أحداث كليّة اليمامة: من أمِن العقوبة أساء الأدب
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على إنستجرام
إضغط هنا للإشتراك
الإثنين04 ديسمبر2006
عبدالله بن بجاد العتيبي
"ضرب" و"تحطيم" و"هجوم" و"تكسير"، كل هذه المفردات المتوحشة والعنيفة كانت حاضرة بكل قسوتها وهمجيتها ولاإنسانيتها في أحداث الشغب العنيفة في كليّة اليمامة بالرياض، وتحديداً خلال عرض مسرحية: "وسطي بلا وسطية".
تسامع الناس بهذا الشغب وتناقلوا أخباره وصوره، واختلفوا في بعض أحداثه وجزئياته، لكِنْ الأكثرون اتفقوا على همجيته وتخلّفه، والأخطر من هذا كله هو الرسالة التي يبعث بها مثل هذا الحدث، رسالة تحاول أن تقول: إن الدولة والمجتمع أسرى في شرنقة المتطرفين البائسة.
دعونا نرجع القهقرى قليلاً لأشهر وأعوام مضت ليتضح لنا أن مثل هذه الحادثة تتكرر باستمرار، منذ أزمة الخليج الثانية وغزو العراق للكويت وقبل ذلك وبعده، وأحياناً تتكرر بنفس الشخوص ونفس القيادات. في شهر فبراير الماضي كان هناك ندوات ثقافية مصاحبة لمعرض الكتاب، وقد دعي إليها عدد من المثقفين السعوديين، ولم تنتهِ على خير حينذاك لأن بعض المغرر بهم من "الإرهابيين إلا ربع" جمعوا جمعهم وأتوا صفّاً واحداً لإفساد الندوة وقد فعلوا وكان لهم ما أرادوا، ولم يكتفوا بذلك بل تعرضوا بالإهانات والتجريح لرموز ثقافية سعودية كبيرة، وسلموا حينها من العقوبة الرادعة فاعتبروا ذلك ضوءاً أخضر ليواصلوا هجماتهم "المباركة". زعموا على كل من يخالفهم رأياً أو يرفض الانضواء تحت عباءتهم الضيقة وفكرهم المنغلق.
دعونا لا ننسى أن أحداثاً مشابهة لهذه قد وقعت في الماضي القريب وليس البعيد، والقصة ذاتها تتكرر بنفس السيناريو المخزي، تبدأ القصة بحملات تحريض منظّمة في الإنترنت والمساجد والمدارس والدروس الدينية الخاصّة، وتوزّع الفتاوى المحرّضة وتطبع المنشورات ويتحدث المتحمسون في الكاسيتات ويتناقلونها بينهم حتى يبلغ الحماس أوجه لدى الشريحة الشبابية المتدينة التي يستهدفها مثل هذا الخطاب، وعندئذ يتمّ اختيار نقطة مواجهة يفرّغ فيها الشباب المتحمس حماسته على خصوم يخلقها لهم قياداتهم ويقنعونهم بعدائها. كانت هذه النقطة هذه المرة في كلية اليمامة وقبلها في الندوات المقامة على هامش معرض الكتاب، وقبلها بسبب بعض القرارات الإدارية، كقرار دمج الرئاسة العامة لتعليم البنات مع وزارة التعليم، وقبلها أمثلة أخرى مشابهة وهي كثيرة جداً، أكثرها في الرياض وبعضها في القصيم وبعضها في منطقة عسير وغير ذلك.
الملاحظ أنه بعد كل حالة من حالات الشغب هذه يبتلى المجتمع بجماعات عنفٍ تفجِّر وتخرِّب وتقتل وتدمِّر، وبعض قيادات هذا الشغب تلتحق علناً بجماعات العنف الديني، وليس عنا ببعيد مشاركة عبدالله الرّشود العضو في "تنظيم القاعدة في جزيرة العرب" في كثير من الهيجان والشغب والتظاهر الذي أعقب قرار الدمج سالف الذكر، ثم التحق بعده مباشرة بتنظيم "القاعدة"، ومثله أحمد الدخيل وآخرون.
إن اللعب باستقرار المجتمع ومحاولة زعزعته ونشر الفوضى فيه خطوة أولى يقيمها "الإرهابيون إلا ربع" جسراً للوصول بالمجتمع إلى العنف والتفجير والقتل. فزعزعة الاستقرار ونشر الفوضى عبر أحداث شغب كهذه التي جرت في كلية اليمامة، تمنح الإرهابيين إلا ربعاً مكاسب كبيرة، أهمها أن يكسروا هيبة الدولة في نفوس أتباعهم، وينشروا الرعب منهم لدى مخالفيهم الذين سيخشون مخالفتهم لأنهم يعتدون بالضرب والتكسير والتحطيم ويزعمون أن بقية شرائح المجتمع عليها أن تلعق جراحها وتلتزم الصمت!
لو علم هؤلاء الطائشون بسكرة التطرف الفكري، والراكضون بقوّة نحو التطرف المادي، لو علموا جميعاً أن للسلطان يداً قويّة وعيناً متنبهة وعقاباً قاسياً لكل مُخلٍّ بالأمن ناشِر للشغب والفوضى، لو علموا هذا بشكل عملي ومباشر لما فعلوا ما فعلوا ولما تجرأوا على تلويث سمعة مجتمعنا بمثل هذه التصرفات الحمقاء واللامسؤولة، ولكن قديماً قيل: من أمِن العقوبة أساء الأدب!
إن لم ينل هؤلاء المخربون جزاء رادعاً فإن أكبر المصائب لم تقع بعد، والمستقبل مؤذن بظلام دامس وسيطرة للأصوليين على المجتمع وفعالياته وقدراته، وتمكينهم من ذلك كسر لهيبة الدولة وسلطانها، وتحطيم لقوّتها واطمئنانها، وسيعودون للفتنة والشغب في كل عام مرة أو مرتين، حتى يصلوا لمبتغاهم ويتسلموا زمام السلطة بأيديهم كما هي أهدافهم التي يروّجها كبراؤهم في كل حين.
ليست قضيتي هنا قضية تحريض، بل قضية أمن وطن بأكمله، يريد بعض متطرفيه أن يحرقوا أخضره قبل يابسه، مرةً باسم الله، ومرةً باسم محاربة العلمانية، ومرةً باسم الرد على أهل الفساد والردّة، وما علمنا أن ردودهم على مخالفيهم حين تعييهم الحيلة لا تكون بالكلام بل بالكراسي والأيدي وما تيسر من العصي، في مرحلة أولى، لا تلبث أن تلحقها مرحلة المسدسات والتفجيرات والاغتيالات إن لم يتدارك عقلاء الوطن وطنهم، ويضربوا بيدٍ من حديد كل من يسعى في الأرض فساداً وتخريباً مهما تزيّى بزي الصلاح ولبس مسوح الضأن.
ألا يتساءل عاقل عن أسماء من قادوا هذا الشغب وسحبوا هذه الجموع من الشباب المتحمِّس الذي أعشت عينيه خطابات دينية صبها عليه دعاة معروفون بأسمائهم وأعمالهم وشخصياتهم؟ ألا يراجع عاقل تاريخ هؤلاء الدعاة؟ ألم يجلد بعضهم في الحدّ الشرعي في قضيّة قذف لبعض المُحصنات قبل سنوات؟ ألم يوقِّع بعضهم البيانات المتطرِّفة والتكفيرية مع بعض رموز "تنظيم القاعدة في جزيرة العرب"؟ لمَ لا يعاقب هؤلاء ويؤخذ على أيديهم حتى يرعووا عن غيهم الذي يحسبونه رشداً وضلالهم الذي يظنونه هدىً؟
لنتخيّل فقط مجرد خيال أن هذا الأمر استمرّ، وقام الفريق الآخر بالعمل نفسه، وحشد كل فريق من لديه من الأتباع وبدأ تخريب الندوات وتخريب المساجد وتخريب خطب الجمعة، هؤلاء يخربون هنا وأولئك يخربون هناك، ومن لا يستطيع الدفاع عن نفسه بيده لضعفه أو قلة عدده، سيضطر لاستخدام السلاح للدفاع عن نفسه، وعندها ستقع الكارثة الكبرى التي نرجو ألا نصل إليها، وتعم الفوضى ويصبح قانون الغاب هو حاكم المجتمع.
لم يتجمع هؤلاء الأشخاص في كليّة اليمامة صدفة، بل خطّطوا لذلك وأجمعوا أمرهم بليل أظلم، والواجب الآن هو تتبع هذا التخطيط وهذا التنظيم، من يقف وراءه؟ ومن يقوده؟ وما هي آليات الحشد والجمع التي يتبعونها؟
يجب الحذر من أن هذه الآليات قد تتحوّل بسهولة إلى آليات تستخدم لترويج العنف والقيام بالعمليات المسلّحة، خصوصاً أنها آليات تجرّب مراراً وتكراراً دون أن يكون على أحد تبعة أو مساءلة، ونحن نعلم أن كثيراً من أعضاء "القاعدة" استفادوا بشكل كبير من هكذا آليات فيما مضى، وما المانع اليوم أن يتكرر ذات السيناريو وتعود نفس القصة؟
إن معظم النار من مستصْغر الشرر، والسيل العارم يبتدئ بقطرات، وإني لأقول كما قال نصر بن سيَّار يوماً لبني أميّة:
أرى خِلل الرَّماد وميضَ جمْرٍ ويوشك أن يكون لهُ ضِرامُ
فإنَّ النارَ بالعُودَيْن تُذْكـَــى وإنَّ الحرْبَ مبْدؤُها كلامُ.