تماماً التحديات والتوقعات وهو قد أخذ المنظمة الى مرتبة جديدة في تحول جذري وأخرجها من النوم والاهمال لتتفاعل مع الأحداث وتؤثر فيها وتكون حلقة وصل وطرفاً في السياسة الدولية. لذلك باتت المنظمة عنواناً للأمم المتحدة والاتحاد الأوروبي للاستشارة في الشؤون والقضايا السياسية من دارفور والعراق وفلسطين ولبنان والصومال الى ما بعد فشل الحوار بين الحضارات والأديان. لذلك مهم جداً ما تقوم به من تحديد وتعريف لمشاكل العالم الاسلامي من حقوق الانسان الى تغيير الميثاق الى التعاطي مع مشكلة الأقليات في تايلاند والفيليبين. هذا الى جانب الوساطات التي يقوم بها احسان أوغلي وراء الكواليس حين يجمع ذوي الآراء المختلفة تمهيداً لتفاهمات تنتقل من المواجهة الى الاصلاح.

البعد الأوسع لـ57 دولة الذي تعطيه "منظمة المؤتمر الاسلامي" لأية قضية سياسية، من فلسطين الى العراق الى لبنان، مهم من دون شك، انما بالقدر نفسه من الأهمية هو "اخراج العنصر الديني من تشابك عقيم في الحلول"، حسب احسان اوغلي متحدثاً عن نموذج ما قام به في العراق عندما أجمع زعماء مختلف الطوائف على ان أخذ الدين ذريعة أو ستاراً أمر غير مقبول.

هذا جزء مهم من المعركة الايديولوجية في المنطقة العربية والعالم الاسلامي ككل. ولذلك فما يحدث في المناطق الساخنة باتت حلوله مترابطة وعنوانها الرئيسي ايران. فالجمهورية الاسلامية الايرانية تملك مفاتيح إشعال الجبهات في العراق وفلسطين ولبنان، لكنها لا تملك وحدها مفاتيح منع اشتعال البلاد إرضاء لها أو تعزيزاً لطموحاتها الاقليمية والدولية.

القيادة السورية اختارت ان تكون الحليف لايران لأنها تجد في طهران وسيلة خلاصها من المحاسبة وشبكة الأمان التي ستنقذها من السقوط. لا رهان آخر لديها الآن، فهي استنفدت كل خيار آخر. انها تتسابق مع الزمن لالتقاط الفرص التي تعتقد انها تطل عليها من نوافذ العراق لتبرم صفقة مع الولايات المتحدة تحميها من المحاسبة، لا سيما في المحكمة الدولية. أقامت العلاقات الديبلوماسية مع العراق فيما ترفض ذلك مع لبنان لأنها ترفض ترسيم الحدود اللبنانية - السورية والاعتراف بلبنان بلداً مستقلاً غير تابع لها وخارج عن هيمنتها.

إنما كل هذا لن ينفع. فالمحكمة الدولية آتية مهما كان وبرغم استعداد دمشق لمقايضة أي شيء وأية قضية مقابل اجهاض المحكمة الدولية.

المحكمة الدولية آتية وستحاكم كل المتورطين في الارهاب الذي يمتلك الساحة اللبنانية باغتيالات سياسية وغيرها من اجراءات الاستقتال لمنع أحكام المحكمة. لكن المحكمة آتية وستحكم على الرئيس والمرؤوس في كل من الاغتيالات المترابطة السابقة والآتية. لم يعد أمام رئيس الجمهورية اميل لحود إلا ان يرحل قبل فوات الأوان. فأمامه الفرصة الاخيرة الآن ليتقدم باستقالة عاجلة ويزعم انها من أجل لبنان.

ولأن لبنان سيمر بمرحلة صعبة ومصيرية، ربما تفكر القيادات اللبنانية باستفاقة من أجل لبنان ومن أجل نفسها وقاعدتها الشعبية كي تتمكن من القول لاحقاً انها اختارت مصلحة بلدها فوق المصلحة السورية وفوق الطموحات الايرانية وفوق الاستفادة الاسرائيلية من كل حرب ومعركة واغتيال سياسي تقوم هي بها في فلسطين أو يقوم بها عرب أو عجم في لبنان.

إنه وقت الإقدام على جديد نوعي قبل الدمار الذي سيسبق المحاكمة. لذلك، على القيادة الروحية المسيحية في لبنان ان تفكر بجديد نوعي، ولقد حان للبطريرك نصرالله صفير ان يتخلى عن نمط الموازنات لأنه بات مدمراً. حان للسيد حسن نصرالله ان يتجرع كأس الاستفاقة الجميلة للبنان لأن في يده مفتاح انقاذه من حروب غير ضرورية لا تؤدي سوى الى قتل الابرياء. فلا منتصر في مثل هذه الحروب على الاطلاق. لا منتصر في المعارك على السلطة والهيمنة عبر الاغتيالات. فلقد أتى موعد المحاكمة وقطار المحكمة الدولية قد غادر المحطة بلا عودة، مهما كان.

التعليقات

جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف