جريدة الجرائد

إنكار الهولوكوست، والإنكار النووي

قراؤنا من مستخدمي تويتر
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على تويتر
إضغط هنا للإشتراك

الجمعة 15 ديسمبر2006

كليفورد تشانين ـ بروجيكت سنديكيت

تُـرى ما الرابط بين طموحات إيران النووية وبين إنكار وقوع حادثة الهولوكوست "المحرقة"؟

يدافع الرئيس محمود أحمدي نجاد بنفس القدر من الحماس عن حق بلده في تنمية قدراته النووية (مع إنكاره لسعي بلاده إلى تصنيع السلاح النووي) ويتحدى خلاصة عقود من الأبحاث التي أجريت حول حادثة المحرقة. ولكن كيف نحكم على إنكار أحمدي نجاد لاعتزام إيران تصنيع الأسلحة النووية في ضوء إنكاره لحادثة المحرقة؟ كثيراً ما يطرح الصحافيون هذا السؤال عليه، لكنه لا يجيبهم. إن حجته تتلخص في أن إيران لا ترغب في اقتناء السلاح النووي، ولن تستخدمه في مضاعفة جريمة لم تقع.

بعض الغربيين، على الرغم من شجبهم لافتقار أحمدي نجاد إلى الإحساس، يناضلون في سبيل التقليص من أهمية إنكاره لحادثة المحرقة، باعتبار هذا الإنكار مجرد هجوم من جانب متعصب مضلل (وكأن التعصب المضلل قد يكون صفة عرضية في رئيس أي دولة). لكن هذا يجعلنا نخطئ المغزى الحقيقي. ذلك أن إنكار المحرقة لا يشكل مناقشة أو جدالاً بشأن الماضي. بل إنه بمثابة حجة بشأن المستقبل.

المغزى وراء إنكار المحرقة يكمن في رفع الحظر المرتبط الآن بالجريمة الأصلية. فالمشكلة بالنسبة للمنكرين ليست في وقوع حادثة المحرقة من عدم وقوعها، بل في استمرار أغلب الناس في النظر إلى هذه الحادثة باعتبارها أمراً سيئاً. ومن هذا المنطلق يتعين علينا أن نتغاضى عما حدث في مدينة أوشفيتز باعتباره "نقطة تفصيلية في التاريخ"، كما عبر عن ذلك السياسي الفرنسي جون-ماري لوبان.

أكثر ما يسعى إليه منكرو المحرقة هو تفنيد فكرة السماح للجرائم التي ارتكبتها النازية بالتأثير على العلاقات الدولية الحالية أو على المفاهيم العالمية الخاصة بالجوانب الأخلاقية. لقد أعرب أحمدي نجاد عن هذه النقطة مراراً وتكراراً في مقابلاته مع وسائل الإعلام الغربي وفي خطابيه المطولين اللذين أرسلهما إلى رئيس الولايات المتحدة جورج دبليو بوش والمستشارة الألمانية آنجيلا ميركيل. حتى أنه قام ببعض العمليات الحسابية: "لقد مرت ستون عاماً منذ انتهت حادثة المحرقة، أي خمسة أمثال الفترة التي أمضاها الحكم النازي في ألمانيا. وعلى هذا فقد آن الأوان لكي نترك شبح الحرب العالمية الثانية يختفي"، كما كتب إلى ميركيل.

ولا ينبغي أن نندهش حين نعلم أنه كان يفكر آنذاك في إسرائيل. إلا أن هوس أحمدي نجاد بإسرائيل يحجب عنه أي فهم لحقيقة ما حدث في أوروبا أثناء الحرب العالمية الثانية - وأن أوروبا الحالية قد شيدت طيلة العقود الستة التي انقضت منذ ذلك الوقت كرد فعل لهذه المأساة التاريخية. في رسالته إلى ميركيل يوجه خطابه إلى زعيمة الدولة التي خربها الحكم النازي-حيث مات الملايين وتحول المجتمع والاقتصاد إلى حطام وخراب.

لو افترضنا أن ميركيل كانت من الناشطين سياسياً أثناء الحكم النازي، لكان الأمر قد انتهى بها إلى معسكرات الاعتقال. إلا أن أحمدي نجاد يشير إلى استجابة أوروبا إزاء المحرقة سائلاً إياها أن تتخيل "الوضع الذي كانت قد تؤول إليه بعض الدول الأوروبية والدور العالمي الذي كانت قد تلعبه لولا ذلك العبء الثقيل الذي ناء به كاهلها طيلة ستين عاماً".

لا نستطيع أن نقول إن أداء ألمانيا كان سيئاً خلال الستين عاماً الماضية، ولكن تأملوا جوهر هذا "العبء الثقيل": الجهد الرامي إلى تأسيس تعبير سياسي دائم عن المفاهيم الأخلاقية بشأن الخير والشر، والتي حاول النازيون قلبها.

كانت المقدمات السياسية المنطقية لوقوع حادثة المحرقة تقوم على الإنكار- الإنكار المادي لأي فوارق دينية أو عنصرية أو سياسية مشروعة داخل ألمانيا النازية. وكانت الوسيلة إلى إثبات هذا الزعم تتلخص في إبادة الشريحة الآثمة من السكان - واليهود في مقدمة هذه الشريحة - في إطار محاولة شرسة لا تعرف الرحمة لتطهير المجتمع. لقد كان القصد من وراء هذه الجريمة في غاية الطموح، وكان مداها عظيماً إلى حد ابتكار مصطلح جديدة لوصفها، وهو مصطلح "الإبادة العرقية".

لقد لعبت وسائل الإعلام الحديثة أيضاً دوراً كبيراً، حيث بثت صوراً لمعسكرات الموت التي تحولت على الفور إلى رمز لعمق الفساد الذي بلغته النازية. وأصبح التأثير البعيد المدى لحادثة المحرقة موضوعاً لاستكشاف المئات من المؤلفات والأفلام التي صورت النازية كتجسيد مطلق للشر. وفي هذا السياق فإن إنكار حادثة المحرقة يعني رفض ارتباطها الحديث بالشر، ويشير ضمناً إلى أن ما حدث أثناء المحرقة يمكن تكييفه أو احتواؤه في ظل نظام أخلاقي مختلف.

يزعم أحمدي نجاد أن الضغوط الخارجية، وليس الخبرة التاريخية الفعلية للحرب الشاملة، هي السبب وراء استمرار ذكرى المحرقة في الحياة في أوروبا حتى اليوم. إلا أنه لم يدرك أن ذكرى أوشفيتز هي أيضاً ذكرى معركة بريطانيا، وقصف دريسدين، واحتلال باريس، وثورة وارسو. إن حادثة أوشفيتز لم تقع في خواء، بل لقد شكلت الطرف الأقصى لكارثة اشتملت على كل هذه الأحداث الأخرى.

إن لم تكن حادثة المحرقة قد وقعت، أو إن لم يكن لها مغزى، فكيف لنا إذاً أن نفهم بقية التاريخ الأوروبي الحديث؟ إن لم تكن هناك جريمة، فكيف نتهم النازيون بأنهم مجرمون؟

أحمدي نجاد يستشعر القوة التي يستمدها من يعيد كتابة التاريخ. إنه يستمتع بتوبيخ الغرب والاستهزاء به حين ينكر ماضيه. إنه يفهم جيداً إغراءات الشر وغواية النسيان. إن أحمدي نجاد رجل عملي في المقام الأول، ولن يفيده أن تستمر أوروبا على تلك النظرة للتاريخ التي لابد وأن تضعها عند نقطة تقاطع مع إيران.

الهدف وراء خطاب أحمدي نجاد واضح بسيط: فهو يتلخص في البحث عن نقاط الضعف في السلسلة التي تربط أوروبا بماضيها، والتي تربطها من خلال هذا الماضي بإسرائيل والولايات المتحدة. إلا أن الخيارات أمام أوروبا على نفس القدر من الوضوح: إما أن تقبل التحلل من الماضي على النحو الذي يعرضه عليها رئيس إيران، أو أن تقرر ما إذا كان معيار الحقيقة الذي يستخدمه في التعامل مع التاريخ هو ذات المعيار الذي ينطبق على الأسلحة النووية.

كليفورد تشانين مؤسس مشروع التراث، الذي يسعى إلى بناء جمعية عالمية لدراسة العواقب طويلة الأمد للمآسي التاريخية العديدة التي شهدها القرن العشرين.

"الغد"

التعليقات

جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف