غزة ودارفور
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على تويتر
إضغط هنا للإشتراك
الثلاثاء 05 ديسمبر2006
الكسندر كوكبيرن ـ كاونتر بانش
تستهوي دارفور في الشطر الغربي من السودان الصحافيين ومحرري الأخبار الأمريكان باعتبارها منطقة سفك دماء على نطاق واسع وأعمال عنف لاتزال تجري يومياً. والأمريكيون ليسوا هم من يقترف أعمال القتل هذه ولا يدفعون الأجر للآخرين كي يقوموا بهذا، لذا فليس ثمة من حاجة للتهوين من شناعة المذبحة التي تدور رحاها هناك ببخ رشات من الرذاذ المعهود بقولهم ldquo;مزاعمrdquo; فليس هناك أي مخاطرة سياسية هنا في الجهر ورفع الصوت والتعبير عن الرأي بشأن ما يجري في دارفور. ناهيك عن أن الأزمة في دارفور متألقة الأضواء بصورة تبهر الأنظار وتسترعي كل انتباه فهي المادة المثلى للتغطية الصحافية.
وللتذكير فحسب، فإنه عندما اندفعت عصابات الرينامو، مدعومة برونالد ريجان ونظام الفصل العنصري في جنوب افريقيا بهوس وحشي وراحت ترتكب مجازر مروعة بحق الفلاحين البسطاء من أهل موزمبيق كانت القصص الخبرية شحيحة واللهجة متلعثمة مترددة عادة في أي مناسبة لإلقاء اللوم، وأما بالنسبة لدارفور فالأمر جد مختلف إذ يصطبغ التعبير عن السخط الأخلاقي الذي تطفح به افتتاحيات الصحف بالشدة والغلظة والعنف الذي تتسم به المواعظ التي تقيم النكير على المجازر العرقية التي لا يتورط فيها الأقوام بيض البشرة، ولا سيما حكومة الولايات المتحدة بشكل جلي.
وأما الآن فغزة حكاية أخرى مختلفة تماماً، فللرأي العام الأمريكي، إضافة لحكومة الولايات المتحدة هيمنة هائلة على ما يحدث هناك. وrdquo;إسرائيلrdquo;، حليف أمريكا الرئيسي في الشرق الأوسط هي التي ترتكب يومياً وبدعم أمريكي كامل فظائع مروعة بحق المدنيين الفلسطينيين. وكتابة تقارير تخوض ولو بقدر طفيف من التفصيل في وصف وعرض ما يجري في غزة من شنيع الانتهاكات تعني اتهام الولايات المتحدة بالتواطؤ النشط التام، والمقصود في اقتراف جرائم تقشعر لها الأبدان ضد السكان المدنيين من قبل جنود ldquo;إسرائيلrdquo; التي تقوم وبشكل منهجي بتدمير المجتمع الفلسطيني هناك والذي يبلغ تعداده نحو 1،5 مليون نسمة وتحويل هذه المنطقة إلى يباب.
ولم يفاجئني البتة أن كان هناك تصاعد مذهل في الاهتمام بشأن دارفور في ذات الوقت الذي حدث فيه هجوم كرم سالم وأسر الجندي جلعاد شاليت في غزة في يونيو/حزيران من هذا العام. وفيما شقت حملة ldquo;إسرائيلrdquo; لتدمير لبنان طريقها خلال هذا الصيف (وهي حملة ترتبط ارتباطاً وثيقاً ومعقداً بالقضية الفلسطينية)، كان موضوع دارفور لاتزال تتصاعد سخونته ويزداد تسليط الأضواء عليه لصرف الأنظار عن القضايا الأهم.
لن يزحف جند ldquo;إسرائيلrdquo; على غزة ويزجوا بكل السكان من أهلها في شاحنات ليطردوهم خارج ديارهم. وتتلخص مهمة هؤلاء الجنود في تحويل هذا المكان إلى جحيم وإلى مكب نفايات وجعل السكان عاطلين عن العمل معدمين يمسك القنوط والبؤس بتلابيبهم ويدفعهم إلى الرحيل دفعاً. ولن يفعل وقف إطلاق النار الحالي شيئاً لتخفيف وطأة الحصار المضروب مادياً ومالياً واقتصادياً وتجارياً من قبل ldquo;إسرائيلrdquo; والولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي. لقد حكمت ldquo;إسرائيلrdquo; والمتواطئون معها على سكان غزة بأن يعيشوا حياة أشنع من الموت في ظروف معيشية يشيب لهولها الولدان، في حين تواصل القتل اليومي الجسدي والفعلي بحق من تنعتهم بrdquo;الإرهابيينrdquo;، وأولئك الذين يسوقهم سوء الطالع لأن يكونوا هناك في موقع الحدث عند خط النار، حيث عمليات الاغتيال البشعة كتلك التي طالت عائلة كاملة في بيت حانون، أو المعلمة في المدرسة بجوار الحافلة المدرسية التي كانت تغص بصغار التلاميذ (نجوا بأعجوبة).
وكما كان جدعون ليفي قد كتب في واحد من تقاريره الكثيرة اللافحة في صحيفة ldquo;هآرتسrdquo; أوائل الخريف فإن الجيش ldquo;الإسرائيليrdquo; كان يعيث فساداً وتدميراً في أنحاء غزة، وليس ثمة من كلمة أخرى تصف هذا الهياج الوحشي الذي يبتغي تخريب كل شيء، حيث كان يسرف في القتل وتهديم البيوت والقصف العشوائي وإطلاق قذائف الدبابات والصواريخ دون تمييز. وعندما كان آفي باتريك هناك في سبتمبر/أيلول كتب تقريراً نشرته صحيفة ldquo;الاندبندنتrdquo; جاء فيه أن القوات ldquo;الإسرائيليةrdquo; والدبابات تأتي وتذهب وتصول وتجول كما تشاء وبلا أي رادع. وفي منطقة الشجاعية الشمالية احتلت هذه القوات عدة منازل الأسبوع الماضي ومكثت هناك خمسة أيام، وإلى أن انسحبوا كانوا قد قتلوا 22 فلسطينياً ودمروا ثلاثة منازل والعديد من حقول الزيتون وبساتين الحمضيات والليمون. وقال فؤاد التوبة، وهو مزارع يناهز الواحدة والستين من عمره ويملك مزرعة هنا: ldquo;حتى لقد دمروا 22 خلية نحل كانت لي وقتلوا أربعة خرفانrdquo;، ووصف ولده باهر التوبة كيف احتجزه الجنود ldquo;الاسرائيليونrdquo; لمدة خمسة أيام هو وأقاربه في غرفة واحدة في منزله، ولم يتمكنوا من البقاء على قيد الحياة إلا بشرب الماء فقط من بركة اسماك. وقال باهر: ldquo;اتخذ القناصة ldquo;الاسرائيليونrdquo; مواقع لهم في النوافذ وراحوا يطلقون النار على أي شخص يمر من هناك وعلى أي جسم يتحرك يرونه في الجوار. وقتلوا أحد جيراننا يدعى فتحي أبوقمبز، وكان في السادسة والخمسين من عمره، وكان قد خرج لتوه يستقي شربة ماء بعد أن أحرق العطش جوفهrdquo;.
وكتب باتريك يقول: ldquo;أشد ما يصيب الفلسطينيين بالفزع صوت شخص مجهول يهاتفهم على الخلوي ليقول لهم إن أمامهم نصف ساعة بالضبط لمغادرة المنزل قبل أن تقصفه الصواريخ أو القنابل. وهذا حكم لا رجعة فيه ولا استئناف ولا تنفع معه المناشدة أو التوسلrdquo;.
لقد دمر ldquo;الاسرائيليونrdquo; حتى الآن 70% من بيارات البرتقال وقسماً كبيراً من بساتين الزيتون، وحالوا بين الصيادين وركوب قواربهم وابتغاء رزقهم، ودمروا محطات الكهرباء المركزية. وخسر أكثر من نصف السكان موارد رزقهم ومصادر دخلهم فصاروا عاطلين عن العمل، وهبط مستوى الدخل الفردي إلى ما دون الدولارين يومياً.
وكانت جنيفر لوينشتاين، وهي أحد أعمدة برنامج الدراسات الشرق أوسطية في جامعة ويسكونسين في ماديسون قد زارت غزة مرات كثيرة وكتبت بقوة عنها على موقع الكاونتربانش، وكتبت إليّ هذا الأسبوع تقول: ldquo;وكذلك لو أن الناس تلقوا معلومات حقيقية عن غزة لأصيبوا بهلع لا يوصف. وهذا هو بالطبع السر في أنهم لا تتاح لهم معلومات حقيقية تجيء مع الخارجين من غزة. وإضافة إلى ذلك فإنه لو قدر للحصار ldquo;الإسرائيليrdquo;، الذي يتضمن حظر تنقل الناس من وإلى غزة إلا في حدود ضيقة جداً ان ينتهي وتمكن المزيد من الزوار أن يدخلوا غزة حقيقة فلسوف يصعق المزيد من الناس بمن فيهم الصحافيون المستقلون ويروعون ويشعرون بغضب عارم، بل قد تنعقد ألسنتهم فلا يصدقون ما يرونه مما فعلته ldquo;إسرائيلrdquo; بهذا الشعب بدعم من الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي، وما أحدثه جندها من خراب مريع في قطاع الأرض البائس هذا. وهنا أيضاً لا بد أن نشير إلى أن هذا هو السبب في تواصل الحصار ldquo;الإسرائيليrdquo; الذي يحظر تنقل الناس. وفي حين يتاح للدبلوماسيين وموظفي الأمم المتحدة والمسؤولين الدوليين الدخول إلى القطاع، فإن إحجام هؤلاء وأمثالهم عن التفوه بكلمة في وصف ما يشاهدونه بأم أعينهم من فظائع ومن جرائم ترتكب يومياً يوحي بأن معظمهم سيلوذ بالصمت المطبق حتى عندما تتدهور الأوضاع وتسوء الأمور بأبشع مما هي عليه الآن.
وكما كان لوينشتاين قد استنتج فإن الانصياع للقوة لن يبلغ درجة من المكر والأذى والغدر والشر والخبث أعظم مما بلغه إذعان ldquo;إسرائيلrdquo; للقوة اليوم.