خروج أمل وحزب الله لا يعني خروج الطائفة من الدولة
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على إنستجرام
إضغط هنا للإشتراك
وجيه كوثراني
"متى تصبح البلاد غير طائفية؟" سؤال، سبق أن طرحه ميشال شيحا بعد سنوات قليلة من إعلان الاستقلال الاول ولا يزال يُطرح جيلاً بعد جيل. على أن جواب ميشال شيحا عن سؤاله، وهو المنظّر والمعرّف للبنان على أنه "بلد الطوائف المتشاركة"، يستوقف في دلالاته للمعنى الحقيقي والمستقبلي لفلسفة "الميثاق الوطني". يقول جواباً عن سؤاله: "يوم تنعقد النية بجدّ على ألا يبقى لبنان بلاداً طائفية سيكون لزاماً على كل طائفة، القبول دون كثير من الصياح أن يكون تمثيلها في بعض الأحيان أدنى من حجمها، ويكون التعويض جعل تمثيلها أكبر من حجمها في أحيان اخرى (...) ثم يضيف "وأي ضير في ان تغيب عن الحكومة طائفتان او ثلاث في وقت من الاوقات"... (في السياسة الداخلية، مقالة: لبنان الطائفي 1945).
كان هذا الرأي محاولة للتعامل المرن مع المادة 95 من الدستور التي تؤكد في مطلعها على "الصفة الموقتة" في تمثيل الطوائف بصورة عادلة في الوظائف العامة، وتشكيل الوزارة "ودون ان يؤول ذلك الى الإضرار بمصلحة الدولة".
ولكن يبدو، وبعد مرور أكثر من نصف قرن على هذا القول، يمكن ان نقول ان التمني شيء وواقع ما جرى شيء آخر. فـ"الطوائف" التي رأى ميشال شيحا في تشاركها واجتماعها "مشروع دولة" شكّلت "مجتمع اللادولة" على حد قول الاتنولوجيين والأنتروبولوجيين في دراستهم للقبائل والعشائر والطوائف في مرحلة ما قبل الدولة (طبعا الدولة الحديثة وليس الإمارة او الدولة السلطانية او الامبراطورية).
والتشديد على مفهوم الدولة الحديثة الآن يأتي في سياق الإستفادة من تجربة تاريخية مرّت بها طوائف لبنان كلها، ولاسيما الأكبر فيه: المارونية والسنية والشيعية. فكل من هذه الطوائف، اختبرت علاقتها بالدولة عبر أحزابها وزعاماتها، وربما نخبها وأهلها. اختبرت الإستئثار والاحباط معاً، الحرمان والاستقواء معاً، الهامشية والمشاركة معاً، كما اختبرت انواعاً من الحريات والاستقلالات والمقاومة والممانعة والحروب الاهلية، ولكنها جميعها لم تختبر ما تمناه ميشال شيحا طريقاً لتحقيق مستقبل واعد لدولة لبنانية حديثة، اي لدولة مواطنين متساوين في الحقوق والواجبات، ولدولة مؤسسات وسلطات واضحة الدور والصلاحية سواء من منظار الميثاق الوطني (ميثاق العيش المشترك) أو من منظار الدستور الذي لحظ العدل "بصورة موقتة" في المادة 95 في حقل الإدارة والوزارة، ولكن لمصلحة الدولة أولاً.
وهنا يمكن القول إن قراءة ميشال شيحا (القديمة) لمعنى الميثاق في جوهره وللبعد المستقبلي الذي يستدعيه ويتطلبه بناء الدولة الحديثة، وكذلك قراءته المرنة للمادة 95 التي اشتملت على تعبير "بصورة موقتة" هي قراءة في روح الدستور، وهي قراءة مستقبلية في فلسفتها للميثاق باعتباره عقداً إجتماعياً لدولة / مجتمع، وليس لدولة/طوائف، "أي لمجتمع اللادولة".
هذا في حين تصرّفت طوائف لبنان الكبرى في مراحل تشكل علاقتها بالدولة (بالطبع عبر زعمائها وأحزابها المؤثرة) كمن هي المالكة للدولة او المؤتمنة عليها اذا ما استأثرت إحداها بسلطاتها، او كمن هي المطالبة بحق استملاكها، إذا شعرت إحداها أنها مهمشة، أو اذا استشعرت بغبن ما. وكان دائماً ولا يزال، مرجعية الطوائف، من ناحية شكلية، الميثاق والمادة 95.
ويبدو ان الشعوب، كما الطوائف، لا تتعلم إلا من "كيسها" اي إلا من تجاربها... وتجارب الطوائف في لبنان كانت مكلفة دائما...
واليوم يردد خطباء "حزب الله" ومتكلموه وأنصاره من الحلفاء ان "استقالة وزراء طائفة بكاملها (ولنلاحظ التشديد على "بكاملها" للتعبئة) تعني استبعاداً للطائفة وبالتالي نقضاً لميثاق العيش المشترك". وهذا يعني تاليا اعتبار حكومة لا يتمثل فيها وزراء الشيعة، حكومة غير دستورية. مع العلم ان الإستقالة الذاتية، ومهما كان سببها، ليست استبعاداً.
لا شك في ان للسياقات السياسية الداخلية بعد استشهاد الرئيس الحريري وانسحاب القوات السورية والأخذ والرد حول التحقيق والمحكمة الدولية، وللسياقات الدولية والاقليمية كما لحرب تموز الأخيرة وتداعياتها، دورها الفاعل في صناعة هذا الخطاب الجديد لدى "حزب الله"، ولاسيما ان الحزب قد عوّدنا خلال عقدين من الزمن على خطاب "زاهد" بالسلطة ونابذ "للطائفية السياسية" في فهم الميثاق. فما السبب في هذا التحوّل؟ لا شك في ان حيثيات هذا التحول هي موضوع جدير بالبحث. ولكن نكتفي في هذه العجالة بإبداء ملاحظات حول "اللازمة الميثاقية والدستورية" التي يحملها خطاب "حزب الله" الجديد وأنصاره وحلفائه:
1- إن الميثاق الوطني وقد ترسّخ في الوعي التاريخي للبنان الحديث والمعاصر، دولة لمجتمع ودولة لوطن، أي دولة لمواطنين بصفتهم أفراداً أحراراً (بموجب الدستور)، ليس عقداً بين أحزاب وزعماء ولو كانوا أكثرية في طائفتهم. فالأحزاب كما الزعامات هي مرحلية في التاريخ، ولا بأس أن نقول "موقتة" فكل شيء في السياسة والعمل السياسي موقت.
2- الدولة، كفكرة ومفهوم وكيان تاريخي واجتماعي متحقق، هي غير الحكومة، فهذه الأخيرة هي سلطة من سلطاتها هي سلطة تنفيذية، واستقالة وزراء بل غياب وزراء من طائفة (بصورة موقتة) لا يعني المساس بالميثاق اي بالعقد الاجتماعي التاريخي الذي هو في اساس وجودها - كدول وطن. لاسيما وانه حين تشكيلها روعيت المادة 95.
3- ان تماهي حزب ديني مع طائفة بكاملها "ميثاقياً" هو من قبيل اتباع اسلوب التغلّب الذي شهدته تجارب الدول السلطانية في تاريخنا العربي (استقواء العصبية بالدعوة الدينية على حد تعبير ابن خلدون) ولو كان اليوم يتم بالانتخاب. فالانتخاب هو اسلوب في الديموقراطية التمثيلية لانتاج ممثلين عن اكثرية الشعب. والأكثرية، حتى لو كانت ساحقة، تبقى في النظرية الديموقراطية موقتة في تاريخ العمل السياسي وعرضة للتغير. فليس من حق ممثليها القول بانتقاص الميثاق في حال استقالوا من حكومة او ادارة او سلطة تنفيذية او حتى سلطة تشريعية. هذا عدا ان تمثيلا برلمانياً وفقاً لنظام النسبية من شأنه أن يغير في معادلة الاكثرية والأقلية. إن مقاطعة أكثرية مسيحية لها شعبية لإحدى دورات الإنتخاب في عهد الوصاية السورية، وكان الجنرال عون في صفوفها، وحلول أسماء أقلوية مسيحية، لم يدع للقول بانتقاص الميثاق. وكان "حزب الله" راضياً بذلك في العصر الذهبي للوصاية السورية.
هذا ويمكن ان نضيف الى اسباب التغلّب، أسلوب التكليف الشرعي والفتوى الذي استخدم مراراً. وهو أسلوب أكثر فاعلية في التأثير السياسي من المال السياسي نفسه.
4- ان النائب او الوزير الذي احتل منصباً او مقعداً في "التمثيل الشيعي" لا يمثل الطائفة الشيعية حصراً، بل يمثل كل من انتخبه من طوائف اخرى، فهو نائب ووزير عن الوطن وعن الشعب، وليس عن الطائفة. وعندما علّق وزراء "أمل" و"حزب الله"، عضويتهم في الوزارة، كتبنا وكتب آخرون ايضاً انه من المستحسن، بل من الأسلم عدم القول "بوزراء الشيعة". بل هم وزراء "أمل" و"حزب الله" ("النهار" 19 كانون الاول 2005). وأذكر ان الامين العام لـ"حزب الله" قد ألمح في احدى مقابلاته التلفزيونية الهادئة الى صحة نسبة الوزراء الى الحركة والحزب. لكنه اليوم - وفي سياق الاستعداد لمواجهة الحكومة في الشارع تجري التعبئة الطائفية والمذهبية باعتبار الوزراء المستقيلين "وزراء الشيعة" بالكامل، فما سبب هذا الإنقلاب والتغير في قراءة الميثاق الوطني؟
ويحق التساؤل هنا مع غسان تويني، ماذا يحل بالوطن اذا لجأت كل طائفة لبنانية شعرت "بغبن" أو كان لها رأي نقدي في أداء الحكومة الى استقالة وزرائها من الحكومة، وربما نوابها من البرلمان. انها استقالة من الوطن، لمصلحة "مجتمع اللادولة".
5- ان المادة 95 بنصها القديم تشدد على عبارة "بصورة موقتة" في شأن تمثيل الطوائف في "الوزارة والادارة" دون ان يؤول ذلك الى الاضرار بمصلحة الدولة". فالأولوية هي لمصلحة الدولة ككيان إجتماعي عام ودائم وليس لمصلحة الحكومة كأداة تنفيذية تتغيّر.
هذه المادة عدّلت في دستور الطائف لتستخدم تعبير "المرحلة الانتقالية" بديلا من تعبير "بصورة موقتة" ولتقول الشيء نفسه في مسألة "تمثيل الطوائف بصورة عادلة في تشكيل الوزارة"، ولكن لنستدرك الى اعتبار ان "الموقت" الذي طال يستتبع حكماً - وبموجب النص الدستوري - "مرحلة انتقالية" تهيىء لمرحلة جديدة تلغى فيها الطائفية السياسية. والمشترع واضح حين يطالب مجلس النواب الذي أصبح مناصفة بين المسلمين والمسيحيين "اتخاذ الاجراءات الملائمة لتحقيق الغاء الطائفية السياسية (...) وتشكيل هيئة وطنية من اجل تحقيق هذا الهدف". وكانت مقدمة الدستور قد عينت هذا الهدف "كهدف وطني اساسي يقتضي العمل على تحقيقه وفق خطة مرحلية".
وعليه، فان جملة "لا شرعية لسلطة تناقض ميثاق العيش المشترك" ينبغي ان تفهم ضمن السعي الى تحقيق الهدف الأبعد وهو: الغاء الطائفية السياسية الذي نصت عليه ايضاً مقدمة الدستور والمادة 95 وليس تكريس الطائفية في السلوك والخطاب والثقافة والتعبئة، واللجوء الى الشارع. لذلك مرة اخرى نذكر ان البعد اللاطائفي الذي يختزنه الميثاق الوطني باعتباره عقدا اجتماعيا (مجتمع/ دولة) يحمل تجاوزاً لطائفية الوزارة في الحكومة وتجاوزا ايضا لطائفية الوظيفة في الادارة. بل انه في جوهره ومن منطق استتباعات بناء الدولة الحديثة وتطويرها، يستدعي مسعى يقضي بتوسيع الدائرة المدنية للمواطنة، أي فسح المجال لخيار المواطن السياسي خارج طائفته، بل لممارسة حقوقه الشخصية والفردية في اختيار قانون مدني لأحواله الشخصية...
لقد استنزفت تجارب الطوائف والطائفية نفسها حروباً أهلية وأزمات، وهجرة وتهجيراً واقتلاعاً، وفقراً، وإفقاراً، وقد حان الوقت لتجاوزها. اما لعبة الطائفية في الشارع، وان لجأ اصحابها الى تحالفات مع رموز من طوائف اخرى، والكلام معنيّ به كل الطائفيات السياسية، فانها لعبة خطرة، مهما ارتفعت درجة انضباط عناصر لجانها المنظمة ونبُلت اخلاقهم ومثلهم وتماسك تنظيمهم الحديدي. يبقى الشارع مخترقاً بالطوابير الخامسة - على حد قول الرئيس امين الجميل - ويبقى ايضا حقلا لعبث "الدهماء"، كما كان يقول فقهاء الاسلام القدامى عندما يهدد السلاطين والامراء اصحاب الرأي بـ"العوام".
وما زالت مشاهد 5 شباط و1 حزيران من هذا العام ماثلة للعيان.
مؤرخ واستاذ جامعي