مستقبل التغير السياسي في الشرق الأوسط
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على تويتر
إضغط هنا للإشتراك
الخميس07 ديسمبر2006
السيد يسين
لا يعني الانسحاب المباشر للولايات المتحدة الأميركية من منطقة الشرق الأوسط بعد تورطها ومأزقها التاريخي في العراق، أنها ستكف أيديها عن التدخل في المنطقة، ومحاولة التأثير على توجهات النظم السياسية الموجودة.
ويرد ذلك إلى سبب بالغ البساطة مؤداه أن الولايات المتحدة الأميركية حتى ولو لم تصبح إمبراطورية كبرى ستحكم العالم إلى الأبد كما كان يطمح أركان إدارة الرئيس بوش من المهووسين إيديولوجياً بأفكار "المحافظين الجدد"، إلا أنها -ولاشك في ذلك- قوة عظمى مؤثرة على مستوى العالم. وهي بهذه الصفة لا يمكن لها أن تتخلى عن التدخل -بصورة أو بأخرى- في الشرق الأوسط. ذلك لأن الشرق الأوسط منطقة استراتيجية محورية تربط بين قارات متعددة، وهو قبل ذلك كله مصدر النفط الأساسي في العالم، والذي لو نضبت آباره فإن الحضارة الصناعية في مشارق الأرض ومغاربها ستنهار كلياً، وخصوصاً في غيبة مصادر بديلة للطاقة، تتسم بسهولة الاستخدام من ناحية والتكلفة المعقولة من ناحية ثانية.
وبغض النظر عن المحاولات الأميركية الخائبة لفرض الديمقراطية على الصورة الأميركية فرضاً على دول الشرق الأوسط، والدول العربية خصوصاً، والتي مورست بعد غزو العراق عسكرياً، فإنه يمكن القول إن القوة العظمى لن تتوقف عن القراءة المستمرة للتغيرات الكبرى والصغرى التي تحدث كل يوم في خريطة الشرق الأوسط. وقراءة الخرائط السياسية لم تعد مهمة سهلة ولا ميسورة كما كان الحال أيام الحرب الباردة. وذلك لأنه في ظل النظام الثنائي القطبية كان العالم مستقراً نسبياً بتأثير الرعب النووي المتبادل، وقسمة العالم إلى عالم أول تقوده الولايات المتحدة الأميركية والدول الغربية الرأسمالية، وعالم ثانٍ يقوده الاتحاد السوفييتي والدول الاشتراكية، وعالم ثالث يتشكل من الدول النامية.
غير أن هذا الاستقرار النسبي في أوضاع العالم سقط بسقوط النظام ثنائي القطبية، وأصبحنا أمام عالم رئيسي تتزعمه الولايات المتحدة الأميركية وباقي العالم، والذي يتشكل من البلاد النامية القديمة، وغيرها من الدول التي تسير في طريق النمو.
ومن هنا حرصت الولايات المتحدة الأميركية على القراءة الدقيقة للتغيرات في بيئة الأمن في الشرق الأوسط، ومفرداتها هي الصراع والاستقرار والتغير السياسي.
ويلفت النظر في هذا المجال تقرير استراتيجي بالغ الأهمية أصدرته مؤسسة "راند" الأميركية والتي تمثل العقل الاستراتيجي الأميركي في هذا الموضوع المهم عام 2004.
والتقرير معد لتقديمه لسلاح الجو الأميركي، ولا ينبغي أن يدهشنا ذلك لأنه الهيئة التي أنشأت مؤسسة "راند" منذ أكثر من خمسين عاماً، قبل أن تتحول إلى مركز شامل للدراسات الاستراتيجية.
والتقرير الأميركي يرصد ابتداء تغير المناخ الإقليمي في الشرق الأوسط عقب نهاية حرب الخليج عام 1991، حيث تصاعدت التهديدات للأمن السياسي. ومن المعروف أن التوترات بين دول المنطقة التي دامت سنين طويلة قد أدت إلى عدم الاستقرار، بل إن هذه التوترات قد أدت في بعض الأحيان إلى حرب مفتوحة، أثرت على الأمن السياسي والاقتصادي مما أدى إلى أزمات إنسانية عديدة.
واليوم يبدو الموقف بالغ الخطورة وخصوصاً بعد انهيار عملية السلام الإسرائيلية- العربية وما تلا ذلك من موجات عنف بالغة ويقصد التقرير -وإن كان لا يصرح بذلك أبداً- موجات الإرهاب الإسرائيلي ضد الشعب الفلسطيني وضروب المقاومة الفلسطينية المختلفة له. كما أن شيوع أسلحة الدمار الشامل قد أدى إلى ازدياد احتمالات الحرب في المنطقة. وأخيراً يمكن القول إن تصدير الشرق الأوسط للإرهاب حول العالم قد أدى إلى الانعزال السياسي والاقتصادي له.
ولعل السؤال الذي ينبغي إثارته هو ما هي مفردات القراءة الاستراتيجية والأميركية للشرق الأوسط في أوضاعه الراهنة؟
اهتمت هذه القراءة بموضوعين أساسيين، هما النتائج السلبية بالنسبة للولايات المتحدة الأميركية التي يمكن أن يسببها لها عدم الاستقرار السياسي في المنطقة. والموضوع الثاني تحديد الاتجاهات البازغة في المنطقة والتي قد تؤدي إلى عدم الاستقرار.
بالنسبة للموضوع الأول هناك إدراك أميركي راسخ مؤداه أنه منذ الهجمات الإرهابية التي وجهت ضد الولايات المتحدة الأميركية في 11 سبتمبر 2001 فإن الشرق الأوسط أصبح يلعب دوراً أكثر محورية بالنسبة لها، مقارنة بالماضي. والولايات المتحدة -كما يرى التقرير- تركز على شركاء في الشرق الأوسط مثل السعودية وقطر لكي تسهم في الحرب ضد الإرهاب، وتشترك في الجهود الرامية لوقف الحصول على أسلحة الدمار الشامل بالنسبة للدول التي تعتبرها الولايات المتحدة -بحسب التعبيرات الرسمية- دولاً مارقة. وفي نظر الأميركيين إن فقدان أي شريك رئيسي نظراً لتغيرات عدائية تطرأ على طبيعة أي نظام سياسي من النظم الحليفة، وكذلك تصاعد موجات العداء ضد السياسات الأميركية، قد يقيد من حركة الولايات المتحدة في محاربة الإرهاب. وقبل ذلك كله فعدم الاستقرار قد يؤدي إلى الخلل في عملية تدفق النفط العربي إلى الولايات المتحدة.
ويمكن القول إن النتائج الرئيسية التي خلص إليها تقرير مؤسسة "راند" أهم من هذه المقدمات السابقة، فيما يتعلق بالتأثير السلبي للاتجاهات البازغة في الشرق الأوسط والتي قد تؤدي إلى عدم الاستقرار مما يهدد المصالح الاستراتيجية للولايات المتحدة الأميركية.
ويلفت النظر منذ البداية أن الولايات المتحدة تراقب بدقة كل التطورات السياسية والاقتصادية والثقافية التي تتفاعل في منطقة الشرق الأوسط مع تركيز بالطبع على الدول العربية.
وفي ضوء هذا الرصد تم استخلاص نتيجة مهمة وهي أن الليبرالية تتقدم ببطء في العالم العربي، والنزوع إلى الديمقراطية سيكون محدوداً.
ودول الشرق الأوسط -في الإدراك الأميركي -تحكمها نظم سياسية سلطوية وغير ديمقراطية. وتمت ملاحظة أن السنوات الأخيرة حاولت فيها هذه النظم بتأثير المطالب الشعبية وبضغط من القوى الخارجية، تخفيف السيطرة الحكومية على وسائل الإعلام ومنابر أخرى للتعبير عن الرأي.
وبعض هذه النظم فتحت بقدر بوابة الليبرالية، وهي السماح بممارسة الحريات العامة مثل حرية التعبير وحرية الاجتماع، في حين أنها حاصرت الاتجاه نحو الديمقراطية، مثل تنمية المؤسسات الديمقراطية وتنظيم انتخابات تشريعية دورية. وهناك نظم أخرى سمحت للمواطنين بأن ينضموا إلى المؤسسات المدنية التي مازالت مربوطة إلى أجهزة الدولة، ولا ترتبط بالقواعد الشعبية.
وخلاصة هذه النتيجة الأساسية أن تجمد الموقف العربي سواء على جبهة الليبرالية أو على الصعيد الديمقراطي، من شأنه في الإدراك الأميركي أن يلحق أضراراً بالسياسة الأميركية.
ويبدو أن هناك سوء إدراك أميركياً راسخاً فيما يتعلق بهذه القضية بالتحديد، وذلك لأسباب متعددة. لعل أهمها أن الشعوب العربية في غالبيتها لا تقبل الضغوط الخارجية على نظمها السياسية حتى ولو كانت تعترض أساساً على بعض توجهات هذه النظم. والسبب الثاني أن السياسات الأميركية المنحرفة في الشرق الأوسط وخاصة في العراق وفلسطين، من بين المعوقات الأساسية لتأسيس الليبرالية والديمقراطية في الوطن العربي.
وعلى ذلك يمكن القول إن النموذج الأميركي للديمقراطية الذي يمثله ما حدث في العراق، يشكل أكبر عقبة تقف دون التحول الديمقراطي الحقيقي. والواقع أن التحليل العميق لسلوك الإمبراطورية الأميركية المتهاوية، سيكشف عن أحد الأسباب الحقيقية لتحول الولايات المتحدة الأميركية بعد نهاية الحرب الباردة، لتصبح هي بذاتها أكبر بؤرة من بؤر تهديد السلام العالمي، هو سيادة التفكير الأحادي لدى نخبتها الحاكمة.
ومن المعروف أن هذه النخبة الحاكمة من أقطاب "المحافظين الجدد" صاغت قبل وصولها للحكم إيديولوجية "القرن الجديد" والتي تؤمن إيماناً قاطعاً بأن أميركا هي محور الكون، وأن الله سبحانه وتعالى قد اختارها لتقود البشرية ليس لحقبة محدودة ولكن إلى أبد الآبدين!
وجدير بالذكر أن هذا التفكير الإمبراطوري الأحادي لم يؤدِّ فقط إلى إشاعة التوتر في النظام الدولي، وإنما أدى إلى تغيير نوعي في طبيعة النظام السياسي الأميركي ذاته، والذي يتحول بالتدريج -بناءً على آراء عدد من ثقات المفكرين الأميركيين- من نظام ديمقراطي إلى نظام سلطوي، أقرب ما يكون إلى نظام فاشي جديد. وهي ظاهرة تستحق تحليلاً ثقافياً متعمقاً.
ويلفت النظر أن الانتقادات التي يوجهها في الوقت الراهن عديد من المفكرين الأميركيين من اتجاهات شتى لا تعبر فقط عن حدود رصد زوال لحظة الأحادية القطبية، أو تحليل أسباب نهاية الإمبراطورية الأميركية، ولكنها تتجاوز ذلك لتمارس نقداً اجتماعياً للآثار السلبية الخطيرة التي ترتبت على سياسة إدارة الرئيس بوش بعد 11 سبتمبر 2001.
ويعني ذلك أن الحرب الأميركية ضد الإرهاب التي أريد منها النيل من الأعداء حقيقيين كانوا أو متوهمين، قد ارتدت إلى صدور الساسة الذين انساقوا إليها بغير تدبر أو تبصر!