رسالة من الدوحة: إنها نصف الكوب الفارغ
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على إنستجرام
إضغط هنا للإشتراك
علي سعد الموسى
لثلاث ساعات مساء الجمعة، تابعت الحفل الأولمبي القطري الاستثنائي في احتفال الدوحة باستضافة آسياد آسيا في دورة ألعاب العمر. وقبل أن أدلي بشهادتي حول هذا المساء القطري - التحفة - وقبل أن آخذكم إلى نصف الكوب الفارغ، دعونا نسبح في النصف المليان فالقطريون اليوم عطشى لكل جملة ثناء وشرهون جداً لكل كلمة تمجيد وهم يتحولون إلى مساحة دعاية إعلامية. شهادة الحق أن مساء الدوحة الأولمبي كان استثناءً مدهشاً لن تستطيع تكراره على الإطلاق عاصمة عربية لسبب بسيط: لأن ثلاثة أرباع هذه العواصم العربية لا تملك الإمكانات المالية المادية مثل عاصمة قطر التي ربما صرفت على ليلة الافتتاح ما قد لا تصرفه عاصمة عربية من تلك الأرباع الثلاثة على سكانها وخدماتها في عامل كامل.
وتبقى عواصم الربع الرابع وعلى رأسها نحن، ونحن نملك من الإمكانات ما يجعل الدوحة مجرد حلم في مواجهة واقعنا الاقتصادي المتعملق الجبار حد الخوف والرهبة. لكن واقعنا الاجتماعي المتقوقع لا يسمح لنا بأن نكون على قدر إمكاناتنا المالية المادية المدهشة لأن فسيفساء ملعب الدوحة الأولمبي وهي تجمع البشر بكافة الألوان والأطياف والأجناس والوجوه، منظر لا نستطيع بتركيبتنا الثقافية والاجتماعية أن نحشده في ملعب تمرين لكرة السلة فكيف نجمعه في ملعب أولمبي تحت عشرات الكاميرات والقنوات الفضائية؟ في الدورة الإسلامية الأخيرة التي استضفناها على مقاييسنا الخاصة وتفصيلنا الثقافي المختلف، ماج المكان وهاج لأن سيدة إيرانية من الوفد الإداري لبعثة إيران الرياضية للدورة طلبت أن تدخل مدرج الضيوف في حفل الافتتاح ولن أكمل بقية القصة. الخلاصة أن نصف الكوب الممتلئ كان في الدوحة استثنائياً مدهشاً متفوقاً بكل شهادات الخبراء على أي حفل افتتاح سبقه على مدار التاريخ الأولمبي وبقدر سعادتي لنجاح رسالة عربية من عاصمة عربية بقدر حزني على أنفسنا وأنا الذي تأخذني على الدوام أفكار المقارنة والمقاربة.
هنا تعالوا لنصف الكوب الفارغ في تجربة الدوحة وهي تجريها في المختبر مساء ما قبل البارحة. دعوكم من كل هذا العرض الأخاذ والاستعراض الذي يأسر الألباب لأن سؤالاً واحداً سينسف كل التجربة، وهو السؤال الجوهري الذي تجيب عليه كل دولة ومدينة وثقافة ومجتمع على هذه الأرض تحظى بشرف استضافة ألعاب أولمبية. هذا السؤال البسيط هو: أين ابن البلد؟ وهو في الحالة القطرية، أين القطري في حفل الافتتاح حضوراً وإنساناً وابتكاراً وصناعة وتاريخاً وثقافة ومشاركة في دقائق وتفاصيل الاحتفال كي يعكس حضوره وتاريخه وثقافته وصناعته؟ الجواب: صفر مكعب، وهذا الجواب وحده كاف أن يحرق كل ما عملته الدوحة في مسائها الاستثنائي وأن يحيل هذا الاحتفال الخارق إلى مجرد رماد. مساء البارحة، شاهد العالم بأسره احتفالاً من الدوحة لكنه لم يشاهد الدوحة لسبب بسيط: لأن فكرة الافتتاح الأولمبي فرصة تاريخية أن تبرز الدولة فيها جهداً وعرقاً وطنياً خالصاً بسواعد أبناء البلد وبأفكار أبناء البلد وتاريخهم واستعراض ثقافتهم بقوالب مصنوعة في ذات البلد في الصلب الأعظم الأغلب.
كل هذا لم تفعله الدوحة مساء البارحة لسبب بسيط: لأن الإمكانات المادية الهائلة تقف في مواجهة إرث قطري فقير وتاريخ وطني أكثر فقراً فلم تتمكن الدوحة من استعراضه في الاحتفال إلا بقصة - اللؤلؤة والبحار والسنبوك - أو بتضخيم أسطورة - الإسطرلاب - العربي وكلنا يعرف أن قطر ليست حتى في مسمار منه. مساء البارحة فتشت عن الإنسان القطري في الأفكار والإبداع والمشاركة مثلما تفعل كل عواصم الأولمبياد مع أهلها فلم أجد القطري إلا زوجا في كراسي احتفال الزواج أو حامل أعلام في اللوحة الأولى للإنتاج أو فارسا يوقد الشعلة.
باختصار، استوردت قطر كل الفكرة برمتها بالمال ويقال إنها دفعت قرابة ثلاثة مليارات من الريالات من أجل كوادر وأفكار وعقول وصناعة الحدث الاستثنائي. بالمال تستطيع أن تستورد ما شئت ولكنك أغفلت الجانب الأساسي من الحدث: إنسانك وعقلك وفكرتك وتاريخك وتراثك وصناعتك، فبالمال أيضاً تستطيع طشقند وبيداوا وصنعاء ونجامينا أن تصنع نفس الاحتفال وأن تستورد الشركات والأجهزة والأفكار وطواقم الرقص وحناجر المطربين وألبسة المستعرضين وكل الليلة من الألف إلى الياء ولكن: أين ابن البلد الذي بنى طوبة في الميادين والملاعب أو صنع شمعة أو استعرض قصة أو ركَّب جهازاً أو خلق فكرة أو نافس بالمولد والنشأة على لعبة أو نظم مسيرة أو علَّق على فقرة أو حرَّك كاميرا أو ابتكر لباساً أو أطلق لعبة نارية أو شدا بفقرة أو رقص في استعراض أو استعرض تراثاً وتاريخاً ذا قيمة عولمية، أو، أو، أو، من بقية الحدث الأولمبي الذي تتسابق إليه شعوب الأرض كي تقول في نهايته هانحن هنا صناعة وطنية إنسانية خالصة؟ هنا تحولت رسالة قطر مساء ما قبل البارحة إلى جواب من صفر مكعب لأن من السهولة بمكان أن تحشد الشعب في المدرجات وهم يحملون بأيديهم المصابيح المستوردة وتترك الميدان بكل خيلائه وإبهاره لبقية الشعوب كي تظهر مفاتن الشعب وتختلق له ثقافة وتاريخاً ودعاية زائفة. هنا ينسف نصف الكوب الفارغ نصفه الآخر المليان وهنا تتحول الدعاية الإعلامية الجبارة إلى دعاية معاكسة لأن الدنيا تذهب إلى عواصم الأولمبياد لتكتشف حضارة شعب، وعمق تراث شعب وتاريخ شعب وصناعة شعب وسكان شعب وهذا بامتياز مالا تستطيع الدوحة أن تفعله أو تقنع به كل الشعوب التي تفرجت بالأمس على فكرة مستوردة لمهرجان مستورد.