مزقوا مبدأ بوش وعودوا إلى قيم أمريكا الحقيقية
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على إنستجرام
إضغط هنا للإشتراك
مارتن وولف
أعلن الناخبون الأمريكيون الآن عن رفضهم الذين كانوا يسعون لفرض الديمقراطية بالقوة في الخارج. ورغم التلاعب في المناطق الانتخابية، إلا أن مزايا المنصب الرسمي والعودة من جديد إلى سياسة الخوف والمنطق السليم كانت لها اليد العليا. صحيح أن جورج بوش لا يزال الرئيس، لكنه أصبح بضاعة سياسية تالفة. وهذا أمر طيب، لأن هناك حاجة ماسة للتغيير.
والسمة الأساسية التي تميز هذه الإدارة ليست عجزها وقلة حيلتها فقط، وإنما تخليها عن المبادئ التي قامت عليها السياسة الخارجية للولايات المتحدة بعد الحرب العالمية الثانية. وبدلاً من ذلك استندت استراتيجية الإدارة على أربع أفكار: أولوية القوة؛ والمحافظة على نظام عالمي أحادي القطب؛ واستخدام القوة بصورة مكشوفة؛ وحق الولايات المتحدة في المبادرة بشن حرب وقائية في غياب تهديدات مباشرة.
وعمل رد الفعل الأمريكي على الهجمات الإرهابية في 11 أيلول (سبتمبر) 2001 على تعزيز سيطرة هذه المبادئ جميعاً. وأصبح مفهوم "الحرب المفتوحة وغير المحدودة على الإرهاب" هو المحور الذي ترتكز عليه السياسة الخارجية للولايات المتحدة. وأدى هذا المفهوم إلى فكرة "محور الشر"، الذي يربط بين عراق صدام حسين، والحكومة الدينية في إيران، وكوريا الشمالية بزعامة كيم جونج ـ إيل. وكان هذا المفهوم السبب في تبرير الحرب على أفغانستان، وكذلك التحول نحو العراق. وأخيراً وليس آخراً، أدت فكرة الحرب على الإرهاب إلى حبس المشتبه في ضلوعهم في نشاطات معادية لمدد غير محدودة ودون إشراف من الجهاز القضائي، والقبول بالتعذيب، وإرسال المشتبه فيهم للتحقيق معهم في بلدان أخرى، واستخدام سجن خليج جوانتانامو الواقع خارج الأرض الأمريكية، وبصورة غير مباشرة التجاوزات في أبو غريب.
وهذا كله بالغ السوء. لكن الذي زاد الطين بلة أن تطبيق هذه السياسات، خصوصاً في العراق، كان يتصف بكثير من جوانب "استخدام المعلومات الاستخبارية القائمة على أسس واهية، والأحكام الخاطئة، والتعصب الأيديولوجي"، على حد تعبير جون إيكنبري الأستاذ في جامعة برنستون، وتشارلز كابكان الأستاذ في جامعة جورج تاون.* ومع ذلك، فإن سوء التطبيق ليس أمراً عارضاً. فالاقتناع بأولوية العمل العسكري أدت بصورة طبيعية إلى نقل المسؤولية إلى وزارة الدفاع؛ والإيمان بجدوى استخدام القوة خلق القناعة بأن النصر يعني السلام والانتقال السريع نحو الديمقراطية؛ وضمن ازدراء الحلفاء غياب التعاون في فترة الاحتلال التي أعقبت الحرب.
ويتعين على الولايات المتحدة أن تبدأ من جديد. وعليها أن تصمم سياسة خارجية تناسب العصر الحالي. وفي سبيل ذلك ينبغي عليها أن تتخلى تقريباً عن كل شيء نادت به إدارة الرئيس بوش.
بادئ ذي بدء أقول إن أهداف السياسة الخارجية تتجاوز كثيراً مجرد العبارة المضللة "الحرب على الإرهاب". إن الإرهابيين الإسلاميين، الذين ينبغي على العالم بالتأكيد أن يقلق منهم، لا يشكلون حتى التهديد الوجودي نفسه الذي كان يمثله التنافس بين القوى العظمى أيام الحرب الباردة. وعلى الدرجة نفسها من الأهمية هناك المحافظة على اقتصاد عالمي مزدهر، وإدارة ظهور القوى العظمى الجديدة، والتنمية الاقتصادية، خصوصاً في العالم الإسلامي، وإدارة أمور الدول المتواضعة العالمية.
ثانياً، القوة العسكرية تتمتع بكفاءة أدنى بكثير مما يرى أنصارها. فالتهديد باستخدام القوة لا يمكن أن يغير سياسات الدول العظمى الأخرى، ولا أثر له إلا في أن يجعلها أكثر ارتياباً في نوايا الولايات المتحدة. وهذا التوجه بالتأكيد يزيد من تصميم الأعداء المحتملين على الحصول على الأسلحة النووية. وكما رأينا في حالة العراق، القوة الهائلة لم تستطع حتى فرض الاستقرار على بلد عدد سكانه 21 مليون نسمة.
ثالثاً، تستند شرعية أمريكا باعتبارها قوة عالمية على قدرة الولايات المتحدة على اكتساب احترام البلدان والشعوب الأخرى. مثلا، لم يكن باستطاعة جيرهارد شرودر الفوز في انتخابات عام 2002 على منصة العداء لأمريكا لو لم تتقوض ثقة الشعب الألماني في الولايات المتحدة. لكن الأهم من ذلك هو أن الحرب على الإرهابيين الجهاديين هي حرب أفكار. ولا يمكن كسبها بالتخويف، لكن بجعل القيم الغربية أكثر جاذبية لمئات الملايين من المسلمين من أفكار المتعصبين الرافضين لها. لذلك، فإن استعداد الإدارة الحالية لاعتبار حكم القانون وكأنه أمر اختياري زاد إلى حد كبير من صعوبة هزيمة أيديولوجية الإرهاب على المدى الطويل.
رابعاً، المؤسسات الدولية متعددة الأطراف لها شأنها. فهي تحول الأمور التي يمكن أن تكون في الأحوال الأخرى صداماً على الهيبة والسلطة، إلى قبول بالقواعد المشتركة للسلوك الحسن. وأهم ما في الأمر هو أنه لا يمكن التعامل مع الكثير من التحديات العالمية إلا من خلال التعاون الطوعي بين القوى الكبرى في العالم، على الأقل. فالمؤسسات المشتركة تجعل التعاون الذي من هذا القبيل أكثر صدقاً واستدامة.
خامساً، التحالفات المتينة لها شأنها. فتحالف الراغبين أثبت أنه تحالف واه. وعلى الأرجح، حتى بريطانيا لن تدع نفسها تُجَرْجَر مرة أخرى في مغامرة شبيهة بمغامرة العراق، بمعنى أن تكون ملتزمة تماماً دون أن يكون لها نفوذ على كيفية تنفيذ السياسة. ومع ذلك تبين عجز الولايات المتحدة عن تحقيق الأمور التي تسعى لتحقيقها دون عون من الآخرين. والتحالفات الثابتة هي بالتأكيد نوع من القيود، لكنها في الوقت نفسه وسيلة لتأمين الالتزامات.
إن السياسة الخارجية للرئيس بوش، وهناك من يرى أنه أسوأ رئيس شهدته الولايات المتحدة منذ أن أصبحت قوة عالمية، وصلت إلى طريق مسدود. والسؤال الكبير هو ما الذي سيحدث الآن. ورغم أنها أدت إلى نتائج كارثية، إلا أن البدائل لا تقل عنها سوءاً. ولذلك، فإن "الواقعية" التي تتسم بتجاهل كامل للقيم الغربية ستكون خطأ فادحاً. والأسوأ منها هو التراجع عن الحرب في العراق إلى نوع من الانعزالية والتحول عن الانفتاح نحو الحمائية.
ومع ذلك، فإنني من المتفائلين. وقد اشتهر عن ونستون تشيرتشل قوله ذات مرة إن "الولايات المتحدة دائماً تفعل الشيء الصحيح، لكن بعد استنفاد جميع البدائل الأخرى". إن العالم لن يقبل بأن تكون أمريكا سيدة عليه، لكنه سيظل مع ذلك يرحب بقيادة أمريكية، شريطة أن تراعي هذه القيادة تماماً مصالح الآخرين، وأن تستند إلى القيم التي عملت أمريكا نفسها على نشرها في العالم.
قبل ثلاثة عقود، حين كانت أمريكا قد خسرت لتوها حرب فيتنام، واضطر الرئيس ريتشارد نيكسون إلى الاستقالة وكان الاقتصاد العالمي في حالة غليان تضخمي، كان مستقبل الغرب في ذلك الحين يبدو مظلماً. لكن بعد ذلك بعقد ونصف اختارت الصين اقتصاد السوق وانهارت الإمبراطورية السوفياتية. لاحظ أن انتصارات الغرب على الشيوعية لم تتحقق باستخدام السلاح، لكن من خلال عوامل الجاذبية التي يمثلها ازدهار الغرب وحريته وديمقراطيته.
لا بد من الصعاب في شؤون السياسة الخارجية. لكن في رأيي هناك نقطة لا تقبل النقاش، وهي أن الولايات المتحدة بحاجة إلى تجديد إيمانها بقيم الحرية، وسيادة القانون، والتعاون العالمي، وهي المبادئ التي بنت عليها نظاماً عالمياً ناجحاً بصورة مذهلة بعد عام 1945. والطريق السليم إلى الأمام لا يمكن أن يمر عبر وجهات النظر التي كانت سائدة خلال القرن التاسع عشر حول السيادة وتوازن القوى، وإنما ينبغي أن تمر عبر قوة مثال الولايات المتحدة وليس عبر قوتها العسكرية، وعبر قدرتها على أن تكون مثالاً يحتذى وليس بإملاء إرادتها من طرف واحد. صانعو السياسة الأمريكية العظام في القرن العشرين استوعبوا ذلك جيداً، وينبغي على خلفائهم أن يظهروا القدر نفسه من الحكمة في القرن الحادي والعشرين.