جريدة الجرائد

الخطاب التخويني في لبنان... يقود نحو الهاوية

قراؤنا من مستخدمي تويتر
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على تويتر
إضغط هنا للإشتراك

الأربعاء13 ديسمبر2006

د. عبدالحميد الأنصاري

من حق "حزب الله" وحلفائه أن يعارضوا الحكومة اللبنانية، ومن حقهم أن ينسحبوا من الوزارة، ولا حرج إذا رفضوا المحكمة الدولية، ولا بأس إذا لجأوا للشارع للاعتصامات والمسيرات والتظاهرات... ما دام كل ذلك في الإطار القانوني الشرعي. لكن ما ليس مقبولاً ولا مستساغاً ولا مبرراً، لجوء السيد حسن نصرالله إلى "الخطاب التخويني" باتهام الحكومة ورموز قوى (14 آذار) ذات الأكثرية، بالعمالة! لا يمكن القبول أو التسامح مع خطاب التخوين في الحياة السياسية، وهو يمثل سقطة سياسية وأخلاقية ودينية وفكرية، لنختلف ولنعارض ولنرفض ولكن دون تشكيك في الوطنية.
الخطاب التخويني كالخطاب التكفيري، وجهان لعملة رديئة واحدة، وهي نتاج ثقافة إقصائية تدعي تملك الحقيقة المطلقة وتحتكر الدين والوطنية. التكفيري يحتكر الدين حين يتهم المخالفين في عقيدتهم، والتخويني يحتكر الوطنية حين يتهم المخالفين في ولائهم الوطني. إن الاحتكار مذموم في أي شيء، فكيف إذا تحول إلى ثقافة تحتكر الدين والوطنية! إن خطورة احتكار الدين والوطنية عظيمة على ضعف وهشاشة بنية المجتمع، فكما أن انتشار ثقافة التكفير يضعف التحصين الداخلي للمجتمع، بما يعرضه لغزو فيروسات التطرف، فكذلك انتشار ثقافة التخوين، يضعف المناعة الداخلية للمجتمع بما يمهّد للاختراق الخارجي، وهذا ما يفعله السيد نصرالله الآن.
لقد ابتليت الأرض العربية خلال ستينيات القرن الماضي، أبان عنفوان المد الناصري والبعثي- بتهم التخوين للمعارضين سياسياً، وكانت تلك الأنظمة القمعية تتفنّن في إلصاق تهم (أعوان الاستعمار) و(أنصار الغرب) و(عملاء الصهيونية)... بالمعارضة السياسية من منطلق ادعاء الحرص على المصالح الوطنية ومحاربة الاستعمار، وتبين زيف الادعاء وفشل المشروعين الناصري والبعثي في تحقيق أي هدف تنموي أو وحدوي أو تحريري.
وكنا نظن أننا تجاوزنا تلك المرحلة الشمولية البائسة حتى جاءت خطب نصرالله التخوينية، لتذكرنا بها وتعيدنا إليها. الآن يستعير "حزب الله" سلاح الأنظمة الشمولية (التخوين) ضد حكومته الوطنية التي أنقذت رقبته ورقبة أمينه من موت محقق، وكنا نظن أن هذا الحزب الذي بنى سمعته الشعبية على سلاح المقاومة، قد بلغ من النضج السياسي ما يعصمه من هذا المنزلق الخطير، ولكن السيد نصرالله ومنذ مغامرته الكارثية، يتردى ويخطئ في الحسابات! ترى ما الذي حصل لـ"حزب الله"؟ لماذا يسعى لتدمير ذاته وجر الخراب على بلاده بإشعال الفتنة الطائفية؟ لماذا هذا الابتذال في الممارسة السياسية باستخدام سلاح التخوين؟ ألم يكف "حزب الله" ما جرّه على لبنان من دمار وخراب وقتل وتشريد، حتى يسعى الآن إلى حرب داخلية؟!
(التخوين) آفة مرضية ودليل عجز وإفلاس، وقد تخلصت شعوب الأرض جميعاً منها وبقيت في مجتمعاتنا فقط، وأشد المعارضين للرئيس الأميركي والحكومة الأميركية من أمثال: نعوم تشومسكي ومن لف لفّه من بقايا الطفولة اليسارية والملقب (عدو أميركا الأول)، لا يجرؤ أحد على المساس بوطنيته إلا عندنا، فما أسهل اتهام الإنسان في دينه ووطنيته، وتلك هي مأساة الحياة السياسية والثقافية العربية.
الخطاب التخويني هو إفراز لعقلية احتكارية واختزالية وشمولية، كما يقول- الدكتور وحيد عبدالمجيد-، فهي (احتكارية) لأنها تحتكر الوطنية إذ تنفي الوطنية عن الآخرين، وهي (اختزالية) لأنها تختزل العالم في خير وشر ثم تختزل الشر في (الغرب) أو في (أميركا) وتعتبر المخالفين لها امتداداً للغرب وأميركا، وهي (شمولية) لأنها ذات طابع شمولي لا يحفل بقيمة الفرد، تضحي به من أجل الجماعة دون إدراك للعواقب الكارثية!
دعونا -الآن- نتساءل: لماذا يلجأ السيد حسن نصرالله إلى (الخطاب التخويني)؟ وما دلالاته؟ أتصور أن "حزب الله" بعد النتائج الكارثية لمغامرته في يوليو الماض- غير المحسوبة- أصبح (مأزوماً)- وبخاصة- في (مشروعية سلاحه)، فهو لم يستطع حماية لبنان كما كان يدّعي، كما أنه لم يستطع إقناع أحد- غير حزبه وأنصاره- بنصره الإلهي، ووجد- بعد القرار الدولي (1701)- أن سلاحه لا دور له في المقاومة، وقد أصبح محاصراً بين القوات الدولية في الجنوب والحكومة الوطنية في بيروت، فماذا يفعل الحزب بسلاحه وقد حُيّد دوره في الجنوب؟ لابد له من التوجه للداخل اللبناني لكسب مزيد من السلطة والنفوذ ولكنه أقلية مذهبية، فكيف يفرض إرادته على حكومة الأكثرية؟ ألا يوجد غير سلاح (التخوين)!
لقد ضيّع العرب عمراً وبدّدوا ثروات هائلة حين صدقوا دعاوى الثوريين في اتهامهم للأنظمة القائمة بالخيانة، وفي شعاراتهم حول تحرير فلسطين، فما أن وصلوا للحكم ونعموا بالمغانم، حتى بانَ زيف دعاواهم، ثم صدقت مجتمعاتنا شعارات فصائل المقاومة في فلسطين ولبنان، وها هي تلك الفصائل سكرانة بالسلطة، "حماس" تصارع "فتح" على السلطة وهي منشغلة بها، و"حزب الله" منشغل بإسقاط الحكومة عبر تظاهرات هدفها الاستيلاء على الحكم! وهكذا أصبحت المحصلة النهائية للصراع أن (إسرائيل) هي الآن (الأقوى) والأكثر (أمناً)، وكانت تُهم (الخيانة) وشعارات (التحرير) مجرد جواز مرور إلى (السلطة)، وسيتحول سلاح "حزب الله" المقدس إلى (خردة) لا قيمة لها كما يقول (فارس سعيد). ولكن ما الذي سمح لـ"حزب الله" أن يعبث بالساحة اللبنانية عبر الاستعلاء الطائفي؟ وأين ثقافة الحوار الوطني بديلاً عن ثقافة التخوين الإقصائي؟ وأين ثقافة الدولة القومية التي تصهر الاختلافات الطائفية؟
أتصور أن مرد ذلك هو ضعف الموقف العربي وعدم جديته وحزمه تجاه ما يحصل في لبنان، فنحن نسمع تصريحات بأنه لن يُسمح لـ"حزب الله" بزعزعة استقرار لبنان وإسقاط حكومته، ولكن لم نجد موقفاً حازماً وعملاً فاعلاً. إن نجاح "حزب الله" في إسقاط حكومة الأكثرية يعني نجاح الأقلية الطائفية في تقويض سلطة الأكثرية، وهذا له نتائج كارثية على مفهوم الدولة الوطنية وعلى استقرار المجتمعات وعلى إرساء قواعد النظام الديمقراطي وعلى ثقافة التسامح الديني... وعلى عقلاء لبنان والعرب تدارك الوضع، فالعواقب وخيمة.
المفارقات في الحالة اللبنانية عديدة، منها: أنه لأول مرة في الحياة السياسية تتهم الأقلية المعارضة الأكثرية الحاكمة بالخيانة، خلافاً للوضع السائد من اتهام الحكومات للمعارضة بالخيانة. وأنه لأول مرة، تريد الأقلية التي لا تعاني اضطهاداً أو تمييزاً في حقوقها، فرض وصايتها على الأكثرية المتسامحة معها. ومنها: أنه لأول مرة يستخدم سلاح (التخوين) من منطلق طائفي ضد الأكثرية، ومنها: أن "حزب الله" الذي يتهم الحكومة بالاستقواء بالأجنبي، إنما يمهد- بعمله وبخطابه التخويني- للتدخل الخارجي.
وأخيراً، إذا كنا بحاجة إلى تفكيك خطاب التكفير، فإن الحاجة أشد إلى تفكيك خطاب التخوين البائس، الذي يقودنا إلى الهاوية ويفجر المنطقة.

التعليقات

جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف