حين يكون الفقراء وقوداً لاعتصامات لبنان وحروبه
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال تطبيق تلغرام
إضغط هنا للإشتراك
نقولا زيدان
"الحرب أشد أعداء الفقراء بحكم طبيعتها" (روبسبيير).
lt; قيل في وصف محاولات النظام الروسي القيصري السابق حل مشكلاته الداخلية بالدعوة الى التوسع الخارجي: "اذا خسر القيصر الحرب في الشرق الأقصى فإن الحرب الأهلية ستندلع في الروسيا" (1904)، وهكذا بعد الانتصار الذي يقول "حزب الله" إنه أنجزه في وجه اسرائيل، متجاوزاً الخراب والضحايا والنازحين والمشردين والتداعيات الاقتصادية، أطلقت وسائل إعلام العنان لمقاربة ساذجة لحروبنا مع اسرائيل، واستدار الحزب الى بيروت ليدخل لبنان في أزمة تشبه الى حد كبير أسوأ أزمات الشرق الأوسط.
ويميل البعض الى الاعتقاد بأن "الحزب" أصبح غير قادر على الاستمرار من دون أزمات، إذ قدم نفسه بكل بساطة كمن يعيش على الأزمات ويتغذى منها، أزمات متلاحقة تتخللها من وقت الى آخر حروب صغيرة قد تؤدي إحداها الى حرب شاملة ربما قد تطاول المنطقة العربية بكاملها إن لم يكن ابعد من ذلك.
ولم يعر حزب الله التفاتاً كافياً للأكلاف المالية والمعيشية التي تتطلبها المعركة التي يندفع فيها لإسقاط "حكومة السفير الأميركي" جامعاً في خندق واحد حلفاء وأصدقاء ومؤيدي النظام السوري في الساحة المقابلة للسرايا (مقر الحكومة). ولم يدرك ان الدعم المالي الإيراني غير المحدود والمساندة السورية المطلقة وإن تمكنتا من تغطية المعركة، فإن العواقب الوخيمة ستقود لبنان بأسره الى ما يشبه الهلاك، لأن الحسابات في غرف العمليات المحلية والإقليمية قد تصل الى نهايات غير متوقعة. فالتعويل على استبداد فريق بمصير وطن بأكمله والاعتماد على الانضباط المحكم وامتثال القواعد للأوامر والقرارات، ربما تؤدي الى انتصار في معركة لكن ذلك قد يقود الى حرب لا تعرف احتمالات الربح فيها أو الخسارة.
الخسارة التي يتحمل تبعاتها ومسؤولياتها "حزب الله" هي إدارة ظهره بالكامل للمسألة الاجتماعية أي بالتحديد الخسائر والأضرار والأكلاف الباهظة التي سينوء تحت ثقلها الشعب اللبناني. ذلك ان تبرع النظام الإيراني بالتعويض عن خسائر الحرب الأخيرة (12 تموز/ يوليو) في التلاعب الذكي بعواطف الأنصار والمحازبين، لا يحجب الفاجعة لدى الفئات الشعبية الأكثر فقراً وتعاسة ولا تمحو آثارها حفنة من الدولارات.
وهل في الإمكان مهما برعنا في التلقين والإملاء وإصدار الأوامر، ومهما هيأنا التربة المناسبة والجو المؤاتي، أن نزج بطائفة بأكملها في أتون الحرب الأهلية؟ ثم ما هو مستقبل هؤلاء، وما كمية الأضرار والخسائر، وما عدد الضحايا، وما هي نوعية الحياة التي أعددناها لهم بعد المعركة، ما التأثير النفسي والجراح غير المرئية التي ستحفر عميقاً في نفوسهم؟
في هذا المنعطف المفصلي الذي يقرر مصير لبنان لا بد من المجاهرة بالرأي دفاعاً عن المسألة الاجتماعية، قضية الفقراء والمعوزين وأصحاب الدخل المحدود ممن ليست لهم أي مصلحة في عواقب الصراع الداخلي الراهن، في حمأة الهجمة القاسية التي يقودها "حزب الله" وكل حلفاء النظام السوري ورافعته المالية التي تضخ من طهران لـ "دعم" صحف ومجلات وأقلام ونواد ورابطات فكرية وثقافية وتفريغ ما أمكن في الداخل اللبناني من قوى الرفض والممانعة لعودة اياً كان شكلها للسيطرة السورية.
وإذا كان إسقاط حكومة فؤاد السنيورة هو شعار الهجوم في المرحلة الراهنة وتحويل لبنان الى ساحة مواجهة للقوى المتنازعة الدولية والإقليمية تتمثل بإحداث شرخ عميق بين المعسكرين المحليين، فإن اللجوء الى الشارع وتعطيل الدورة الاقتصادية ودفع البلاد الى شفا الحرب الأهلية، وإكراه الحكومة على استنفار أنصارها ومؤيديها ومحازبيها للدفاع عن النفس، يؤدي بلا أدنى شك الى الاهتراء الاقتصادي والمالي والمعيشي للبنان.
وإذا كان تدفّق الأموال الإيرانية بمقدوره سد أود المتفرغين للعمل السياسي في صفوف "حزب الله" وهم الذين في استطاعتهم تلبية الأوامر القتالية بالسرعة التي تمليها استراتيجية "الحزب" ومواقفه التكتيكية، فإن ذلك لا يمكن ان يغطي كل متطلبات الحياة اليومية والأعباء المعيشية لثلث سكان لبنان من الشيعة.
فالحاجة الى العمل المنتظم والثابت وتغطية أكلاف المعيشة من الإنفاق اليومي العائلي وما يحيط بذلك من إيجارات مساكن وكساء ودواء وطبابة واستشفاء وعناية صحية وبدلات نقل وأكلاف مدرسية يتطلب موازنات ضخمة، فما بالك ببقية شعب لبنان الذي تطاوله الأزمة منذ بداية حرب 12 تموز وما زالت تتصاعد. هؤلاء أنفسهم معنيون بالأزمة العامة ولا يمكن فصلهم عن تأثيرها وتداعياتها. والمرافق العامة ليست حكراً على طائفة دون غيرها، كما أن ريعها ومردودها لا يصب رزقاً وخبزاً في جيوب مذهب واحد. والادعاء بالاتكال على الدعم المالي الخارجي للذهاب بحال الاهتراء الداخلي الى حدوده القصوى مهما كانت الذيول والنتائج والتبعات لن يحل مشكلات الضائقة الاقتصادية والمعيشية في صفوف الشركاء الآخرين من العائلات المذهبية اللبنانية الأخرى. إن هؤلاء سينحون باللائمة على سياسة "حزب الله" في الشأن المعيشي والاقتصادي، ما سينعكس بالتأكيد سلباً على القوى المتحالفة معه.
"حزب الله" الذي راهن خطأ منه على قدرته الفائقة على إنزال مئات الألوف الى الشوارع والاعتصام المفتوح في الساحة الملاصقة للسرايا الحكومية، فاته ان القاعدة الجماهيرية مهما كانت معنوياتها واستعدادها للتضحية ونكران الذات هي محكومة أيضاً بقوانين بشرية سويّة لا يمكن تجاوزها والتغاضي عنها وعدم أخذها في الاعتبار. إذ ليس في إمكان أي حزب قط أن يُبقي قواعده مستنفرة أكثر من ساعات محدودة ويوم واحد بل لأيام فيما يدعي قدرته على إبقائها هكذا الى أسابيع. وعبر التاريخ عانت قوى سياسية من المشكلة نفسها ابتداء بالثورة الفرنسية الكبرى (1789) ومروراً بكومونة باريس (1870) والثورة الروسية وانتهاء بالفيتكونغ (فيتنام). ذلك ان البطون الخاوية والأبدان المنهكة والشحن النفسي والجاهزية المثلى تولد مشكلات ليس في الإمكان حلها بالإيمان وحده والتوجيه الإعلامي التعْبَوي أو بالمثل الثوروية والمواعظ الأخلاقية وقرب تحقيق الانتصار بل حتميته كما كانت تدعي الأحزاب اليسارية. قد يقودنا هذا النقاش الى التعرض الى مسألة الترهّل الثوري وظهور البيروقراطية الحزبية والاسترخاء التنظيمي بل مقاربة مشكلة الثورة داخل الثورة.
سبق لجورج دانتون (1754 - 1794) أن أدرك باكراً أهمية البطون الخاوية التي كانت تجوب ساحات باريس فتجترح المعجزات وقوداً شعبياً هائلاً للثورة، معبأة جاهزة متحركة في كل الاتجاهات تحقق كل الأهداف، فكان يردد بذكائه الماكر: "دعهم يركضون ويهرولون فلا يتوقفون عن ذلك، لأنهم إذا فعلوا فسيرتدون علينا ويمزقوننا اشلاء!". أما روبسبيير (1758 - 1794) ومارا (1743 - 1793) فقد واجها المشكلة أو المسألة الاجتماعية باللجوء الى التدابير الثورية الحازمة كإعلان الحد الأدنى للأجور والحد الأعلى للأسعار والتعليم المدرسي الإلزامي وقمع احتكار المواد الغذائية والسوق السوداء. وأياً كانت النتائج فإن ما يهمنا في الشأن اللبناني هو الغضب الاجتماعي والضائقة المعيشية وحال الاهتراء العامة التي زادت حدتها في الآونة الأخيرة خصوصاً خلال حرب تموز التي لم تكن قط "ثوروية" بل في قراءتنا نعتبرها "انتفاضة مذهبية" استطاعت اكتساب بعض المؤيدين المحدودين في صفوف المذاهب الأخرى، فالوحدة الاجتماعية ما زالت عصية في لبنان غير قادرة ان تتجاوز المنطق المبتذل للتعايش بين الطوائف والعيش المشترك وما الى ذلك في اللغة السياسية الخشبية المفلسة والتي تغلف بأوراق باهتة ازدهار العصبيات الطائفية والمذهبية كظاهرة للتخلف والجهل واستقصاء الموروث حيال العصرنة والحداثة.
من يدرك ان "الأخاء والمساواة والحرية" كشعار للثورة الفرنسية يبقى بلا أي معنى جدي إلا إذا قرأنا سياقه التاريخي والاجتماعي الاقتصادي، فالأخاء كان يعني الوحدة الاجتماعية أما المساواة فكانت تعني التساوي في دفع الضرائب وإلغاء الامتيازات الطبقية، والحرية كانت تعني إلغاء الحواجز بين المناطق والأقاليم والتبادل قبل التمسك بالحريات العامة في التأليف والطباعة والنشر والتعبير.
من دون وحدة اجتماعية تبدو اي انتفاضة بلا مستقبل ولا أفق، لأن سقف النظام الطائفي والمذهبي بقوته وضغوطه قادر على إعادة إنتاج نفسه في كل مرة يتعرض فيها للخطر الجدي فيسحق اي محاولة لتهديد مصالحه الفعلية، فكيف تكون الحالة لو ظلت أي انتفاضة أسيرة مذهب معين أو في أفضل الحالات كتحالف مذاهب كما كرستها العاميات المذهبية في الدساتير التي أنتجتها وأفرزتها في ما بعد عامي 1943 و 1989. ألم يكن هذا تاريخ لبنان حيث تجذرت الطائفية والمذهبية حتى طاولت كل القوى السياسية بما فيها الأحزاب العلمانية واللادينية.
لم يكن مؤنساً على الإطلاق مشاهدة القوميين الاجتماعيين وهم الذين اعتدّوا أكثر من سبعين سنة بعلمانيتهم يحتشدون في المربع المذهبي الثائر غضباً في ساحة رياض الصلح فقد طرحوا علمانيتهم جانباً والتحقوا بمعسكر أحد المذاهب. إلا ان الكارثة الكبرى كانت أشد وأدهى في رؤية العلم الأحمر يرفرف هو بالذات في وسط الجموع المتدفقة الساخطة تحت رايات "حزب الله" وما تبقى من حركة "أمل". (كثيرون من أصحاب الذاكرة التي لا تصدأ تذكروا حسين مروة وحسن حمدان وخليل نعوس ولبيب عبدالصمد وسهيل طويلة وآخرين فبكوا بمرارة الشجعان).
هكذا إذاً تغرق المسألة الاجتماعية تحت أقدام الطوائف والمذاهب ليبقى الفقراء في فقرهم، وكل مسحوق ومضطهد بسبب موقعه الاجتماعي والطبقي في أسفل الهرم الذي تسلق قمته عندنا عتاة العصر الجديد.