حزب الله والصراع على لبنان
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على تويتر
إضغط هنا للإشتراك
رضوان السيد
يُبلغُ التظاهُرُ الاحتجاجيُّ يومه العاشر، أمام السراي الحكومي في بيروت. والمتظاهرون في غالبيتهم الأعظم من أتباع "حزب الله" و"حركة أمل"، يدعمهم بضعة آلافٍ من أعوان الجنرال عون، وأتباع حلفاء سوريا السابقين. أما الهدفُ المعلَنُ للاحتجاج الصاخب فهو كما يقول الجنرال عون وأنصار سوريا: إسقاط حكومة فؤاد السنيورة. في حين يقول نبيه بري وممثلو "حزب الله" إنهم يريدون الحصولَ على الثلث المعطِّل، كما سبق لهم أن طالبوا في الشهرين الأخيرين. وتذهبُ أطرافُ تحالُف 14 آذار، الداعمة لحكومة الرئيس السنيورة إلى أنها لا تستطيعُ الموافقة على الثلث المعطِّل معزولاً عن المسائل الأخرى؛ لأنها موقنةٌ أنّ المعارضة التي يقودُها "حزب الله" إنما تريد شَلَّ الحكومة من أحد طريقين: إما عدم حضور جلسات مجلس الوزراء إذا حصلت على الثلث المعطِّل فلا ينعقدُ المجلس، وإمّا الاستقالةُ إذا حدث خلافٌ في مجلس الوزراء فتسقطُ الحكومةُ، ويحلُّ الفراغ.
وفي مقابل هذا الإصرار من "حزب الله"، لدى الرئيس السنيورة طرحان: في حال معالجة موضوع الحكومة منفردةً يُزادُ عددُ الوزراء للمعارضة إلى 9 أو 10 من 30، ويكون هناك وزيرٌ أو وزيران مُحايدان لا ينسحبان ولا يستقيلان لضمان عدم شلّ الحكومة أو سقوطها. لكنْ إذا أُريدَ معالجةُ كلّ القضايا فالأفضلُ أن يكونَ الحلُّ شاملاً: انتخابات رئاسية مبكّرة، تتلوها حكومة جديدة، يُتَّفَقُ على برنامج لها وقد يكونُ من ضمنه إجراء انتخابات نيابية مبكّرة إذا أمكن التوافُقُ على قانونها، كما تُطالبُ المعارضةُ أيضاً. وما استجابت المعارضةُ حتى الآن لأحد الطرحين؛ في حين تراجع حماسُ أنصار الجنرال عون تراجُعاً كبيراً، وما تزال أصواتُ أنصار سوريا مرتفعة؛ لكنّ أعدادهم ضئيلة. أمّا أنصار 14 آذار والرئيس السنيورة فيزدادون حماساً، ويُقبلون في وفودٍ ضخمةٍ لزيارة السراي والرئيس السنيورة وسعد الحريري.
والواقعُ أنّ تأمُّل المشهد اللبناني وما حوله، يشير إلى أنّ للأزمة اللبنانية المتعاظمة ثلاثة مستويات: المستوى المحلي، والمستوى الإقليمي، والمستوى الإقليمي/ الدولي.
في المستوى المحلّي هناك الصراعُ على المسيحيين. إذ إنّ السوريين كانوا قد همَّشوهُم بعد الطائف، في مجلس النواب، ومجلس الوزراء. وكان المنتظر بعد الجلاء السوري عام 2005 أنّ يشكّلوا فريقاً ثالثاً قوياً في حضوره وتأثيره. لكنّ الذي حدث أنّ رئيس الجمهورية ظلَّ على ولائه لسوريا التي أتت به، والجنرال عون تحالف مع "حزب الله"، بينما تحالف المسيحيون المتجمعون في قُرنة شهوان في ظل البطرك الماروني مع تيار المستقبل. و"حزب الله" الآن، يريد أن يُدخِلَ الجنرال عون إلى الحكومة عبر 4 أو 5 وزراء، كما أنه يرشّحه لرئاسة الجمهورية. وإذا نجح في ذلك أو بعضه ضَمِنَ السيطرة الكاملة على المسيحيين للأعوام المقبلة، وضمن بذلك عدم البحث في سلاحه، وعدم مفاتحته بشأن تحالُفاته مع سوريا. بينما يرجو فريق 14 آذار -وبمساعدة البطرك الماروني- أن يستطيع كسْبَ الغالبية المسيحية إلى جانبه، بحيث يجري اختيار رئيس للجمهورية إن لم يكن من حلفائهم؛ فعلى الأقلّ مُحايد وليس بيد سوريا و"حزب الله" مثل الجنرال لحود أو عون. وعلى هذا المستوى بالذات ما تزحزح أحدٌ عن موقفه. فقد شكا البطرك من ازدياد الانقسام المسيحي، وسخر منه سليمان فرنجية الحليف المعروف للنظام السوري، وتحداه الجنرال عون. وما بدا أنّ تحرك الرئيس الجميل باتجاه الطرف الآخر قد أنتج شيئاً.
أما المستوى الإقليمي من الصراع، فيعني العلاقة بين سوريا ولبنان. وهي علاقةٌ شائكةٌ وشائكةٌ جداً. فالنظام السوري يشعر بمرارةٍ شديدةٍ لمغادرته لبنان شبه مطرود، ولتهديد حبل المحكمة الدولية بالالتفاف من حول عنقه. وقد حاول زعزعة الاستقرار بلبنان بكلّ سبيل: من طريق الاغتيالات السياسية، ومن طريق تسريب السلاح والمسلَّحين إلى لبنان تارةً تحت اسم "فتح الانتفاضة"، وطوراً تحت اسم أحمد جبريل، وأخيراً تحت اسم "القاعدة" أو "فتح الإسلامية". وقد استطاعت الحكومة اللبنانية السير خطواتٍ في مواجهة التحدي السوري. مضت في التحقيق الدولي وصولاً إلى مسوَّدة مشروع المحكمة المعرقلة الآن بين المؤسسات الدستورية اللبنانية- واستطاعت أن تنتزع من هيئة الحوار الوطني الأول إجماعاً على المحكمة، وعلى العلاقات الدبلوماسية مع سوريا، وعلى تحديد حدود مزارع شبعا. بيد أنّ شيئاً من ذلك لم يُنفَّذْ لتراجُع "حزب الله" و"حركة أمل" عن تلك الإجماعات. وعندما طُرح أخيراً موضوع المحكمة من جديد استقال الوزراء الشيعة كما هو معروف؛ ولكي يمنعوا إقرار المحكمة ولا شيء غير. ولهذا فملفُّ العلاقات اللبنانية/ا لسورية شديد التعقيد، وهو يتعقَّد يوماً بعد يوم. وحلفاءُ سوريا السابقون والحاليون ليسوا قوةً يُحسَبُ لها حساب لولا أن انحاز "حزب الله" و"حركة أمل" إلى سوريا.
ويتعلّق المستوى الإقليمي/ الدولي بالصراع المستجدّ بين الولايات المتحدة وإيران على النووي وعلى ملفاتٍ أُخرى كثيرة. فقد كانت السنوات الخمس الماضية سنوات مهادنة بين أميركا وإيران. وفي تلك السنوات تعاون الطرفان أو لم يتخاصما في أفغانستان كما في العراق. في أفغانستان عمل الشيعة الموالون لإيران (من الهزارة) مع تحالف الشمال الذي زحف مع الولايات المتحدة لإسقاط حكومة "طالبان". بل ودخلت من حدود إيران مع أفغانستان بعض الإمدادات للأميركيين. وفي العراق، دخلت المنظمات الشيعية الرئيسية المعارضة آتيةً من طهران، بعد اتفاقٍ مع الأميركيين، إلى العراق بعد الغزو الأميركي، وبسلاحها، وهي اليوم المسيطرة في الحكومة ومجلس النواب. وفي الفترة نفسها، كان "حزب الله" بلبنان يُراكِمُ سلاحاً وعتاداً ورجالاً على حدود إسرائيل دون أن تحرّك إسرائيل ساكناً وعلى مدى أكثر من خمس سنوات. كما أنّ النظام السوريَّ الموالي لإيران، كان يجري تحمُّلُه من جانب الولايات المتحدة رغم إزعاجاته لها بالعراق، باعتبار أنه لا يزعج إسرائيل، وأنه يؤدي بعض الخدمات، وأنّ المطلوب ليس تغييره بل تغيير سلوكه. بيد أنّ الغزو الأميركي للعراق بدأ يتجه للفشل منذ عام 2004، وبدأت إيران تُصَعِّد في موضوع النووي، وازدادت الافتراقات بين الطرفين في سوريا ولبنان وبخاصةٍ بعد مقتل رفيق الحريري.
ولذا فقد بدأت الولايات المتحدة تُغيِّر من سياساتها مع بدء ولاية بوش الثانية للنظر في كيفية مواجهة خيبتها بالعراق والتي حدثت بسبب المقاومة السُّنية الشرسة، وسوء الإدارة، وضخامة الجرائم، وهدم الدولة العراقية، ووعد الأكراد بالدولة المستقلّة على حساب وحدة العراق. ومع التغيير في الإدارة الأميركية، والتخلص التدريجي من إدارة "المحافظين الجدد" وأفكارهم، جرى التصعيد أيضاً مع إيران في الملف النووي، واستُعيدت الشراكة مع أوروبا، وتحسنت العلاقات مع روسيا بعد طول جفاء. وكلما ازداد الضغط على إيران في المجالين الإقليمي والدولي، ازداد إحساسُها بالخيانة نتيجة مفارقة الولايات المتحدة للمُهادنة وعهدها. وقد تجلّى ذلك كلامياً ولشهورٍ طويلةٍ في الهجوم الصاعق من جانب الرئيس الإيراني الجديد ضد أميركا وإسرائيل التي ما يزال يصر على إزالتها من الوجود. بيد أنّ التغير الأميركي استمرَّ، فاتجهت إيران من القول للفعل وأثار "حزب الله" الجبهة في جنوب لبنان، وردَّت إسرائيل وأميركا بسرعة بتلك الحرب المدمِّرة ضد "حزب الله"، وضد لبنان. لكنْ نتيجة الموقف العربي الحاسم (للسعودية ودول الخليج ومصر)، والموقف الأوروبي والإسلامي الداعم بقوة، انحفظت الدولة اللبنانية، وحكومة الرئيس السنيورة، ودخل الجيش اللبناني إلى الجنوب للمرة الأولى منذ ثلاثين عاماً، وجاءت القوات الدولية ومعظمها من أوروبا، لتسدّ الجبهة مع إسرائيل. ووجدت إيرانُ نفسَها عاجزةً عن إيذاء الولايات المتحدة إلاّ في العراق. لكنها ما أرادتْ إيذاءَ حلفائها هناك، ولا دَفْع أميركا لمُسالمة السُّنة هناك. كما أنها أرادتْ دعم حليفتها سوريا في وجه المحكمة الدولية؛ فكانت تلك الثورة على حكومة الرئيس السنيورة بعد إعلان السيد خامنئي أنّ المطلوب هزيمة الولايات المتحدة في لبنان!
لقد فشلت الهجمة الجديدة في تحقيق الأهداف المتوخّاة وبخاصةٍ إسقاط الحكومة، وخطاب أمين عام "حزب الله" الأخير دليلٌ على ذلك. لكنها خلقت صعوباتٍ هائلةً لحكومة السنيورة، وللبنان كلّه، ووصل الاحتقانُ بين السُّنة والشيعة إلى درجة الغليان. ولا يمكن الخروج من الأزمة إلاّ بالتوافق، الذي لا يستطيعُهُ الحزب إلاّ بموافقة سوريا وإيران. ولذلك لا مهرب من الحديث بين العرب وإيران عن لبنان وغير لبنان؛ وقبل العراق وبعد العراق، أمّا متى يحدث ذلك، وكيف ؟ لا أحد يدري!