بين «لبنان العراقي» و«العراق اللبناني»
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على تويتر
إضغط هنا للإشتراك
فحيح الحروب الأهلية والفتن المذهبية !
عادل مالك
لفترة مضت ساد التصور أن أعصار التقسيم قد ينطلق من لبنان إلى سائر دول المنطقة. وكانت هذه الفرضية قائمة في غمرة الحروب الأهلية أو ما يعرّف عنها بالتعبير الحركي: "حروب الآخرين على أرض لبنان" على أن تمتد آثار العاصفة إلى بعض الدول العربية ومنها العراق. والذي حدث أن هذا الاعصار التقسيمي بأخطاره ودماره أمعن عبثاً بوحدة العراق ولا يزال، ثم تحول هذا المسار من جديد إلى لبنان، ولهذا السبب تم الربط أو التلازم بين "لبننة العراق" و"عرقنة لبنان".
وللوهلة الأولى لم يحسن العديد من الأطراف التعامل مع هذا الواقع، الأمر الذي أدى إلى نتائج كارثية أخطر ما فيها عامل اللعب أو التلاعب بالصيغ المذهبية والطائفية التي تتألف منها كل ألوان الطيف اللبناني والطيف العراقي.
وفي استعراض خاطف للتطورات التي شهدتها المنطقة والعالم خلال الأسابيع القليلة الماضية يتضح أن الرئيس جورج دبليو بوش أنهالت عليه مجموعة من الأخبار السيئة دفعة واحدة شكلت اختباراً مهماً لمدى قدرته على تحمل الضغوط وكيفية التعاطي معها ومقدار استعداده لإحداث تغييرات جذرية على بعض توجهات سياساته ومواقفه والتي أثبتت التجارب فشلها الذريع والمبدأ القائم على "الحروب الاستباقية". أول الأخبار السيئة تمثل باكتساح الحزب الديموقراطي للكونغرس الأميركي بمجلسي الشيوخ والنواب. والسبب الرئيسي لهذه الخسارة الجسيمة سياسياً أن غالبية الشعب الأميركي أرادت أن توجه إليه رسالة واضحة عبر تصويتها الاعتراضي عن عدم رضاها عن الأخطاء القاتلة للوجود العسكري الأميركي في العراق. وحاول الرئيس بوش الحفاظ على ماء الوجه عندما التقى مع بعض الزعماء الديموقراطيين عارضاً فكرة التعاون ما بين الحزبين في سبيل المصلحة الأميركية العليا.
ثم بدأ خريف رجالات بوش الأقربين يتجلى بسقوط أبرز رجالاته، فكان أول الخارجين وزير الدفاع دونالد رامسفيلد الذي أدى تمسك الرئيس الأميركي به رغم تحذيرات العديد من جنرالات الجيش الأميركي بضروة استبداله الى أن دفع بوش من ممارسات رامسفيلد الخاطئة الكثير من رصيده ودفع العراق ما يعاني منه حالياً.
ثم سقط الرجل الثاني من صقور فريق المحافظين الجدد وهو الشهير جون بولتون المندوب الأميركي في الأمم المتحدة. والذي حدث أن بوش عمد إلى تأمين عملية تسلل لتعيينه في منصبه مستفيداً من الإجازة الصيفية للكونغرس. ولكن هذه المرة لم يكن أمام بولتون سوى الاستقالة دون أن يجعل منه الرئيس الأميركي قضية أو معركة.. خاسرة سلفاً.
أما الأخبار الأكثر سوءاً فكانت في تقرير بيكر ـ هاملتون حول السياسة الأميركية في العراق وكيفية الخروج من المأزق ومن المستنقع العراقي. وفي تقرير، قدم تسعاً وسبعين توصية، حاول أن يسرد بواقعية و "بعقلنة" الأخطاء الأميركية في العراق، وانتهى بيكر وهاملتون إلى مجموعة اقتراحات أبرزها انسحاب القوات الأميركية على مراحل وضرورة التعاطي مع دول جوار العراق، وتحديداً سورية وإيران بأسلوب جديد على أساس التعامل معهما على أنهما جزء من الحل وليس المشكلة كما كان الحال حتى الأمس القريب. وكان من الطبيعي أن يصاب الرئيس بوش بصدمة لدى اطلاعه على هذا التقرير، فهو الوحيد الذي واظب على المكابرة وعدم الاعتراف بالفشل في الممارسات العسكرية الأميركية في العراق سواءً على صعيد التكتيك أو الاستراتيجية فكانت النتائج الكارثية التي نشهد.
وبالعودة قليلاً بالذاكرة إلى الفترة الأولى من قيام الحرب الأميركية ـ البريطانية على العراق، لم يكن في حسابات كثيرين من المنظرين والمعلقين وحتى الخبراء الاستراتيجيين أن الفشل يمكن أن يكون أحد احتمالات هذا التصرف الأميركي. وقيل في حينه أن الفشل الأميركي ممنوع، وان الانتصار هو الخيار الوحيد المطلوب.
وأدى تراكم الأخطاء من قبل الذين تولوا الإدارة الأميركية في بغداد بدءاً من بول بريمير إلى آخرين إلى سلسلة من الخطايا القاتلة كان على الولايات المتحدة أن تتحمل نتائج ممارساتها هذه ليس وحدها فقط بل المنطقة بكاملها.
وضمن اطار الفكاهة السوداء يدور صراع إعلامي عنيف في الداخل الأميركي حول توصيف ما يجري في العراق بأنه حرب أهلية، لكن البيت الأبيض احتج على استخدام هذا التعبير طالباً استخدام تعبير آخر أقل حدة و "أكثر لطافة". حتى طلع الأمين العام للأمم المتحدة كوفي أنان قبل أيام بتصريح قال فيه: "أن الوضع في العراق أسوأ بكثير من الحرب الأهلية". واتبع ذلك في حديث له لهيئة الاذاعة البريطانية بالقول: ان الوضع الذي كان قائماً في عهد صدام حسين كان أفضل مما هو عليه الآن.
وهل يمكن أن يعبر عن الوضع في العراق بمثل هذا الكم من السوء ومع إجراء مثل هذه المقارنة؟
والسؤال الآن: إلى أي مدى سيتبنى الرئيس بوش مما ورد في تقرير بيكر ـ هاملتون؟ خاصة وأنه أعلن على الفور أنه لن يعتمد كل الاقتراحات الواردة فيه.
فهو يريد متابعة سياسة المكابرة على الذات وعدم الاعتراف بالخطأ الماثل للجميع. وفيما يدعوه التقرير إلى فتح حوار مع سورية وإيران ضمن ضوابط معينة، فهو يعلم جيداً أن مثل هذا الحوار وان كتب له أن يحدث فعلياً فقد ينظر إليه من زاوية الغرور الأميركي على أنه ذلك التنازل عن مبادئ معينة ومخالفة اسلوب التعاطي مع بض الدول التي تنتمي إلى "محور الشر" كما اسماها.
واللافت في الأمر أن الرئيس الإيراني محمود احمدي نجاد سارع إلى تقديم عرض لواشنطن بمساعدتها على تخفيف الكثير من حدة وحجم عمليات التأجيج الأمني، وعلى الجانب الأميركي أن يسارع إلى قبول العرض حتى لا تفوته المناسبة!
يضاف إلى ذلك أن ردة الفعل السورية حيال التقرير كانت إيجابية الأمر الذي يرفع عنها بعض الضغوط أو على العكس قد يحمّلها بعض الالتزامات الاضافية إذا ما تم التوافق الأميركي ـ السوري على الانخراط في محادثات حتى لا نستخدم تعبير "الصفقة"، واذا تمكنت سورية من جهة وإيران من جهة أخرى من الحصول على "التزام" الوضع في العراق لجهة ضبط عملية تسلل المقاتلين عبر الحدود، أو لجهة تسوية العلاقات بشكل من الأشكال مع لبنان، حيث يطالب الرئيس بوش دمشق ألا تعمل على إسقاط حكومة الرئيس فؤاد السنيورة.
وفي هذا السياق نبلغ هنا مرحلة التوقف عند نقطة محورية في تسلسل التطورات وترجمة ذلك تعني أن المنطقة قد تشهد العديد من التحولات الدراماتيكية والمتغيرات التي يمكن أن تقلب الكثير من المعادلات التي كانت سائدة حتى الآن.
ويقفز هنا على الفور سؤال اللبنانيين وهذا من حقهم:
هل من احتمال لتوصل واشنطن ودمشق إلى تسوية يمكن ان تكون على حساب لبنان؟
في حساب الدول الكبرى لا قيمة للقيم والأمور كلها تقاس بالأرباح والخسائر والمصالح. ويقول ديبلوماسي أميركي متابع لشؤون الشرق الأوسط لـ "الحياة" في رد على سؤال: "إذا كانت الدولة الكبرى على استعداد لإجراء تعديلات في مواقفها وفي سياساتها وفي توجهاتها فما الذي يمنع لبنان أو غيره من الدول الصغيرة أن يتكيف مع الظروف الاقليمية والدولية"؟ وفي هذه الاجابة أكثر من عبرة.
وفي نقاط رئيسية محددة يبدو المشهد العراقي مع المشهد اللبناني كالتالي:
* ان اصرار المسؤولين في العراق على نفي وقوع حرب أهلية لا يعني عدم وقوع مثل هذا النوع من الحروب
* وفي لبنان يبدو بوضوح يبعث على الخوف وعلى الريبة وكأن فحيح الأفعى التي اخرجت من جحرها وهي تعيث في الوطن تفرقة مذهبية وطائفية. وكان الخطاب الهام الذي القاه السيد حسن نصرالله ليل الخميس الفائت يبعث على الاطمئنان من حيث تأكيده القاطع على عدم السماح بوقوع حرب أهلية، أو نزاعات بين السنة والشيعة. لكن تجاربنا مع الحروب الأهلية عندما يحين موعدها أن ما من أحد يسأل الناس العاديين رأيهم وما إذا كانوا يريدون فعلاً هذا النوع من الحروب أم لا بل ان الأمر الواقع هو الذي يفرض نفسه.
* ان القاسم المشترك بين لبنان والعراق هو نفسه: سورية وإيران كمداخل لحل الأزمات. ومن هذا المنطلق وفي سياق ربط تطورات الداخل اللبناني باطاره الخارجي فان التطورات الاقليمية هي التي ستلعب دوراً بارزاً في مستقبل الأحداث على المدى القريب.
* إن الموضوع اللبناني العام في ضوء ما تشهده ساحات التجمع الشعبي من عصيان مفتوح، يبقى مفتوحاً على كل الاحتمالات. على أن الأمر المؤكد هو أن موضوع تأليف حكومة وطنية لم يعد هو القضية المحورية، بل ان الخطاب الناري للسيد حسن نصرالله الذي كشف فيه عن خفايا بالغة الخطورة حوّل الأنظار عن فكرة تأليف الحكومة وحل عقدة "الثلث المعطّل" إلى أزمة أكثر تعقيداً وخاصة لجهة اتهامه أعضاء في الحكومة بلعب "أدوار تآمرية" خلال حرب تموز (يوليو) الماضي، وهو طالب بتشكيل لجنة تحقيق لبنانية أو عربية للتأكيد على صوابية اتهاماته. والسؤال من أسئلة عديدة: كيف يمكن بعد اليوم تأليف حكومة تضم بين صفوفها من هم متهمون من قبل وزراء آخرين بأخطر التهم؟
* في معرض تعليق نائب الرئيس السوري فاروق الشرع على تقرير بيكر ـ هاملتون تحدث عن الشأن اللبناني قائلاً: ان سورية لا تتدخل في لبنان، ولو أنها كانت موجودة فان ما يحدث في شوارع بيروت لتم حسمه منذ اليوم الأول! وكذلك اعتراف الشرع بأن علاقات سورية متوترة مع المملكة العربية السعودية بسبب أحداث لبنان، وأضاف: "... نأمل الآن أن فترة الهدوء ستأتي". لعل وعسى، لأن كل تقارب عربي ـ عربي له انعكاسات ايجابية على الساحة اللبنانية.
* رغم التطمينات التي قدمت من أكثر من طرف واعتبار الحرب الأهلية ذلك الخط الأحمر الذي لا يمكن تجاوزه، تبقى الخواطر والقلوب قلقة خاصة في "لبنان العراقي" وفي "العراق اللبناني". وعندما يترك للأفاعي أن تعيث في البلاد والعباد نشر السم الزعاف، المطلوب عملية استدراك سريعة قبل فلتان الوضع عن السيطرة.
* ان هزيمة السياسة الأميركية في العراق سيكون لها الكثير من التداعيات وخاصة لجهة قيام دول خط الممانعة باستثمار وتوظيف هذا التطور الهام والبارز. ولفرط كره الرئيس بوش لسماع كلمة فشل فهو أصرّ في مؤتمره الصحافي مع توني بلير على استخدام التعبير التالي على طريقته: "لا نسميه فشلاً لكنه لم يكن نجاحاً بالقدر الذي نريده".
* تبقى الإشارة إلى قرب توجه رئيس الوزراء البريطاني توني بلير إلى المنطقة محاولاً من جديد وقبل أن يغادر منصبه بعد أشهر قليلة إحداث اختراق ولو متواضع في عملية السلام الفلسطينية ـ الإسرائيلية. ومن قبيل الانصاف علينا أن نقول ان بلير سبق له أن فاتح حليفه جورج دبليو بوش بضرورة متابعة عملية السلام في الشرق الأوسط لكن أولويات واشنطن طغت على أولويات لندن.
* جبل الأحقاد والكراهية يعلو مع تبادل المزيد من الاتهامات والشحن والتشنجات والاحتقانات، فهل تعود الأمور إلى الانحسار ليبرز من جديد شعار "لا غالب ولا مغلوب"؟
في لبنان مبدأ ربح كل شيء أو لا شيء لا يستقيم. وإذا حدث وتم التوصل إلى تسوية فهذا يمكن أن يؤسس منذ الآن لأزمة جديدة.
لقد بدأت الأمور بالمحكمة ذات الطابع الدولي، ويخشى أن تنتهي بمحاكمة وطن ذات أبعاد اقليمية ودولية.